افتتاح سدة الهندية الاولى في تشرين الاول 1890..سدة (شوندورفر) في الهندية.. كيف أنشئت وكيف انهارت؟!

افتتاح سدة الهندية الاولى في تشرين الاول 1890..سدة (شوندورفر) في الهندية.. كيف أنشئت وكيف انهارت؟!

د. طارق نافع الحمداني
فكرة المشروع
لاتعود فكرة مشروع سدة الهندية الى السنة التي وضع فيها هذا المشروع موضع التنفيذ عام 1889 م، وانما له خلفياته التاريخية اسما وحدثا، فتسمية نهر الهندية (بالهندية) انما تعود لأحد الهنود المسمى آصف الدولة ـ وزير محمد شاه الهندي ـ حيث تبرع لحفر نهر يوصل الماء الى مدينة النجف ابتغاء الثواب والاجر.

وصادف ان تحول الماء الى هذا النهر بسبب انخفاض ارضه عن الارض التي يمر بها الفرات الى مدينة الحلة والديوانية، فانقطع الماء عنهما مدة من الزمن حتى انه انقطع تماما عام 1304 هـ/ 1886م الا في حالة الفيضان. ولما كان لواء الحلة و الديوانية يقعان على النهر الاصلي وان معظم واردات الدولة منهما. قررت الحكومة إقامة سدة على نهر الهندية ليستقيم مجرى الماء.
ومن الجدير بالذكرفأن العمل بهذا المجرى قد تم في اوائل القرن التاسع عشر. ومما يؤيد ذلك ان الرحالة الفارسي الميرزا ابو طالب خان، الذي كان قد غادر بغداد في14 ذي القعدة 1217 هـ / اول اذار 1803 لزيارة الاضرحة المقدسة في كربلاء و النجف قال:
"وبعد ان قمت بواجب الزيارة في كربلاء وبارحتها قاصدا النجف بطريق الحلة فقدمت اليها في اليوم بعينه، وفي هذه المدينة الاخيرة ـ التي هي على مسافة ستة عشر فرسخا رأيت في طريقي قناتين:
الاولى تسمى نهر الحسيني (الحسينية) ـ على بعد اميال قليلة كربلاء.
والثانية تسمى نهر الهندي (او الهندية)، او الآصفي لأن آصف الدولة حفره بنفقاته وهو اعرض من نهر الحسيني،والغرض من حفره ايصال الماء الى مرقد الامام علي. الا انه لم يصل الى النجف لأن باشا بغداد والناظر في شؤون القناة جعلها تمر بالكوفة وعدة مدن اخرى،بحيث لاتزال بعيدة عن الوصول الى موضعهاالمقصود، ومع هذا فالاعمال مداوم عليها".
ويؤخذ من الروايات التاريخية ان المياه بدأت تتحول بصورة سريعة من فرع شط الحلة، الذي كان يؤلف مجرى الفرات الرئيسي في ذلك الوقت، الى فرع نهر الهندية، بحيث تطلب الامر اتخاذ بعض التدابير لايقاف توسع هذا المجرى. وكانت اول محاولة لتوجيه قسم من ماء نهر الفرات الى فرع الحلة هي التي قام بها علي رضا باشا (1831 ـ 1842)، ومحمد نجيب باشا (1842 ـ 1849)حيث انشئ هذان الواليان سداً على فرع الهندية بغية تحويل مياه الفرات الى فرع الحلة، وحاول عبد الكريم نادر باشا (1849 ـ 1851) غلق الفرات في صدر فرع الهندية بواسطة ناظم بناه من الاجر، الا انه اتهدم في عام 1854.
ومع ذلك كله، فأن الولاة العثمانيين لم يعيروا نظام الري والسيطرة على مياه دجلة و الفرات اهمية كبيرة، لتنظيم مياههما والسيطرة على الفيضانات فيهما اذ يظهر ان نصف كمية المياه في نهر الفرات خلال سنة 1887 كانت تمر بشط الحلة (كما كانت الاوضاع في سنة 1849)، في سنة 1887 فأن شط الهندية اصبح المجرى الرئيسي وبذلك هددت المناطق الزراعية الواقعة على المجرى القديم (اي نهر الحلة) بينما تعرضت الاراضي المحيطة بالمجرى الجديد (اي نهر الهندية) للفيضانات.
