مأساة عبد الرحمن الشرقاوي ومأساة الحسين!!

مأساة عبد الرحمن الشرقاوي ومأساة الحسين!!

أحمد راسم النفيس
باحث ومؤرخ
في أوائل السبعينيات وفي فترة النشاط الطلابي قمت بدعوة الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي وقت أن كان رئيسا لتحرير روز اليوسف لحضور ندوة في كلية طب المنصورة وعندما ذهبت إليه لتحديد الموعد النهائي وجدته في حالة من الغضب الشديد بعد أن جرى إلغاء مسرحيته الرائعة (الحسين ثائرا شهيدا) وكان أن اعتذر عن حضور الندوة.

ورغم أن الجميع يتحدثون في منتديات النفاق السياسي عن تشجيع الفن والثقافة والإبداع إلا أنهم يتنافسون بينهم (أيهم أشد وطأة وأثقل يدا على الإبداع) ويبقى (وأدهم) للحسين (شهيدا) شاهدا على البون الشاسع الذي يفصل ادعاءاتهم عن الحقيقة والصدق.
حينما يتعلق الأمر بواحد من خلفاء الفسق والفجور والمجازر الجماعية فلا بأس ولا اعتراض ولا حديث عن الفتنة التي تطل برأسها إذا علم الناس ب(الحقيقة) فالمهم هو تحسين صورة معاوية وهارون والحجاج (المفترى عليهم ورضي الله عنهم)!!.
إذا تعلق الأمر بعلي بن أبي طالب (باب مدينة علم رسول الله) والحسين (سيد شباب أهل الجنة) فعلى الفور تنطلق صفارات الإنذار وتدق أجراس الخطر (خوفا من الفتنة).. ألا في الفتنة سقطوا!!.
علي إمام المتقين
رغم أنني لم أتابع وقتها بدقة ملف كتاب (علي إمام المتقين) ولا ملف مسرحية (الحسين ثائرا شهيدا) إلا أنني أذكر تعليقا أوردته إحدى المجلات (في أي صورة سيقدم لنا الشرقاوي الحسين بن علي! في صورة ابن النبي أم في صورة جيفارا؟!) وهو تعليق يكشف عن خبث ودهاء ومحاولة وصم الكاتب العظيم بأنه عدو للدين يحرف الكلم عن مواضعه خدمة لأهداف الماركسية الصهيونية الخبيثة وكأن المقاتلين دفاعا عن الإمبراطورية الأمريكية في أفغانستان لم يكونوا كذلك لأنهم لم يكونوا ماركسيين!!.
ورغم أن الشرقاوي حاول في مقدمة كتابه (علي إمام المتقين) أن يخفف من تلك الحملة الضارية عندما قال: (ليس هذا الكتاب بحثا تاريخيا ولا هو كتاب سيرة ولا هو مفاضلة بين الصحابة ولا هو بدفاع عن حق أحد في الخلافة.. فمن كان يلتمس في هذا الكتاب شيئا من هذا فليعدل عنه إلى غيره).
(ذلك أن الإمام علي تجسدت فيه أخلاق الإسلام ومُثله فقد تعهده الرسول طفلا ورباه فتيا وقال عنه أنا مدينة العلم وعلي بابها. وقد علم الصحابة مكانة علي عند الرسول وأنهم ومعهم المسلمون في كل مكان وزمان ليقولون في كل صلاة: اللهم صل على محمد وآل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد).
إلا أن شيئا من هذا لم ينفع والسبب في ذلك أن غضب القوم لا يتعلق بطريقة تعاطي الكاتب مع المادة التاريخية بل لتعاطيه مع ما يود القوم طمسه وإبقائه طي الكتمان.
الهجمة على الشرقاوي
يقول الراحل الكبير (كنت أنشر هذا الكتاب في جريدة الأهرام كل أربعاء منذ رمضان الماضي وعندما وصلت إلى موقف علي وأبي ذر من المال, كتب الصديق ثروت أباظة معلنا خلافه معي حول هذا الموقف من المال وزعم أنه موقف الشيوعية لا موقف الإسلام فرددت عليه في ظل من الاحترام والود المتبادل ولكن الصديق ثروت لم يكد يعلن رأيه حتى انفجرت ضدي ثورة سماها الصديق الجليل الدكتور الطيب النجار ثورة ظالمة. وكأن الذين أشعلوها كانوا ينتظرون إشارة البدء فقد استغلوا كلام الصديق ثروت أباظة وأولوه ضدي مما اضطره إلى أن يكتب مرة أخرى ليزجرهم وينهاهم عن استغلال اختلاف خلاف الرأي فيما بيننا).
