عندما اصبح السنهوري اول عميد لكلية الحقوق في العراق سنة 1936..صفحات مطوية في مراسلاته مع عراقيين

عندما اصبح السنهوري اول عميد لكلية الحقوق في العراق سنة 1936..صفحات مطوية في مراسلاته مع عراقيين

مصطفى ابراهيم الواعظ
لا نتعد الحقيقة اذ نقول ان العلامة عبد الرزاق السنهوري القانوني والدستوري الظليع كان احد بناة النظام التربوي والقضائي في العراق في الثلاثينيات. ففي هذه الفترة وما بعدها، وفدت إلى العراق من ارض الكنانة (رسل ثقافة) ضمت نخبة من عمالقة القانون والأدب والعلم – أسهمت أسهاماً كريماً- إلى جانب البناة العراقيين في بناء الصرح الثقافي والعلمي في الدولة الوليدة،

وقد تميزت شخصية الفقيه العربي (عبد الرزاق السنهوري) بدوره الجامعي والتشريعي – على قصر المدة التي أمضاها في ربوع العراق – إذ وفد منتدبا لكلية الحقوق في الفترة الدراسية 1935 – 1936 في عقد وزارة المرحوم (ياسين الهاشمي) وعهدت إليه (رئاسة) كلية الحقوق فكان لها نعم الراعي، إذ شاد لها كيانا رصينا وصاغ لها نظاما استبدل فيه اسم (رئيس الكلية) الى (عميد) فكان أول عميد لها، واعتمد النظام للدراسة سنينا اربع واختار من اوائل الكلية اول بعثة إلى كلية الحقوق في جامعة فؤاد الأول / جامعة القاهرة حاليا ونال البعض منهم الدكتوراه وعاد الى الوطن واشغل مركزه التدريسي في الكلية الام.

وضع السنهوري – وهو في بغداد – اللبنة الاولى في كيان (القانون المدني) إذ – بمساندة من ياسين الهاشمي – اعد لائحة القانون ثم ركنت لغاية سنة 1943 حين تشكلت لجنة مشروع القانون المدني برئاسة السنهوري ونوري القاضي نائبا للرئيس وعضوية محمد حسن كبه وحسن سامي ناتار وانطوان شماس وعبد الجبار التكرلي ومنير القاضي والمحامي نشأت السنوي، اتمت المشروع بعد سنوات ثلاث وصدر القانوني المدني – بعد مصادقة مجلس الاعيان والنواب برقم (40) لسنة (1951) واقترن بالارادة الملكية في 15 حزيران 1951 في عهد وزارة (نوري السعيد الحادية عشرة) ووزير العدلية حسن سامي التاتار.
عرف السنهوري باسلوبه التشريعي.. اسلوب المقنن المشرع ولم يعرف ان له اسلوبا ادبيا رفيعا إلا حين طالعتنا مجلة (روز اليوسف) في احدى اعدادها لسنة 1952 برسالة للسنهوري يخاطب فيها احد الشباب قصده في امر من امور حياته فجاءت الرسالة، مشرفة الاسلوب، رقيقة رفيعة في التوجيه والنصح يصور فيها ما كان عليه السنهوري وجيله حين واجه الحياة وهو في مرحلة الشباب وهذه مقتطفات منها:
(ولدي.. تحياتي إليك، ازكي فيها شبابك وايامك التي قذفت بها الريح ونثرتها على الاشواك فخرجت وحدك – ولدي – تجمعها وتحاول ان تجعل منها كوناً، ولبثت في كفاحك بضع سنين دمي خلالها قدمك وقلبك، فابطأت الخطى ولانسيك اللطيف الخبير. ولست اذري اية قسوة تلك التي طغت علي مشاعرك فجعلتك قلبا يسكن صدري لعلها ترجيع الصدى لتك الاصوات الجافة الخشنة التي ملاذا اذني عنك حين كنت وزيرا للمعارف فنالك مني ذلك الذي المني ويؤلمني. على اني اتوقع قريباً اراك فيه على نحو يرضيني.!
في مثل سنك – يا ولدي – كانت لنا في كل يوم حياة نخلقها.. من كتاب نقرأه – ونستمدها من موضوع ندرسه، ونمضيها في حق لنا نقضيه.
كنا نستقبل اليوم قبل مولده، فنصرع ظلمة الليل بضوء خفيف، وعزم صليب ولا يهمنا من الحياة إلا ان يستقيلم لنا موجهاً، وتلين بفعل صبرنا قناتها.. واقسم لك بقلبي اننا في شبابنا ما عصينا الله بقول او عمل والمئوية والرحمة للشاعر العربي الذي قال:
ألف الكتابة وهو بعض حروفها
لما استقام على الحروف تقدماً
غير إني أنصحك بالصبر على ما قد أصابك في وحدة النشأة، ووحدة الحياة، فتطهر شبابك وأيامك، وتنقي أعمالك وأمالك، وتبني بيتك وحصنك وإذا تم لك ذلك فحينئد تزوج!
