من مذكرات هشام المدفعي.. محنة انقلاب 1963.. وابنية وزارة التخطيط

من مذكرات هشام المدفعي.. محنة انقلاب 1963.. وابنية وزارة التخطيط

تأكد وزير الاسكان الجديد من عدم صحة الاسباب التي دعت السلطة الى حجز اموالي بعد انقلاب شباط 1963، وقال ان الامر متروك للحاكم العسكري. قدمت طلبا الى الحاكم العسكري العام بينت فيه بان عملي الهندسي في الوظيفة، وفي المكتب الاهلي مع اخي عصرا، فضلا عن عمل زوجتي كمهندسة، وعلى مدى اكثر من ثلاثة عشر عاما، فان ما موجود لدي من اموال منقولة وغير منقولة لا تتجاوز 1800 دينار وبيت صغير شيد على عرصة تعود للحكومة،

وطلبت تقديمي للمحاكمة ان ثبت خلاف ذلك. وبعد نحو شهر ونصف من تقديمي الطلب، صدر أمر الحاكم العسكري برفع الحجز عن اموالي في قائمة تضم ثلاثة اشخاص منهم التاجر المعروف عبد الامير الصراف.
وهكذا انتهت هذه الازمة الخطيرة التي مررت بها عام 1963 بسلام بعد ثبوت براءتي وبيان موقفي، الا ان آثارها الاجتماعية والنفسية بقيت لفترة طويلة، وجعلتني افكر بترك الوظيفة الحكومية. ولاادري كم من العراقيين ذهب ضحية الجهل والتفسيرات الخاطئة؟

أشهر في مركز بحوث البناء

بعد ان مرت ازمة حجز اموالي المنقولة وغير المنقولة بسلام، سألني وكيل وزير الاسكان امين حمزة عن العمل الذي ارغب القيام به، فاخترت العمل في مركز بحوث البناء الذي كان شعبة من القسم الي كنت أرأسه،لإيماني باهمية البحوث وضرورتها لدفع عجلة الهندسة الى الامام.
بدأت بعملي في المركز الواقع في منطقة الوشاش ببغداد. وقد وضعت منهجا لرفع مستوى المركز،بعد ان لاحظت في الدول المتقدمة اهمية المراكز البحثية، لما تقدمه من خدمات واستشارات للنشاط البنائي بكل مستوياته وانماطه. واخذت بطبع البحوث وتوزيعها على دوائر ومشاريع الاسكان، ومنها البحوث التي قام باجرائها مهندسو مؤسسة دوكسيادس، كما قمت بطبع وتوزيع القواعد المعتمدة في اخذ نماذج المواد الانشائية لاغراض الفحوص ونشر المعلومات المتعلقة بها. وفي الوقت نفسه كان الجو السياسي في العراق لم يزل مضطربا ومكهربا، وعمليات الاعتقال والتحقيق مستمرة، واجواء الريبة والتآمر هي الغالبة.
لقيت دعما من وكيل الوزارة امين حمزة في جميع نشاطي في المركز، وكان الرجل مؤمنا باهمية عمل المركز لجميع مشاريع الوزارة. ونجحت معه بفك ارتباط مركز بحوث الاسكان من مديرية الاسكان العامة، وربطه مباشرة بوزارة الاسكان والتعمير، ليكون بخدمة مشاريع الوزارة كافة.. وكانت تلك الخطوة الاولى لتاسيس المركز القومي للمختبرات الهندسية.