ولمناسبة انخفاض مناسيب المياه في نهر الفرات خلال العام 1882 في الحلة، لجأ الاهالي الى عمل السداد في اكثر من ثلاث عشر موضعا داخل قضائي السماوة والشامية. وافادة مراسل جريدة الزوراء في السماوة ان السدات المعمولة من قبل الاهالي لم تبق من الرميثة الى موقع السماوة طريقاً حتى لمرور الزوارق الصغيرة، وان البضائع التجارية صارت تنقل براً , وان اراضي نهر الهندية المتشعب من الفرات منخفضة عن اراضي نهر الحلة , مما جعل ميل الماء الى تلك الجهة قد تزايد.
ولابد لنا ان نشير بهذاه المناسبة، بأن انخفاض مجرى نهر الهندية لم يكن هو السبب الوحيد في تحول مياه نهر الفرات اليه، وانما كان لتراكم الطمى في مجرى نهر الحلة وعلى الاخص في منطقة أهوار لملوم قد ادى الى ارتفاع تلك المنطقة على مرّ الزمن بحيث لم تعد لها قادرة على استيعاب كل مياه الفيضان , فأضطرت المياه الزائدة على ان تجد لها عن منفذ تجري فيه، فكان ان وجدت في جدول الهندية منفذاً ملائماً فتحولت، واتجهت نحو اراضي بحر النجف المنخفضة. وهكذا شقت المياه طريقها في جدول الهندية فتوسع حوضه بحيث لم يمض وقت طويل حتى اخذت كل مياه النهر تجري فيه.
ومهما يكن الامر، فأن هذه التحولات في مجرى نهر الفرات التي جرت الى نتائج سلبية كثيرة، ارتبطت بالزراعة والقبائل التي كانت تستوطن حوض نهر الفرات الاوسط والجنوبي. اذ ان شحة مياه نهر الحلة وجفافها في بعض المناطق، وتحول قسم من الاراضي الزراعية في قضاء سوق الشيوخ في المنتفق الى اهوار ومستنقعات قد اثرت على زراعة بعض العشائر منذ اواخر الثمانينيات من القرن التاسع عشر. فقد اضطرت بعض جماعات من تلك العشائر الى التفرق والتشتت و النزوح الى مناطق نهر الفرات في المنتفق , وبعض مناطق نهر الشنافية في الديوانية وبين عشائرها، بل اضطرت جماعات اخرى من تلك العشائر الى ان تعيش متنقلة في تلك البراري، ونزحت جماعات اخرى الى بعض المدن للاشتغال ببعض الاعمال او الهجرة الى الاحواز كما هو الحال بالنسبة لعشيرة بني اسد.
ان هذه التطورات التي شهدتها مناطق الفرات الاوسط، هي التي دعت الحكومة العثمانية الى استدعاء مهندس الري الفرنسي (شوندورفر)، للقيام ببناء سدة عند مدخل فرع الهندية، فبنيت السدة بالطابوق الذي تعاقدت السلطات الحكومية مع رؤساء قرى مختلفة على تزويدها به من خرائب بابل. وانتهى العمل من تشيد السدة في سنة 1890، وتم افتتاحها برعاية والي بغداد سرّي باشا، ووسط احتفالات ضخمة شاركت فيها بعض القطعات العسكرية، والعشائر ووجهاء بغداد و الحلة وكربلاء.