قتال أهل البغي!
(ولقد أجمع أئمة الإسلام على أن أحكام قتال أهل البغي إنما وضعها الإمام علي خلال حروب الفتنة الكبرى وفصل الإمام الشافعي ذلك في موسوعته”الأم”وهذه نتيجة انتهى إليها أئمة أهل السنة من قبله ووصى بها الإمام أحمد بن حنبل أصحابه من بعده فقال لهم (ما ابتلي أحد قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقتال أهل البغي).
(وما أظن أحدا يستطيع أن يتهم أئمة أهل السنة بإهانة الصحابة وهم أكثر معرفة بمكانتهم من العلماء المعاصرين).
(وأود آخر الأمر أن أؤكد للذين اتهموني بالأخذ بالروايات الضعيفة أو بالاعتماد على كتب غلاة الشيعة أنهم لم ينصفوا أنفسهم إذ خالفوا الحقيقة فقد تحريت ألا أعتمد إلا على المراجع الموثوق بها من كتب وموسوعات أهل السنة وحدهم لأسد الذرائع أمام من يحاولون إثارة الفرقة أو إيقاظ الفتنة النائمة بين الشيعة والسنة لا لأني أشك فيما كتبه مؤرخو الشيعة وفيهم مؤرخون ثقات). (وأود آخر الأمر أن أؤكد أننا في مصر لا نعرف هذا الخلاف الغريب بين المذاهب الإسلامية ونحن نصلي وراء الإمام الصالح شيعيا كان أم سنيا مالكيا كان أم حنفيا ونحن ننتمي إلى الإسلام ونحترم كل أئمته على السواء لا نفرق بين أحد منهم ولا نعرف هذا الخلاف بين المذاهب).
أزمة مصادر أم أزمة ضمير؟
ما قدمه الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي من دفوع لا ينفع شيئا مع أناس لا هم لهم إلا طمس الحقيقة وهم غير مهتمين بالبحث والتحري ولا الرواية أو الدراية وبالتالي فلا جدوى من إثبات سنية المصدر أو الحديث عن وثاقته فهم لا يختلفون شيئا عن أولئك الذين قالوا (قلوبنا غلف)!!.
الأمر الثاني يتعلق بمحاولة وصف ما قدمه الكاتب الراحل بأنه مؤامرة (ماركسية) لتصوير الحسين باعتباره (جيفارا) المسلمين وهو أسلوب تافه يمثل امتدادا لادعاء السبأية الأكثر تفاهة والمهم أن بئر التفاهة لا ينضب!!.
أحد أهم أسباب الغضبة (المضرية) من الشرقاوي هو تأكيده على اعتماد الإمام علي لمبدأ العدالة والمساواة في مواجهة التمييز بين البشر لأسباب سياسية أو دينية أو حتى جهادية ولا نظن أن عاقلا يمكن له أن يزعم أن العدالة الاجتماعية هي اختراع ماركسي مثلما يصر منزوعو الأدمغة.
يعرض الشرقاوي لبعض أسباب الأزمة الكبرى التي مرت بها الأمة الإسلامية في صدر تاريخها والتي نشأت بسبب (سياسات عثمان المالية) حيث يقول مدافعا عن عثمان (أسرف أقوام على عثمان في الملامة إسرافا شديدا وأعرضوا عنه إعراضا حتى لقد سلبوه محاسن نفسه. من أجل ذلك اضطر علي للدفاع عن عثمان فيما يعتقد أنه أحسن فيه على الرغم من أنه أخذ عليه أمورا كان لا يألوه فيها نصحا وموعظة. ومهما يكن فقد شجع الخليفة عثمان على الإغداق في العطايا اتساع الفتوحات وتدفق الأموال والثروات على نحو لم تعرفه الأمة من قبل حتى لقد أصبح عند الزبير بن العوام ألف فرس وألف أمة وبلغت غلة طلحة من العراق ألف دينار يوميا وكان عند زيد بن ثابت الأنصاري من الذهب والفضة ما يكسر بالفئوس غير الضياع وكان لآخرين من بني أمية مثل هذا أو أكثر. ما من أحد يجد في هذه الثروات حرجا لا الخليفة ولا كبار الملاك فهي من أموال الغنائم إلا علي بن أبي طالب ومعه نفر من الصحابة منهم أبو ذر وسلمان.