شجعت الكثير من المهندسين من مختلف الاختصاصات على الانضمام الى المركزالجديد، فزادت اعمال الفحصوات المختبرية، ليس على مشاريع البناء وموادها الاولية فحسب، بل شملت المواد الانشائية واعمال الطرق كالاسفلت والتربة. وتوسعت اعمالنا وتشعب نشاطنا، وبدأت الاهمية العلمية للمركز تبرز بين المهندسين والمقاولين والعاملين في مشاريع الوزارة. ومع استمرار العمل،فإن كل واحد من العاملين معي، كما شعرت وادركت، تتخلله مسحة من الحزن والخوف، لما آلت اليه الاوضاع العامة في العراق بعد انقلاب شباط وما انتهى اليه من تمزق سياسي، وقلق اجتماعي، وتراجع اقتصادي. لاانسى ما كانت عليه مشاعري عندما خابرني احد الاشخاص، بعد ان تأكد من انه يخابر مسؤول المركز، بأن ابلغ السيدة (خالصة) بأن تحضر لتسلم جثة زوجها (عبد الخالق). عرفت ان زوجها وكان من مسؤولي اتحاد الطلبة في بريطانيا وقضى في معتقله. وقبل انتهاء الدوام الرسمي طلبت من السيدة وابلغتها بضرورة زيارة زوجها المعتقل.خرجت ولدي شعور بانها ادركت ان حياة زوجها قد انتهت.
كان احساسي بالظلم والتعسف لم يفارقني طيلة تلك الفترة الحرجة من حياتي. وبعد ان شعرت بان مركز بحوث البناء توطد عمله، ويعمل على المسار الصحيح، واخذت اعماله بالتوسع،وادرك المعنيون اهميته الكبيرة. وادركت اني قمت بواجبي على احسن وجه، قررت الاستقالة من عملي في وزارة الاسكان. سألت نفسي مرارا يومئذ: لماذا تحجز اموالي واتعرض للتهديد، بعد خمسة عشر عاما من الجهد الهندسي المتواصل والاندفاع في العمل المخلص..؟. وفي الوقت نفسه ارى العديد من اصدقائي الذين عملوا كمقاولين في مجالات الهندسة المختلفة، والمردود المالي الجيد الذي حصلوا عليه نتيجة ذلك، فضلا عن الفائدة الكبيرة لتطويرالبلد.لقد قررت ان اعمل في مجال المقاولات بعد تقديم الاستقالة.
رفض وكيل وزارة الاسكان امين حمزة الموافقة على استقالتي، مالم اجد له من يخلفني في عملي بالكفاءة نفسها، ويضمن استمرار المركز بعمله. والحقيقة انه من الصعب ان يجد الشخص بديلا عنه في عمله!، الا اني بعد مراجعة اسماء المهندسين الذين يمكنهم القيام بتلك المهمة، ممن يحمل روحية البحث والتطوير، والكفاءة الادارية، وجدت السيد زين العابدين رؤوف المهندس في قسم التصميم في مديرية الاسكان العامة، جديرا بان يكون البديل الجيد للمنصب. وقد وافقت الوزارة على استقالتي، فسلمت اعمالي الى المهندس زين العابدين رؤوف.

