حبزبوز والصحافة الساخرة

حبزبوز والصحافة الساخرة

حيدر الحيدر
حفلت الصحافة العراقية بالكثير من الأنماط.. فالى جانب الصحافة الجادة كانت هناك صحافة ساخرة.. ولعل جريدة (حبزبوز) التي اصدرها الصحفي المقتدر نوري ثابت من اهمها... وقد كان نوري ثابت من الرواد الأوائل في تاريخ الصحافة العراقية.. خاصة الهزلية منها .

شيئ عن تاريخ الكتابة الساخرة:
ـ عُرفت الكتابة الساخرة كاسلوب للتعبيروالنقد منذ العصور القديمة، وهذا النوع من الفن يسمى بفن الإلتفاف لإيصال رسالة ممنوعة... فالكتابة الساخرة ولدت من بطون التاريخ العربي منذ القدم وليست وليدة العصر الحديث،
ففي العصر العباسي كانت المقامات التي كتبها الحريري وبديع الزمان الهمداني
سجعاً لنقد الحالات الشاذة والسخرية منها،ولا نرتوي من الجاحظ في كتاباته الساخرة مثل كتاب البخلاء ورسائله الساخرة النابضة بالمتعة والطرافة فحين لم يجد من يسخر منه ما كان يتردد في ان يجعل من نفسه موضوعاُ للسخرية المقصودة، كذلك نجد السخرية في رسالة الغفران لأبي علاء المعري وعند ابن الجوزي في كتابه (اخبار الحمقى والمغفلين).. من هنا يتبين لنا ان الكتابة الساخرة استخدمت كمسند يتكئ عليه الكاتب الحر بقصد نقد وتقويم النفوس، من ممارساتٍ شاذة شاعت في المجتمع أو اعوجاج لا يمكن الإفصاح عنه علناً بسبب مانعٍ ما.. وهكذا استمرت الكتابة الساخرة الى يومنا هذا
نوري ثابت (مولده وتحصيله الدراسي) :
ـ ولد نوري ثابت المعروف ب (حبزبوز) في عام 1887 في السليمانية.
واكمل دراسته الاعدادية في بغداد وانتقل الى المدرسة الحربية في استانة وتخرج منها ضابطاً. وحارب في الحرب العالمية الاولى وقاتل في معركة (چنه قلعه)
الشهيرة وجرح في رجله وعاد الى بغداد واشتغل معلماً في مدرسة الجعفرية..
واعجب بالفن المسرحي فاصبح ممثلاً واخيراً اهتدى الى الصحافة...
توفي في بغداد عام 1938 ودفن فيها