صلاته بالعراق
ظل السنهوري متصلا بالعراق يتابع تطوره في مختلف الميادين من خلال صلاته برجال القضاء والمحاماة التي توطدت في اطار الاخلاء النبيل، يقصدونه اذا ما ضمهم رحاب مصير، ويراسلونه واذا به الاخ الكبير والمرشد الناصح وكان ابراهيم الواعظ (1893 – 1958) من رجال القانون الذي ارتبط بالسنهوري ارتباط اخوة ووفاء وجاءت يوميات الواعظ في مصر سجلا شيقاً لهذه الصلة الطيبة وها هو يسجل احد لقائاته مع السنهوري (يوم الجمعة 28/1/1958)... (بناء على دعوة الدكتور عبد الرزاق السنهوري على الغداء قصدت حلوان وكان بانتظاري في شرفة منزله وسالني عن سبب حضوري مع العائلة الى مصر وقصصت عليه قصة العمليات التي اجريت لزوجت في بغداد ولندن وحضرت لعرضها على اطباء مصر واني اعمل هذا لا لانها زوجتي فحسب ولكنني ارتبط بها ارتباطا اكثر من رابطة الزوجية لانها ابنة عمي ورفيقة حياتي اكثر من اربعين سنة ووالدة أولادي وعندها اغرورقت عيناي بالدموع فشاركني السنهوري دموعي فيالله هذا القلب العظيم، العظيم في رقته، العظيم في خلقه وعمله.
وتطرقنا الى الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العراق ثم تطرقت الى مقابلتي لنوري السعيد (رئيس الوزراء) وعرضت عليه فكرة انتداب السنهوري الى العراق وان السعيد رحب بالفكرة واتصل فورا بوزارة الخارجية وطلب اليها الابراق الى السفارة العراقية بالقاهرة والاتصال بالسنهوري واخذ موافقته ثم الاتصال بالحكومة المصرية واخذ موافقتها وان السعيد ترك للسنهوري – عند حضوره بغداد – المنصب الذي يختاره والمرتب الذي يقدره، وقد شكرني السنهوري وسألني عن المنصب الذي اقترحه فاجبته ان يكون المنصب (المستشار في مجلس الوزراء) وثانيا – القاء محاضرات في القانون المدني على طلبة كلية الحقوق وثالثا – تشكيل لجنة برئاسته ومن رجال القانون يختارهم هو لشرح القانون المدني ورابعا – القاء محاضرات في مواضيع قانونية يختاره على رجال القضاء والمحاماة وقد رحب السنهوري بالفكرة!! ولم يذكر الواعظ الاسباب التي ادت الى عدم تحقيق هذا الترشيح واعزو الى ذلك استفحال الخلاف السياسي بين رجال الثورة في مصر ورجال الحكم في العراق حول (حلف بغداد) الذي ابرم في شباط 1954 بين بريطانيا وتركيا وايران وباكستان والعراق، إذ هاجمه الرئيس الراحل (جمال عبد الناصر) باعتباره حلفا يقف ضد اماني الامة العربية.
ومن صلات السنهوري صلته بجيل من شباب القضاء والمحاماة ومنهم الاستاذ (ضياء شيت / رئيس محكمة التمييز الاسبق) وقد تفضل الاستاذ ضياء واطلعنا على بعض من رسائل السنهوري اليه اقتطف من رسالته المؤرخة (الاسكندرية 1/8/1967) يعلق فيها على بحث (مبادئ التنظيم القضائي في الفقه الاسلامي) الذي نشره الاستاذ ضياء في العدد الاول من مجلس (القانون المقارن) يقول السنهوري (نظرت فيما اعتمدتم عليه من المراجع في هذا البحث الشاق بانكم قد الفتم الرجوع في الفقه الاسلامي الى مراجعه القديمة ولم تقتصرا بالنقل عن فقها – الشريعة المحدثين وهذا رصيد لكم كبير في دراسة الفقه الاسلامي فأهنئكم بهذا البحث النفيس!.
حوار مع السنهوري
سجلت في يومياتي (شتورة / لبنان 28/7/1949) (التقيت في فندق (اوريان بالاس) بدمشق بالسنهوري فقيه مصر العظيم وواضع القوانين المدني العراقي والسوري، قدمني اليه سيد – الوالد فكان من (الباشا) المصري لطف وعطف، سألني عن دراستي (كنت قد انتقلت الى السنة الثالثة في كلية الحقوق ببغداد) وانطباعاتي عن اساتذة الحقوق فقلت له (اني معجب برسل الثقافة العصرية حيث العقلية الناضجة والعلم الصحيح والشخصية الممتازة) ثم سألني عن الاساتذة العراقيين، ما وجهة نظري في الدكتور (صلاح الدين الناهي)؟ فأجبته (ان المستوى التدريسي والعملي واحد عند الاساتذة العراقيين ولكن اعلمهم وافقههم العميد الاستاذ (منير القاضي).
اما (الناهي) فلا استطيع ان ابدي رأيا فيه قبل ان اتلقى درسا واحداً منه (الناهي كان يلقي محاضراته في القانون التجاري على السنة الثالثة).
فداعبني الفقيه الكبير بقوله (سأقول للناهي انك معجب به حتى تضمن لك درجة ممتازة في دروسه بالمستقبل).