مشروع ابنية وزارة التخطيط

بعد ان انهيت صلتي بالوظيفة الحكومية، اتصل بي المقاول عبد اللطيف العاني، وهو من كبار المقاولين العراقيين يومئذ، وكان يعمل على انشاء بناية وزارة التخطيط على رأس جسر الجمهورية من جانب الكرخ ببغداد. وكان عبد اللطيف العاني من المقاولين المتميزين قد عمل على العديد من المشاريع في بغداد، ومنها بناية البنك التجاري في شارع البنوك.
بدأ عبد اللطيف العاني حياته العملية خلفة بناء في بغداد، لايعرف القراءة والكتابة وبقي أمياً الى النهاية، الا ان فراسته في اعمال البناء وذكاءه جعلاه يتوسع في اعمال البناء، حتى اصبح مقاولا مشهورا ببغداد، واسس ايضا شركة لعمل الركائز الكونكريتية. واستطاع الحصول على عقد بناء بناية وزارة التخطيط، وباشر بالعمل.وقد وافقت على العمل معه، والتحقت في اواخر عام 1963 مديرا لادارة المشروع، وتسلمت اعمالي من مدير المشروع السابق، اليوناني الجنسية.
يتكون مشروع وزارة التخطيط من بنايتين رئيسيتين، هما بناية وزارة التخطيط، وبناية مجلس التخطيط، ومواقف كبيرة للسيارات مكونة من طابقين، مع كامل الخدمات الاخرى للمشروع الذي تبلغ كلفته زهاء مليوني دينار. وكان المصمم والاستشاري للمشروع مكتب الاستشاري العالمي الايطالي (GioPonti)، والمهندس المدني المسؤول شريكه (Fernorelli). اما دائرة الاشراف ولاهمية المشروع فقد تم تعيين مهندس مقيم بريطاني، يساعده عدد من المهندسين العراقيين المدنيين والكهربائيين،وكانوا من الشباب المندفع، ولكن بخبرة قليلة. وقد تكونت علاقة ثقة واحترام بيني وبين المهندسين الاخرين من مهندسي دائرة المباني، مما دفع هؤلاء المهندسين الى اعتباري مرجعاً مهماً لهم في مختلف الجوانب الهندسية والفنية، وتفسير شروط المقاولة. وكانت قراراتي الهندسية وقرارات ادارة المشروع تتخذ باستشارة مساعدي مساحي الكميات البريطانيين، لذا كانت قرارات علمية رصينة.
كان هناك العديد من المشاكل الفنية الطارئة، تتطلب لها حلولا فنية تستدعي زيارة الاستشاري الايطالي الى المشروع، غير ان تعقيدات اجراءات السفر والحصول على الموافقات وغير ذلك من العوائق، جعلتني انظم منهجي بأن ازور الاستشاري في ميلانو في ايطاليا مرة كل شهرين، لحل المشاكل الفنية المعلقة، وتوقيع السلف الشهرية لانجاز المشروع. ومن الامور المهمة التي عملت على اتخاذ القرارات الفنية بالتشاور مع الاستشاري، تغليف الاوجه الخارجية للبناية بالسيراميك. وقد اكدت على تباين درجات الحرارة في الليل والنهار، وفروقها الكبيرة في الشتاء والصيف، حيث تبلغ على الكونكريت نحو 85 درجة مئوية صيفا وتحت الصفر شتاءً. فدفعت الاستشارى الى الموافقة على ان تكون التفاصيل متضمنة مفاصل التمدد بشكل كاف، وان تثبت طبقات السيراميك على شبكة من المشبكات الحديدية المثبتة بالسمنت و بشكل محكم على الواجهات الخارجية.
وتكونت بيني وبين الاستشاري الايطالي علاقات عمل وصداقة وثيقة، وكذلك مع المقاولين الثانويين للمشروع، ومنهم حافظ القاضي الذي كان يمثل شركة Carrierلتنفيذ اعمال التكييف، وشركة بريطانية لتنفيذ الاعمال الكهربائية، وعدد من المقاولين الثانويين العراقيين لتنفيذ اعمال المشروع. ومن المهندسيين المساعدين الذين عملوا معي في المشروع المهندس زهير ساقو والمهندس خالد عبد المنعم رشيد الذي بدأ العمل معي عند عودته من الدراسة في بريطانيا، وكلفته بالعمل في بناية وزارة التخطيط. وقد سررت كثيرا عندما علمت بعدئذٍانهما اكتسبا خبرة جيدة من الناحيتين الفنية والادارية من خلال عملهما المذكور.
