الأب الكرملي في حياته الخاصة..كيف كان الكرملي يعيش يومه؟

الأب الكرملي في حياته الخاصة..كيف كان الكرملي يعيش يومه؟

كريم عبد الحسين الفرج
وصف عدد من المؤرخين والباحثين الملامح الشخصية للكرملي فقد قال عنه نجدت فتحي صفوة ما يأتي:”رجل مهذب الطلعة، أسمر اللون، ذا لحية وقورة طغى مبيضها على سوادها، أصلع الرأس، واسع الجبهة، ضخم الهامة واليدين، له عينان هادئتان فيها بريق، وجهه واضح القسمات، وكان على الرغم من مركزه وعمره في حركة دائبة ونشاطٍ عجيب".

فيما ذكر لنا كوركيس عواد ما نصه:"كان الأب الكرملي طيب القلب، لطيف المعشر، نقي السريرة، متواضعاً، عاطفياً، ساذجاً في حياته، يضحك للنكتة من أعماق قلبه، ويعجب بالفكرة الجيدة، ويصغي لكل متحدث صغيراً كان أم كبيراً بنفس الاهتمام... لم يكن للمظاهر الخلابة مكاناً عنده، فلم يكن يحفل بكثير من الأمور التي يوليها العامة شطراً كبيراً من اهتمامهم، لقد كان راهباً كاملاً جمع بين فضيلتي التقوى والعلم".

أكثر من ذلك، فقد تتبع جورج جبوري المنهاج اليومي للكرملي بكل دقة وجاء ما نصه:"إنه كان ينهض من فراشه في الساعة الرابعة فجراً كل يوم ويدخل الكنيسة للصلاة وتقديم (الذبيحة الإلهية). ثم يدخل صومعته ليقرأ الصحف المحلية والأجنبية حتى الساعة السابعة صباحاً، ومن ثم يتناول طعام الفطور وبعد استراحة وجيزة يبدأ عمله المتواصل حتى سماعه صوت جرس الكنيسة مؤذناً وقت الظهر فيترك عمله ليجلس أمام الرهبان على مائدة الطعام ليتناول معهم طعام الغداء فيبقى عليها ساعة من الزمان يجول بين أوانيها ويصول كالأسد الجائع، ناسفاً كل ما عليها، حتى أنه في أكثر الأحيان كانت تخصص له”دجاجتان”واحدة يأكلها ظهراً والأخرى للعشاء، ويعقبها كمية لا بأس بها من الفواكه، ثم ينتهي مع المنتهين ليجتمع بهم في قاعة الاستراحة مدة ساعة يكون لحديثه ونكاته ونوادره خلالها حصة الأسد. وهكذا يعود بعدها للعمل حتى الساعة السابعة مساءً، وكثيراً ما أعتاد أن يجعل له وقت المساء فترة استراحة للمسير.. وكان يتناول في الساعة السابعة مع الرهبان أيضاً ثم يواصل بعده عمله حتى التاسعة أو العاشرة ثم ينام، وكان معدل عمله في اليوم ست عشرة ساعة".
كان رجلاً زاهداً مترفعاً عن كل وظائف الدولة ومناصبها لأنه كان يعدها عرضاً زائلاً، وهو أمرٌ له معانيه الفكرية قبل كل شيء، فالمفكر عليه أن يكون دوماً زاهداً كونه من صفوة المجتمع خصوصاً إذا كان الفكر من طينة الكرملي الذي كان”متسماً بأخلاق العلماء في البحث، لا يستكبر من سؤال علماء عصره أو أن يكتب إليهم يسألهم عن مسألة ما، ولم يتخلَّ عن ذلك على الرغم من شهرته وعلو شأنه، وكان يأخذ بيد الناشئة من المتأدبين والكتاب ويشجعهم ويوليهم شيئاً كثيراً من عطفه وعلمه، والعلم الذي هو نور الله في العقول زاده سمواً في النفس ورقة في الطبع، وجلالاً في السيرة، وكان صادقاً من أجل العلم ويهاجر في طلبه. كل هذه الخصال الحميدة، جعلته وادع النفس، حلو المعشر، لطيف الإشارة، كثير التندر، لم يطق رؤية غلط في مقالة أو كتاب ما، وحتى لوحة إعلانات.