ثم كانت لي جلسة في فندق (مسابكي) بشتورة في لبنان، ظم الرائد والسنهوري وسامي العظم – من رجال القضاء في سوريا – وتطرق بنا الحديث الى مأساة (فلسطين) وعن دور الجيوش العربية وتأثير ساسة العرب على هذا الدور مما شلت حركة الجيوش ومنعتها عن اداء دورها العسكري.
الخلاف بين مصر والعراق وسوريا.. عن وجهة نظر الشباب العراقي في هذا الخلاف الذي اثاره نوري السعيد؟ فاجبته بصراحة”ان الشباب العراقي لا يعترف بما تث”"حكومة السعيد”ان العراق يتجه نحو مصر اتجاه حب واخلاص، فلا غنى للعراق عن مصر كما لاغنى لمصر عن العراق".
كانت للسنهوري مواقف مشهودة في تصديه للسلطة التنفيذية وعلى الاخص في قضايا الفكر وحمايته لحرية الصحافة، ومن ابرز هذه المواقف موقف شهدته وانا في القاهرة مقيم (1951 اذ صدرت جريدة”مصر الفتاة”لسان حال”الحزب الاشتراكي”وفي صفحتها الوسطى بكاملها مقال صامت لا يحمل الا عنوانا بالخط الاحمر”رعاياك يا مولاي”وثم صورا لمظاهر البؤس في الريف والمجتمع المصري وذيلت الصفحة بتوقيع (المخلص / احمد حسين) وهو رئيس التحرير ورئيس الحزب. وبعد ساعات انتشرت قوات الشرطة وجمعت اعداد الجريدة من المكتبات وباعة الصحف واعتقل”احمد حسين”وعقد مجلس الوزراء جلسة استثنائية برئاسة (مصطفى النحاس باشا) واصدر قرارا بالغاء امتياز الجريدة، ورفع (احمد حسين) طعنا لدى محكمة الاسئنناف يطالب فيه الافراج عنه فقررت المحكمة الافراج عنه بكفالة (عشرة جنيهات) كما رفع طعنا لدى محكمة (القضاء الاداري في مجلس الدولة) تضمن عدم شرعية قرار مجلس الوزراء فاصدرت المحكمة برئاسة (عبد الرزاق السنهوري) قراراً تضمن (ان المادة 15 من الدستور لا تجيز للادارة مصادرة الصحف قبل صدور تشريع ينظم هذه المصادرة الادارية ومن لم يكون القرار المطعون فيه باطلا لمخالفته للدستور ولهذه الاسباب حكمت المحكمة برفض الدفع بعدم الاختصاص وفي الموضوع بالغاء القرار الصادر من مجلس الوزراء في 28/تموز/1951 بالغاء جريدة (مصر الفتاة)، وقد كان لهذا القرار دويه في اوساط (القصر الملكي) و(الوزارة) كاد ان يؤدي الى عزل (السنهوري) بذريعة انه ذو لون حزبي ويعتبر من اقطاب (الحزب السعدي) ويستوزر في وزارته ولا يجوز لرجل القضاء لمستشاري محكمة النقض ومجلس الدولة في مؤازرة”السنهوري”اثره الكبير في العدول عن اقالته اذ وضعوا تحت تصرفه انتقالة جماعية في حالة اقالته.
وما ان رحل”السنهوري”الى الرفيق الاعلى حتى تبارت الافلام في احياء ذكراه والاشادة بعبقريته القانونية ومواقفه القضائية فقد وصفه صديقه الاستاذ”ضياء شيت/ رئيس محكمة التمييز الاسبق”بالقانوني البارع والفقيه المجتهد والمشرع الفذ والقاضي اللامع والاستاذ الجامعي صاحب العقل العلمي.
اما تلميذه (عبد الوهاب الازرق رئيس ادارة قضايا الحكومة بدمشق) فقد صوره بعبارات بليغة بانه (امام الحقوقيين المعاصرين، له اسلوب العالم الثقة الثبت المتزن، الطويل النفس الخبير بطرق العرض واساليب التمحيص ووسائل البحث والاستقضاء، ويحدثنا الدكتور (عبد الباسط الجميعي) الاستاذ في كلية الحقوق بجامعة عين شمس بالقاهرة: (كان السنهوري اول من فكر بوضع قانون مدني جديد في مصر 1936 في مقال له استجابت على اثره الحكومة المصرية وعهدت اليه المهمة واختبار اعضاء اللجنة 1938 وصدر القانون 1948. وقد شارك في وضع الدستور المصري 1954 (في عهد الثورة) اما كتاب (الوسيط في شرح القانون المدني) فيعد اضخم عمل قانوني استغرق في تأليفه عشرين عاماً، ونحن اذ نذكر”السنهوري”في هذه اللمحات المشرقة وفي ذكرى رحيله الى رحاب الله في 30/حزيران عام 1971 انما هو يذكر على مدار الايام في رحاب القضاء والمحاماة مع كل تطبيق لصرحه الخالد”القانون المدني”في العراق وسوريا ومصر وعلى امتداد الوطني العربي الكبير.
ج/ الاتحاد 1988