كان عبد اللطيف العاني يدير اعماله بطريقته التي اعتاد عليها منذ اربعين عاما، وقد ابقى على بعض مساعديه الذين يعملون بالطريقة نفسها. ومنها عدم فصل المقاولات التي يعمل عليها من الجانب المالي، فتكون المبالغ التي تتحقق له شهريا مشاعة للمشاريع الاخرى. ولهذا تاخر تنفيذ عدد من الاعمال لاسباب منها ماهو خارج ارادته، ومنها بسبب الاسلوب الذي اعتاد عليه. ولم استطع في فترة عملي معه ادخال الاساليب الحديثة لادارة الاعمال. وكثيرا ما كنا نواجه بالسؤال عن موعد اكمال المشروع. وقد حضر العاني صباح احد الايام، وقال ان عنده موعداً مع رئيس الوزراء طاهر يحيى لبحث موضوع المشروع وتقدم العمل فيه وما انجز منه. هيأت جميع المعلومات المطلوبة لبيانها، من المنجز من العمل وما تاخر منه واسباب التأخير ومعالجة ذلك. ولما التقينا رئيس الوزراء طاهر يحيى شرحت له اسباب تأخر المشروع، وهي اسباب مالية بالدرجة الاولى، والوسائل الكفيلة لانجاز العمل.وبعد نحو اربعين دقيقة من النقاش والتداول، وافق على اعطاء المقاول سلفة مالية خاصة كما طلبنا. والغريب أننا لم نستفد من السلفة كثيرا، حيث صرف الكثير منها على مشاريع اخرى، مما اثار في الشعور بان وعودي للمسؤولين ذهبت هباءً، التي قد تؤدي الى فقدان الثقة بعملي، على الرغم من الجهود المبذولة بصدق.
وهكذا، كانت ادارة الشؤون المالية للعمال محصورة بالحاج عبد اللطيف العاني وبعض مساعديه، ولم يكن يومئذ قانون يحمي حقوق العمال ومطاليبهم. كان اجر العامل قليل جدا،ويومية عامل الحفر كانت 350 فلسا عن ثماني ساعات عمل مستمر.وحدث مرة ان صادف عيد الاضحى في يوم الاحد، وتكون ايام العيد خلال الاسبوع من حقوق العامل ويستحق عليها اجوره اليومية، فلم يتردد المقاول ومساعدوه من فصل العمال العاملين في المشروع في يوم الجمعة الذي سبق العيد، بغية عدم صرف يوميات العيد لهم!. كان هناك مايقرب من 250 عاملا في مختلف الاعمال الانشائية للمشروع، ولا حول لهؤلاء العمال، وهم يستقبلون العيد بهذا الاجراء المجحف. لم استطع ان اسكت، وبينت احتجاجي على قرار الفصل الى عبد اللطيف العاني وابنه عزيز، واني لايمكن ان اوافق على هذا الظلم الصارخ بحق العمال، وهم عماد المشروع. واستقر رأيي على استحالة الاستمرار مع من يتخذ مثل هذه الاجراءات.
كنت في تلك الفترة اعمل مساءً مع شقيقي الاكبر المهندس المعماري قحطان المدفعي في مكتبه. وكانت معظم المكاتب الهندسية والمعمارية غير متفرغة للعمل الاستشاري صباحاً ومساءً، وان اصحابها من موظفي الدولة، ويعملون في الوزارات المختلفة. ولهذا قررت التفرغ للعمل الهندسي مع قحطان في مكتبه.
تأكد لي ان عملي مع الحاج عبد اللطيف العاني، لايلائم الاهداف التي اعمل لتحقيقها ومبادئ العمل التي احملها، وتأكد لي ان تفكير هذا النوع من المقاولين واسلوبه لن يتغير او يتطور، على الرغم من انهم بدأوا يعملون على مشاريع كبيرة. وقد افهمت العاني بأني وضعت اعمال المشروع على المسار الصحيح، رغم التاخير في انجاز بعض مفاصله، وحققت له توازناً جيداً في كلف المقاولات الثانوية، مع ما رصد اليها في عقد العمل، كما حصّلت له تمديدا لمدة المقاولة،واعفاءه من الكثير من غرامات تاخير العمال، ومع هذا فاني سأترك المشروع قريبا. ولم تفلح محاولات العاني في صرف نظري عن هذا القرار، ومنها عروض مالية مغرية. وبعد نحو عشرة اشهر من تركي العمل مع عبد اللطيف العاني، تم اكمال مشروع وزارة التخطيط.
لقد اتضح لي من التجربة التي ذكرتها مع قطاع المقاولات، انه لايكفي ان تثبّت وزارة التخطيط قائمة بأسماء المقاولين، وتصنيفهم الى درجات. بل اقترح ان تكون هناك دورات للمقاولين من الدرجات المختلفة لمدة ثلاثة اسابيع يحضرها المقاول، وفيهامنهج ينور المقاول ويشرح له التطور المهني والميكانيكي والاقتصادي اساليب العمل الصحيح في تنفيذ المشاريع، ووفق ضوابط محددة وتقاليد حديثة ومتطورة. ولا ضير من انشاء معاهد تقدم دورات دراسية خاصة لتطوير مهندس المقاولات والمقاولين الصغار في العراق، بما يتناسب وما هو متوقع لتقدم الوضع العمراني.

عن مذكرات المدفعي
(نحو عراق جديد سبعون عاما من البناء والاعمار)