كان دؤوباً على المطالعة والتأليف، يندر أن يخلو كتاب أو جريدة يومية قرأها دون أن نجد عليها تعليقه، وكان الرسم الذي يجري عليه في المطالعة كلما قرأ عبارة بليغة نالت إعجابه، أو لفظاً فصيحاً استصوبه، وضع تحته خطاً أحمر. وإذا وجد غلطة لغوية أو نحوية، أو عبارة مغلوطة، أو ليس من العربية -وما كان أكثر ما كان يجد ذلك- وضع تحتها خطاً أزرق، وقد ذكر نجدت فتحي صفوت ما نصه:"إنه وصله في أحد الأيام صك على أحد المصارف، وفيه عبارة:"أدفعوا لأمر فلان.. أو لحامله مبلغ ثلاثون ديناراً الخ”فما كان منه إلا أن أخرج قلمه من جيب ردائه بغير شعور منه، ووضع تحت العدد (المرفوع) خطاً أزرق، ولما أخذ الصك إلى البنك تردد الموظف في صرف صك تغطيه مثل هذه الخطوط الزرقاء، وسأله عن المقصود بها"،! فأجابه بما يقنعه. وقد سأل لماذا يشير إلى الغلط بالأزرق وقد أصطلح الناس على الإشارة إليه بالأحمر، فقال:"إن العرب تستحسن اللون الأحمر، ولا تقرنه بالقبح ولا بالسوء، فتراهم يعشقون حمرة الورد، ويتغزلون بحمرة الخد، ويلبسون الملابس الحمراء في الأفراح والأعياد، ولذلك فالأجدر أن يتخذ اللون الأحمر علاقة للإعجاب والاستحسان. أما الأزرق فهو اللون الذميم لدى العرب، فهم يقولون”البلاء الأزرق”وهو أيضاً لون عيون الأفرنج الذين حاربوهم وكانوا أعداء لهم طيلة حياتهم، فالأنسب أن يشار إلى الأخطاء به".
على الرغم مما تمتع به من مزايا حسنة لم يسلم في بعض كتاباته وردوده من الاندفاع وراء العاطفة، وقد يبتعد عن المنهجية العلمية أحياناً فينتهي به الأمر إلى المخاشنة، كما أخذ عليه بعضهم عنفه في الجدل والنقاش العلمي والخروج عن حدود المناظرة، هذه الصفة لازمته طوال حياته لم يستطع التخلص منها. وكان شديد الانفعال والتوتر عند سماعه الخطأ، أو قراءته له، يرفض ذلك ويوبخ المخطئ توبيخاً مشيناً وهذه الصفة كثيراً ما جعلته ينزلق في مشاكل مع معاصريه الذين يدانونه في منزلته العلمية، وهو أمر طبيعي، فللحياة قوسيها وللبشر طباعهم.
حدثني جلال الحنفي البغدادي قائلاً:"إن الحياة الداخلية للكرملي ذات طابع متميز ولون خاص على الباحث الالتفاف إلى مظاهرها والتأمل في دواعيها والتفسير الصحيح لمدلولاتها، فقد كان –رحمه الله- بخلاف أقرانه من الرهبان ذا جسم قوي لا تحتاج إليه مهامه، وهو في قوة جسمه يحاكي مصارعاً من المصارعين لا رجلاً أنقطع لخدمة اللغة والبحث والتاريخ". في السياق نفسه قال عبد القادر البراك :"حدثني الشاعر المخضرم عبد الرحمن البناء بأن المرحوم انستاس الكرملي كان يزاول ضرباً من الرياضة البدنية لا يقوى على ممارستها غير”البهلوان”وإلى ما حدثني به الصديق أرجعت قوة قابلية الكرملي إلى التهام الأكل بشراهة ونهم يضرب بها الأمثال".
ومن عادته، إنه كان يجيب على كل رسالة ترد إليه مهما كان المصدر المرسل له، وكان يرد على هذه الرسائل بأوراق معدة للإعلانات اليدوية عن كتبه وآثاره، ويعزو روفائيل بطي هذه الإجابات إلى بخل الكرملي، إلا إن مصطفى جواد يقول: إن ذلك من باب حرصه على رد سائليه بأقرب وقت. وممكن اعتبار الإثنين على صواب ولأنه اراد بذلك كما يقول المثل الشعبي (ضرب عصفورين بحجر) أي اراد ان يطلع سائليه على آخر ما صدر من كتبه وآثاره وأيضاً الرد بأقرب وقت ممكن.. وكذلك لندرة الورق في ذلك الحين. ومن مقابلة مع الباحث رفعت عبد الرزاق قال: حدثني عبد القادر البراك وهو من معاصري الأب الكرملي فقال:”كتبت سنة 1942 رسالة إلى العلامة الكرملي أسأله فيها عن تعريب كلمة (بروليتاريا)، وفي صباح اليوم التالي وصلني رسوله ومعه أجابة سؤالي.