وقد رأى علي أن الاستكثار من الأموال مذموم بل حرام إن كان في الأمة محتاجون أو جياع. وكان علي يرى أن ما فاض عن حاجة لمسلم لا يحق له وفي الأمة أصحاب حاجة فليجد به على أخيه الذي لا يجد وقد ظل يوصيهم بهذا حتى حسبوا أنه لا حق لأحد منهم في الفضل وأن حق الملك قائم في أساسه على العمل, على ما يكسبه الإنسان بعمله وأن الإسلام حرم أن يكون المال دولة بين الأغنياء ومن هنا اجتهد عمر وعلي وأيدهما عثمان فظلت الأرض الشاسعة المفتوحة في أيدي زارعيها على أن يكون خراجها ملكا للدولة. أما الأرض التي كان يملكها ملوك وأمراء وأغنياء البلاد المفتوحة فأصبحت بلا مالك وضمها عمر إلى بيت المال. فلماذا جعل عثمان هذا النوع من الأراضي قطائع أقطعها لبعض المسلمين بدلا من ضمها إلى بيت المال).
استخدم الشرقاوي إذن أسلوبا توفيقيا ولم يصدر أي إدانات وربما حاول الرجل تقديم اعتذارات لا يقدرون هم على صياغتها ومع ذلك يصر الكارهون للعدالة والحقيقة على إدراج ما كتبه في خانة (الشيوعية الحاقدة) وهو منهج قديم يكشف بوضوح عن أسلوب ضرب الفكرة من خلال طعن الكاتب في ضميره وتصوير الأمر للدهماء باعتباره جهادا في سبيل الله بقيادة هؤلاء الشيوخ في مواجهة كفار قريش بقيادة الشرقاوي!!.
وهب أن يهوديا أو نصرانيا قام بما تقاعس القوم عن القيام به وقد حدث هذا بالفعل, ألا يعد هذا عارا عليهم وليس عيبا فيه؟!.
الشرقاوي والفتنة الكبرى
يعرض الشرقاوي في كتابه (علي إمام المتقين) بأسلوب توفيقي لما سمي بعد ذلك بالفتنة الكبرى فهو على سبيل المثال يعرض لنفي أبي ذر إلى الشام باعتباره (مهمة كلفه بها عثمان) بينما تقول لنا مصادر التاريخ المختلفة أن الأمر كان نفيا إلى الشام.
(أرسل عثمان أبا ذر إلى الشام ليعمل بها ووجه عمارا إلى مصر وغيره من كبار الصحابة إلى الأمصار ليحققوا فيما يصنعه العمال فأقام أبو ذر فترة في الشام ثم عاد إلى الحج واستأذن الخليفة أن يبقى في مكة قليلا بجوار رسول الله فراعه أن الخليفة يغدق كل يوم جديد رزقا جديدا على بعض صحبه وقرباه. ولما رأى أبو ذر ذلك أنكر أن يكون مال المسلمين دولة بين الأغنياء من قرابة عثمان وأصدقائه. وجعل أبو ذر يقول”بشر الكافرين بعذاب أليم”ويرفع صوته ويتلو قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) التوبة 34 فأبلغ مروان بن الحكم مقالة أبي ذر إلى عثمان مرارا وهو ساكت ثم أنه أرسل إليه الخليفة وزيره مروان فقال له في خشونة أن أنت عما بلغني عنك فقال أبو ذر أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله؟!.)