وادى بناء تلك السدة الى رفع منسوب المياه في فرع الفرات بمقدار مترين، وبالتالي الى تحول ثلثها الى مجراها الاصلي، اي الى فرع الحلة ودخول ثلثيها الباقيين الى فرع الهندية. وقد ساعد ذلك على احياء مساحات كبيرة من الاراضي بما فيها اراضي السلطان عبد الحميد المعروفة بالأراضي السنية. ويعلق سليمان البستاني على هذا الانجاز بقوله:
"قدرت النفقات الازمة لبناء سدة الهندية بثمانمائة الف فرنك لا غير. وقد كان الولاة قد انفقوا اضعاف ذلك المبلغ، فلم يأت ثمره.
فأرصد المال في الحال واقدم شندرفر واعوانه على العمل بعلم واخلاص بضعة اشهر وانتهوا منه سنة 1890، فرجعت المياه الى مجاريها وعمرت الحلة بعد ان كانت على قيد شبرين من الخراب التام. وحيث الوف الاجربة من املاك الاهالي ومستمسكات الخزينة الخاصة، وهذا هو العمل الوحيد من نوعه في ايام الحكومة الغابرة.
ومما يذكر ان سدة الهندية كانت قد انهارت عام 1903، مما ادى الى جفاف فرع الحلة وتحول معظم مياه الفرات الى فرع الهندية مرة اخرى، مما عرض مدينتي الحلة والديوانية الى الجفاف. وقد حفز هذا الامر الحكومة العثمانية على الاهتمام بالامر مرة اخرى فانتدبت المهندس الانكليزي وليم ويلكوكس الذي كان يعمل انذاك في مصر ـ الى العراق لاعداد دراسة حول طرق استغلال مياه نهري دجلة والفرات بالشكل الامثل. والى جانب ذلك فقد كلفت الحكومة العثمانية عام 1906 المسيو لوتي كوونيه ـ وهو احد خبراء الري في اوربا للنظر في امكانية بناء السدة مرة ثانية.
وبقيت الحالة سيئة في شط الحلة الى ان عمدت الحكومة بصورة جدية باعادة بناء سدة الهندية، حيث انتدبت لهذا الامر المهندس المعماري الانكليزي السير وليم وليكوكس مرة اخرى، الذي وصل الى العراق في اواخر سنة 1908 بصحبة عدد من المهندسين. وقد ابتدأ العمل في سدة الهندية عام 1911 , واستغرق بناؤها حوالي سنتين وتسعة اشهر , حيث انتهى العمل منها عام 1913.
وضعت جريدة الولاية الرسمية (الزوراء) اللوم على كل اولئك الذين لا يتحدثون عن سدة الهندية، ويبينون فوائدها وتساءلت بقولها :
"فما بالهم لايتحدثون عن سدة الهندية، هذا الحدث الجسيم , ولا يذكرون منافعه , ومالهم غافلون عما اجراه المأمرون الكرام من زائد السعي والاهتمام باحياء مجرى الفرات. اذ ان الفرات العظيم قدحول مجراه القديم , ذلك المجرى الواسع الذي كان منذ بداية الخليقة مجرى للسعادة و الثروة، وقد اصبح اليوم براً مقفرا. وهذا لواء الحلة الفيحاء الواسع الانحاء الذي كان محفوفاً بحدائق وجنات راقبية ومياه لطيفة بحيث يليق ان يقال فيها”جنات تجري من تحتها الانهار”، وقد يبس من العطش، فهي اليوم خاوية على عروشها , فأخذ اهلها وهم مئات الاوف يهاجرون عنها كرها ويلقون انفسهم هنا وهناك.
ومهما يكن الامر، فقد تابعت الزوراء اخبار سدة الهندية اولاً باول، حيث نقلت لنا اخبار الاتصالات التي اجرتها السلطات العثمانية مع المهندسين الفرنسيين الذين استقدموا لدراسة المشروع وتقاريرهم حوله، وموافقة السلطات العثمانية على المباشرة به وتثبتت اليوم الذي بوشر فيه العمل بسدة الهندية حيث قالت:
"بلغنا ورقة من مخبرنا في موقع سدة الهندية ابان فيها انه قد بوشر بعمليات السد لاجل منع مياه نهر الفرات واعادتها الى مجراها القديم".