ومثلما أرتبط الأب انستاس بعلاقات مع رجال العلم والأدب، فقد كانت له علاقات صداقة مع عددٍ من كبار الشخصيات الوطنية والعربية، فكانت علاقته طيبة مع الملك فيصل الأول، وفيما بعد مع أبنه الملك غازي، ومع رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون، كذلك مع صالح جبر وزير المعارف ورئيس الوزراء فيما بعد، وغيرهم من كبار المسؤولين في الدولة. كان الأب دائم الحضور في المناسبات الوطنية والعربية، الرسمية والاجتماعية في داخل القطر وخارجه. ومن مآثره مجلس الجمعة الأسبوعي، الذي كان يعقده في صباح كل يوم جمعة من الساعة التاسعة وحتى الثانية عشر ظهراً، كان يحضره العلماء والأدباء والشعراء، يتناقشون موضوعات اللغة والأدب والتاريخ والجغرافية، ويندر أن حل عالم أو أديب أو مستشرق في بغداد دون أن يزور الأب الكرملي ويحضر مجلس الجمعة. مما تجدر الإشارة إليه أن هذا المجلس كان واضعاً لافتة يمنع فيها الحديث عن السياسة والدين، وفقاً لرغبات الأب، الذي كان يخاف السياسة ولا يدخلها الا من باب اللغة او التاريخ في احيان، ويخشى الولوج الى عالم الطوائف حتى لا تتهم رهبانيته”لأعتبارات معروفة”.
إن أطلاع الكرملي على عدد من اللغات وتعمقه في بعضها، ومقابلته بعضها مع بعضها الآخر جعلت منه باحثاً، ومقارناً كبيراً، وكانت حصيلة جهوده هذه عدداً كبيراً من المؤلفات المطبوعة والمخطوطة ومئات المقالات العلمية في شتى صنوف المعرفة. فقد بدأ الأب الكرملي بنشر أول مقالاته عام 1886 في مجلة الصفاء اللبنانية، وكانت بتوقيع المعلم بطرس ميخائيل الماريني.استمر في نشر مقالاته في المجلات والجرائد العربية والأجنبية، حتى بلغ عدد ما نشره عدة مئات. كان من عاداته أن يذيل مقالاته بأسمه الصريح، أو بتواقيع مستعارة، أو بنشرها غفلاً من أسمه الصريح أو توقيعه المستعار. وقد بلغت تواقيعه بأسماء مستعارة 39 توقيعاً.وفي سنة 1911 أصدر مجلة”لغة العرب"، حيث خدمت اللغة العربية، كما إن كثيراً من مقالاتها ترجمت إلى عدد من اللغات الأوربية.
لما أعلنت الحرب العالمية الأولى، اعتقلت السلطات العثمانية الأب انستاس ماري الكرملي، ونفته إلى مدينة قيصري في الأناضول، في الأول من تشرين الثاني 1914، وأغلقت مجلة”لغة العرب"، وكانت التهمة الموجهة إليه هي العمل للقضية العربية، وتحبيب اللغة العربية إلى أهلها عن طريق مجلته ومقالاته التي ينشرها في الصحف العراقية والعربية. كما وجهت إليه تهمة الميل إلى البريطانيين.
عانى الأب الكرملي من آلام النفي مدة أثنين وعشرين شهراً، كان فيها منعزلاً عن العالم، ما عدا الرسائل التي كان ينقلها إليه البريد من أهله والتي تعبر عن الأسى والحزن الذي كان يغمر أسرته نتيجة قلقها على مصيره في المنفى. أفرج عنه، وعاد إلى بغداد في يوم 3 تموز 1916، غير إن العثمانيين أقاموا في الدير الذي كان يقيم فيه مدرسة للزراعة، بعد أن قبضوا على الآباء الكرمليين في 25 تشرين الثاني 1914، دفعوهم إلى ترك الدير، وأجبروهم على مغادرة بغداد من دون أن يأخذوا أي شيء معهم، حتى كتبهم).