كما أنه يلقي على عاتق مروان ابن الحكم مسؤولية الوقيعة بين أبي ذر وعثمان بن عفان وهو كما أسلفنا محاولة من الشرقاوي لتخفيف جرعة الحقيقة وإلقاء العبء الأكبر على مروان على خلاف الواقع التاريخي الذي لا يعطيه كل هذا الدور.
ويواصل الشرقاوي استعراض محنة أبي ذر الذي قال: (فوالله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي وخير لي من أسخط الله برضاه فنقل مروان كلام أبي ذر إلى عثمان على نحو أغضبه وصور له أبا ذر متحديا سلطانه ذلك ولكن عثمان صبر على أبي ذر. وجاء أبو ذر إلى عثمان وعنده جماعة من المسلمين فيهم كعب الأحبار وهو حديث عهد بالإسلام فسألهم عثمان: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال شيئا قرضا فإذا أيسر قضى الدين؟. فقال كعب الأحبار لا بأس بذلك فقال أبو ذر يا ابن اليهوديين أتعلمنا ديننا؟ فاحتج عليه مروان فأغلظ له أبو ذر فغضب عثمان وقال: قد كثر أذاك لي وتولعك بأصحابي إلحق بمكتبك بالشام).
(وما كاد أبو ذر يستقر بدمشق حتى بدأ ينكر على معاوية وصحبه بعض ما يفعلون. وكان أبو ذر يقول بالشام والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم و الله إني لأرى حقا يطفأ وباطلا يحيا وصادقا مكذبا وأثرة بغير تقى).
استخلاف علي بن أبي طالب
ثم ينتقل الشرقاوي إلى المنطقة الأخطر وهي انفجار الصراع بعد مقتل عثمان والبيعة لعلي بن أبي طالب حيث يورد خطبة الإمام علي عند استلامه الخلافة التي قال فيها: (ألا وإن كل ما أقطعه عثمان من مال الله مردود إلى بيت مال المسلمين فإن الحق القديم لا يبطله شيء ولو وجدته تفرق في البلدان لرددته فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق. ثم قال ألا إن هذه الدنيا التي أصبحتم تمنونها وترغبون فيها وأصبحت تغضبكم وترضيكم ليست بداركم ولا منزلكم الذي خلقتم له فلا تغرنكم فقد حذرتموها واستتموا نعم الله عليكم بالصبر لأنفسكم على طاعة الله والذل لحكمه جل ثناؤه فأما هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه أثره وقد فرغ من قسمته فهو مال الله وأنتم عباد الله المسلمون وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلمنا وعهد نبينا بين أظهرنا فمن لم يرض به فليتول كيف شاء فإن العامل بطاعة الله و الحاكم بحكم الله لا وحشة عليه).
يتحدث الشرقاوي في كتابه إذن عن تلك الصدمة التي أحس بها البعض لدى استلام الإمام علي للخلافة وإصراره على العودة إلى نهج النبي الأكرم ص القاضي بالمساواة بين المسلمين في العطاء وقراره بمصادرة كل ما جرى تملكه خارج إطار الشرعية الإسلامية الثابتة (لأن الحق القديم لا يغيره شيء).
كما يتحدث عن أسباب تمرد الحزب الأموي على الإمام علي (ثم قام الوليد بن عقبة بن أبي معيط فجاء إلى علي فقال يا أبا الحسن إنك وترتنا جميعا أما أنا فقتلت أبي يوم بدر صبرا وخذلت أخي يوم الدار بالأمس وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب وكان ثور قريش وأما مروان فسخفت أباه عند عثمان إذ ضمه إليه ونحن إخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما أصبناه من المال في أيام عثمان وأن تقتل قتلته وإنا إن خفناك تركناك فالتحقنا بالشام).
فقال الإمام علي: (أما ما ذكرتم من وتري إياكم فالحق وتركم أما وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم وأما قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس ولكن لكم علي إن خفتموني أن أؤمنكم وإن خفتكم أن أسيركم فقام الوليد إلى أصحابه فحدثهم وافترقوا على إظهار العداوة وإشاعة الخلاف).