بدايات عمله في الكتابة الساخرة :
ـ كانت بدايات عمل نوري ثابت في الصحافة محرراً في جريدة الكرخ التي كان صاحبها
(الملا عبود الكرخي) عام 1927 كذلك كان ينشر في جريدة البلاد آنذاك
وكان يكتب المقالات بأسماء وتواقيع مستعارة منها :
ـ ابن ثابت
ـ ابو ثابت
ـ ابو احمد
ـ جدوع ابن دوخه
ـ بياع شراي
ـ خادمكم المعلوم
ـ غشيم.... وأحمد حبزبز
* هل تأثر نوري ثابت، في مجال الكتابة الساخرة بإتجاه سياسي محدد؟ :
ـ ربما كان قد تأثر بما كانت تكتبه بعض الصحف التركية الساخرة..فقد كان
على اتصال مع صحيفة (قره قوز) الفكاهية التي تصدر باسطنبول.
اما عن تأثره بإتجاه سياسي محدد فيجيب على ذلك بنفسه في جريدة حبزبوز
قائلاً : (احلف بالمسناية مال خضر الياس انني حزب ـ سز)
والحقيقة ان المسناية ليست مرقداً ولا اماماً بل موضع للبلامة على شاطئ دجلة
في بغداد... ونستطيع ان نقول انه كان كاتباً اجتماعياً وطنياً ساخراً.
*(حبزبوز) يبدو اسماً غريباً..من أين جاءت هذه التسمية؟
ـ هذه التسمية كنية لشخصية بغدادية شعبية يدعى احمد حبزبز، كان في حياته شريراً سكيراً تخشى الناس شره.. وكان خنجره الطويل لا يفارق نطاقه.. ومع ذلك كان فكهاً سريع البديهية لا تفوته النكته اذا حضرت.. ومن طرائفه عندما اجبره ملاعليوي ان يؤدي صلاة الفجر قال : اصلي صلاة الفجر ركعتين چفيان شر الملاعليوي.. وصار قوله هذا مثلاً بغدادياً متداولاً.
صدور العدد الاول من حبزبوز :
ـــ حبزبوز جريدة فنية فكاهية اسبوعية ساخرة تصدركل يوم ثلاثاء..
وقد صدرالعدد الاول من منها في 29 / 9 / 1931 وكانت تعتمد على فن الكاريكاتيروالتعليقات اللاذعة في نقد الاوضاع السلبية في البلد.
وكان مقرها فوق مقهى الشابندر في شارع المتنبي...
يذكر انه قبل أيام من صدور العدد الأول تعرض نوري ثابت رئيس تحريرها
لمحاولة اغتيال من قبل شخص اطلق عليه النار وهوفي فندق بمنطقة الحيدرخانه ببغداد فأخطأه ولاذ بالفرار.. فبدأ الاصدار بنقد لاذع.. حيث نشر رسماً كاريكاتيرياً
يظهر فيه بملابس الفرسان ممتطياً (طوب ابو خزامه) وقد حمل قلماً طويلاً بدلاً من رمح.. كتب فيه عبارة (سيارة حبزبوز الجديدة وقلمه السيال) وتحت الكاريكاتير سؤال موجه لحبزبوز يقول : شنو هاي.. اشو حبزبوز راكب طوب ابو خزامه؟ تريد تصير مثل السلطان مراد؟
فيجيب حبزبوز : لا مولانه.. ما دام ابنص اوتيل انضرب ست رصاصات فمنّا وغادي.. قررت ما اركب بعربانه او سيارة.. بل اخذت هذا الطوب من وزارة الدفاع حتى اتجول عليه.. هم مسألة اقتصادية وهم يلهم التراب يصير بارود ويلهم حجر يصير دان (اي قنابل) اريد رجال يتقدم.
ـ وكما هو معلوم لدى اهالي بغداد القدامى ان طوب ابو خزامه كان مدفعاً قديماً من مخلفات القرن الثامن عشر (العهد العثماني) وقد وضع امام وزارة الدفاع في العهد الملكي.. وكان الناس وخاصة النساء يحملون له النذور في طلب المعجزات التي يحققها الأولياء....ومن تلك المعجزات التي كان يعتقد بها العوام : انه عندما نفد عتاد الجندرمه من القنابل كان طوب ابو خزامه يلهم التراب ثم يحوله الى بارود ويلهم الحجر ويحوله الى قنابل يطلقها على الاعداء..
وكانت له قدسية آنذاك اذ كانت النساء يقصدنه في طلب المراد وكان يحلها لهن..!!!!
وقد كتب طه سالم مسرحية عن هذا الطوب يتحدث فيها عما اشيع حوله من معجزات.

من طرائف نوري ثابت (حبزبوز)
ـ كان لنوري ثابت صديق يعمل (نعل بند) في محلة (القاتر خانه) ببغداد
جلس عنده مرة بعد انتهاء دوامه من مدرسة الجعفرية.. فتفاءل به الرجل اذ تواكب عليه الزبائن.. وعندما ودعه نوري ثابت قاصدا بيته في محلة بني سعيد..قال له (النعل بند) : عود مُرّ علينه باچر استاذ نوري.. فسأله لماذا؟
اجاب النعل بند : كصتك خير علينه.. اليوم دكينه على كصتك هوايه نعلچات.
* وختاما لابد من ذكر اسماء عراقية برزت في مجال الصحافة الساخرة :
ـ برز في العراق العديد من هؤلاء الكتاب اضافةً لصحف اعتمدت هذا النوع من الكتابة.. فمن الاقلام الفكاهية الرائدة المرحوم صادق الأزدي صاحب مجلة
(قرندل)عام 1947 وعبد الجبار وهبي (ابو سعيد)في اتحاد الشعب عام 1959
وداود الفرحان في مجلة (الف باء) بلد صاعد بلد نازل..وعبد الغني الملاح الذي كان يكتب في(التآخي / عمود مهذار) في بداية السبعينيات.. ومما كتبه الاخير في نقد الشعر المنثور اوالنثر المشعور كما كان يسميه.. ودعا لمعالجته كما تعالج الحنطة المسمومة في حينها، ما يلي :
(اكلنا حفنة الزئبق.. وكانت كيلة الطحان في الزورق.. تكيل النثر مشعوراً فلا تقلق.. اكلناها مع الطرشي لحفوماً.. هناك مغرب الشمس غدت ازار قمصاني..
وكاسات من الوهم اتت من بيت جيراني.. كلوطرشي.. كلو عمبه.. على الچوبي على السمبا).وعلينا ان نذكر فيصل الاعظمي وما كان يكتبه في جريدةالجمهور الرياضي (فلافل وبهارات هنديه) في الستينيات وما يكتبه اليوم وجيه عباس من عولمه بالدهن الحُر .