بقي الدير لمدة سنة كاملة مدرسة للزراعة، سرق الكثير من خزانة كتبه، التي كانت مليئة بالمؤلفات القيمة بلغاتٍ مختلفة شرقية وغربية، ونوادر من المخطوطات العربية، والمطبوعات الأجنبية، حيث بلغت محتوياتها نحو أحد عشر ألف كتاب، منها ألفــــــان وثلاثمائة
وخمسون تصنيفاً، في خزانة الكتب الشرقية، وأكثر من ثمانية آلاف مجلد قديم، وفي مختلف اللغات في خزانة الكتب الغربية. وقد كانت تملأ خمس غرف في الطابق الثاني من الدير . وفي ليلة السابع من آذار 1917 أحرقها الجنود العثمانيون ونهبوا ما تبقى في خزانتها. بعد أن أشيع أن الجيش البريطاني يهدد مدينة بغداد ويروم الدخول إليها.
الكرملي ومطبعة الأيتام للآباء الكرمليين في بغداد
ذكر الأب الكرملي انه اشترى هذه المطبعة في منتصف عام 1921 عند سفره الى اوربا لهذا الغرض. غير انه لم يحصل على اجازة بتأسيس المطبعة الا في عام 1926، بسبب الأجراءات التي كانت تفرضها الحكومة العراقية آنذاك على تأسيس المطابع. سميت هذه المطبعة باسم (مطبعة الأيتام للآباء الكرمليين المرسلين في بغداد).
كانت مطبعة الأيتام تحت اشراف الأب انستاس، عمل فيها عدد من العمال الذين اوكلت اليهم مهمة ادارة شؤون المطبعة مقابل اجور يومية. قد طبعت هذه المطبعة اعداد مجلة”لغة العرب”بعد استئناف صدورها عام 1926، كما كانت تطبع فيها الكتب والمنشورات الأُخر الصادرة عن دير الآباء الكرمليين.مما ينبغي ذكره ان البلاط الملكي طبع في هذه المطبعة عدداً من الكتب والمنشورات التي تخص البلاط مقابل اجور دفعت الى ادارتها.
اتهمت مطبعة الأيتام للآباء الكرمليين بعدم الألتزام بقانون المطابع، ففي 11 آب 1926 تلقت ادارة المطبعة كتاباً من مديرية المطبوعات طلب منها الألتزام بالقانون المذكور، وارسال نسختين من كل مطبوع الى وزارة الداخلية.على ما يبدو ان ادارة المطبعة لم تلتزم بالتعليمات الصادرة من المديرية المذكورة مما دفع بهذه المديرية الى توجيه انذار اليها بالأغلاق، في حالة عدم ارسال نسختين من كل مطبوع من مطبوعاتها الى وزارة المعارف ومتصرفية لواء بغداد فضلاً عن النسخ المطلوب ارسالها الى وزارة الداخلية.
تحولت مطبعة الأيتام الى مطبعة تجارية بعد توقف مجلة”لغة العرب”عن الصدور، واصبح ابراهيم حمدي، الذي عمل فيها منضداً في السابق، مديراً للمطبعة.
بررت ادارة المجلة لجوءها الى طبع المجلة في عدة مطابع، لا سيما في المدة الواقعة بين سنة 1911-1914، بأن مطابع بغداد في تلك الحقبة لم تكن بمستوى فني جيد، وان حروفها تركية النمط ولا تقبل الحركات عليها، مما استوجب البحث عن مطبعة، تطبع فيها المجلة بصورة جيدة، وهو الأمر الذي اشارت اليه المجلة ما نصه :
(طالما تبرّم وسئم كل من طالع الصحف والمجلات التي لاتزال تطبع في مطابع بغداد لما ان جميع حروفها تركية النمط ولا تقبل شيئاً من الحركات في بعض المواضيــــع اللازم اشـكالها وياءاتها غير منقطة وحين وقوعها في آخر الكلم لا تمتاز عن الألف المقصورة، وحجمها متعب للأنظار وطرازها لايقابل جمال الحروف العربية الحديثة واما الأغلاط المطبعية الفاشية في جميع منشوراتها فحدث عنها ولا حرج...).

عن رسالة (انستاس ماري الكرملي ثقافيا وفكريا)