ويورد أيضا حوارات الإمام علي مع طلحة والزبير ومطالبتهم بنصيب من السلطة (نشدتكما الله هل جئتماني طائعين للبيعة ودعوتماني إليها وأنا كاره قالا نعم, قال غير مجبرين ولا مقسورين فأسلمتما لي بيعتكما وأعطيتماني عهدكما قالا نعم قال فما دعاكما بعد إلى ما أرى قالا أعطيناك بيعتنا على أن لا تقضي الأمور ولا تقطعها دوننا وأن تستشيرنا في كل أمر ولا تستبد بذلك علينا ولنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت).
سياسات الإمام علي المالية
يقول الشرقاوي: وجاءه مال كثير من الخراج فقال الإمام اعدلوا فيه بين المسلمين ولا تفضلوا أحدا لقرابته ولا لسابقته فدفع عمار ومساعدوه إلى كل واحد ثلاثة دنانير لم يفرقوا بين عربي وعجمي وكان من بين هؤلاء طلحة والزبير اللذين اعتبرا هذا حرمانا لهما من حقهم المشروع.
لقد اجتمعت تلك الأسباب كلها وقادت القوم للوقوع في فخ الفتنة والفتنة هنا بمعنى الوقوع في الخطيئة لا بمعنى انعدام الرؤية والبصيرة التي يسعى البعض لأن يجعل منها قدر الأمة ومصيرها المحتوم.
الذي نخلص إليه أن الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي اجتهد أن يقدم في كتابه علي إمام المتقين صورة أقرب ما تكون إلى الواقع وأنه بذل جهدا كبيرا ومشكورا من أجل تحقيق ذلك فكان أن دفع ثمنا غاليا وهذا هو الطبيعي والمنطقي في عالم تسيطر عليه ثقافة العناوين والشعارات الفارغة من أي مضمون علمي أو أخلاقي.
الحسين ثائراً وشهيداً
إنها مسرحية شعرية رائعة بذل الكاتب في تأليفها جهدا خارقا. ويمكن لكل من يقرأ المسرحية أن يلحظ كيف استطاع الأديب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي أن يستوعب النصوص والوقائع التاريخية وأن يعيد صياغتها بلغة الشاعر المرهف المحب للحسين الذي يتفاعل مع كل حرف كتبه.
ها هو يحكي لنا كيف بدأت الأحداث بهلاك طاغية بني أمية المؤسس معاوية ابن أبي سفيان وكيف ابتهج المظلومون من أمة محمد بهلاكه:
المنظر الأول: زال الطاغية الأكبر/ سقط الدجال الأكبر/ هلك الفرعون المتجبر/ مات معاوية يا قوم/ فالحرية منذ اليوم أبشر يا (بشر) إذن أبشر.
يرد (أسد) وهو أحد المتنسكين المزيفين الذين ابتليت بهم أمتنا: أتشتم رجلا هو من صحب رسول الله/ وقد بشره بالجنة؟ فأبشر أنت بنار سقر.
سعيد: لا بل رجل لما آل الأمر إليه انفرد به حتى استأثر/ فعطل أصلا في الإسلام/ وزيف قاعدة الشورى/ وخالف نصا في القرآن/ وأهدر أحكام السنة/ قاتل جدي وهو يصلي/ لما اعترض على رأيه. أسد (المتنسك): قد كان يشاورنا في الأمر.
بشر: ليستكمل أبهة الحكم/ أنتم آفتنا الكبرى/ كنتم شكلا للشورى وكان رضاكم يسبقكم/ لم تفتح أفواهكم أبدا إلا لتقول نعم/ أخالف أحد منكم رأيا لمعاوية ثم نجا؟/ أنتم أنتم من ملكه/ فتعود ألا يسمع لا.
سعيد: آه منكم يا سراة الناس في هذا الزمن!/ أنتم يا من تألبتم على حكم علي عندما حاسبكم عما اقتنيتم/ عندما رد لبيت مال المسلمين ما كنتم كنزتم/ عندما نازعكم إقطاعكم/ ثم سوى بين كل المسلمين.
ثم يعرض لنا لمحة من الخطاب الحسيني السابق على رحيله من مدينة رسول الله حاملا معه موقف الرفض والإباء لقبول الظلم والطغيان وهو موقف عز على المتنسكين المزيفين قبوله وفهمه لأنهم يريدون أن يكون كل المسلمين مثلهم.