ومن المناسب في هذا الموضع الاشارة الى ان جريدة الزوراء تحدثت عن سدة الهندية والاسباب الموجبة لانشائها بصورة واسعة ومفصلة , حيث ذكرت ان نهر الفرات قد صار له مجريان، الاول يذهب الى لواء الحلة واراضيه الواسعة, والاخر يمر على قضاء الهندية وسائر ملحقات كربلاء ثم يروي اطراف المنتفق. ولكون مبدأ مجرى الهندية اكثر انخفاضا من مبدا نهر الحلة فقد صار الفرات يميل نحو الهندية شيئاً فشيئاً. وبمرور السنين توسع المجرى المذكور، وجلب اكثر مياه الفرات، واوشك نهر الحلة على النضوب و الجفاف بصورة تامة. واذا ماحدث ذلك فان لواء الحلة وما فيها من بساتين وحقول واراضي واسعة سوف تتعرض للتلف.هذا الى جانب ان زيادة مياه نهر الهندية اضعافاً مضاعفة سيغرق ويخرب ما يمر عليه من املاك وأراضي منبتة وبساتين وضياع كثيرة”ولذا فقد لزم الامر ـ كما تقول الزوراء اتخاذ تدابير عاجلة ومثمرة لأجل تحويل ميل الفرات نحو مجرى الهندية.
ومن اخبار الزوراء عن سدة الهندية ما ذكرته من ان مهندس الطرق والمعابر المستر بول شوندورفر ومعاونه تيودور ووران قد وصلا الى بغداد قادمين من العاصمة الفرنسية , بموجب اتفاقية كانت قد عقدت بين سفارة الدولة العثمانية في باريس والسلطات الفرنسية , لانشاء سدة الهندية وتطوير نهري دجلة والفرات.
وبعد ان اكدت وصولهما مرة ثانية ذكرت انهما قد وصلا بغداد ليقوما باجراء الكشف الموقعي المناسب واللازم لرفع وازالة الموانع التي تعرقل سيرالبواخر العاملة في نهري دجلة والفرات، ولينظروا ايضا فيما يجب تنفيذه بخصوص الاعمال والانشاءات الازمة لسدة الهندية. وقد كان وصول كل من شوندورفر ووران الى بغداد في يوم الثلاثاء الموافق لليوم الاول من تشرين الاول لسنة 1889. وتوجها بعد وصولهما بعدة ايام الى الهندية والحلة , وبعد عودتهما قدما تقريرا مفصلاً وارفقاه بخريطة لسدة الهندية الى الولاية، وبدورها ارسلته الى وزارة الاشغال في العاصمة العثمانية.
ونقلت لنا الزوراء التوصيات التي وضعها المستر غالان المشاور المختص في وزارة الاشغال العثمانية من قبل، والمقترحات الجديدة التي وضعها شوندوفر والتي اكدت ضرورة اجراء بعض التعديلات. واتخاذ قرار بالتريث لحين ورود التعليمات الخاصة بانشاء سدة الهندية من وزارة الإشغال. وبعدعودة شوندوفر ومعاونه الى بغداد توجها بتاريخ الثاني و العشرين في كانون الثاني عام 1890 برّا لأجراء الكشف على نهر الفرات ولغاية مركز مسكنه النهري، وذلك لمعاينة سير البواخر وكذلك موضع الحجارة المزمع استخراجها من هيت لسدة الهندية.
ووفقا لطريقة الزوراء في نشر الامور والقضايا الرسمية،فقد نشرت التقرير الذي اعده شندوفر ومعاونه لوزارة الاشغال في العاصمة العثمانية فيما يتعلق بسدة الهندية،ويعد التقرير وثيقة رسمية لكل الجوانب المتعلقة بسدة الهندية وما تحتاجه من اجراءات فنية،مالية فضلا عن ماتتطلبهمن امور مادية كالاحجار والطابوق وضرورة نقلها بصورة كافية من هيت او من خرائب بابل لأنشاء السدة.