الحسين: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إذ أبعد عنك/ وأنا قرة عينك/ إنني أرحل عن أزكى بلاد الله عندي/ خارجا بالرغم مني/ غير أني../ أنا لا أعرف ما أصنع في أمري هذا فأعني/ أنا إن بايعت للفاجر كي تسلم رأسي/ أو ليسلم غيري لكفرت/ ولخالفتك فيما جئت للناس به من عند ربك/ وإذا لم أعطه البيعة عن كره قتلت!/ وإذا عشت هنا كي أحسد الناس عليه/ خاض من حولك بحرا من دماء الأبرياء!/ موقف ما امتحن المؤمن من قبل به/ أو سيق إنسان إليه/ امتحان كامتحان الأنبياء/ أترى أمنحه بيعة ذل؟/ بعدها آمن في بيتي وأهلي/ مثل شاة في قطيع!/
أنا ذا أرحل مقهورا –ولا حيلة-/ عن أرض المدينة/ ملعبي عند الطفولة/ ومراحي في الشباب/ ومنار العلم ومهد الغزوات/ حرم الله وحضن الذكريات/ ومثابات الخيال/ آه يا نبع الأماني الشريفة/ أنا ذا أخرج منها هائما تحت الظلام/ أنا ذا أحمل آلامي وأحلام الجميع/ كالمسيح المضطهد/ تتلقاه حراب الظلم في كل بلد/ وهو يمضي يغرس الأقدام في شوك السلام/ ليزيح الشوك من كل الربوع/ مثل موسى خارجا يوجس خيفة/ هاربا من بطش فرعون إلى التيه الفسيح المترامي/ ما علي النفس يخاف/ إنما يشفق أن يغلب الظلم ودولات الضلال/ إنني أخرج كي أنقذ أعناق الرجال/ إنني أخرج كي أصرخ في أهل الحقيقة:/ أنقذوا العالم, إن العالم المجنون قد ضل طريقه/ أنقذوا الدنيا من الفوضى وطغيان المخاوف/ أنقذوا الأمة من هذا الجحيم.
الحسين: ربي إلى من توكل العبد الضعيف؟/ أنا ذاك أدعوك مثل جدي/ حين طارده رجال من ثقيف/ قد أتاهم بالهداية/ إن لم يكن بك رب من غضبٍ علي فما أبالي!/ إني فزعت إليك من دنيا يزيد/ وهرعت نحو رحابك القدسي بالخير الطريد/ وبكل أحلام السلام وكل آمال العدالة/ أنا ذا لجأت إليك يا ذا الحول والجبروت يا رب الجلالة/ بضنى الفقير وعزة المستضعفين/ فيلفعل الأعداء بي ما يشتهون/ أنعم علي بفيض نور بصيرتك/ أنا لن أذل بعز جاهك/ يا من أرجي نوره الوهاج في سود الليالي/ أنعم علي بفيض نور بصيرتك/ لأرى الطريق إلى النجاة/ أنعم علي برحمتك/ ليظل قلبي قلعة للحب لا تتسلق الأحقاد فوق جدارها/ أو يسرب الشنآن من أبوابها/ أو تضرب الأطماع في أسوارها/ يا منتهى الرغبات يا أملي وغاية كل غاية/ أنت البداية والنهاية/ يا أيها الموجود بالذات العلية/ يا عالم الأسرار وحده/ يا أيها المعشوق وافاك المحب يبث وجده/ فامنحه شيئا من رضاك/ وأفض عليه بحكمتك/ فأرى الصواب من الجنون فلا أضل ولا أضل/ أنا ذا أذوب واضمحل/ وليس بالمعشوق بخل/ إني أعيذك أيها المعشوق عن كل الصفات/ فأنت موصوف بذاتك/ أنا لست أطمع في العبارة/ فالعبارة قد خصصت بها الكليم/ إني لأضرع طالبا منك الإشارة/ فالإشارة رائد فوق الطريق المستقيم/ إن كان ما بي مطمع للملك والمجد الموثل/ إن كان ما بي رغبة في أن أكون أنا أمير المؤمنين/ إن كنت مفتونا بأعراض الحياة ولا أحس/ إن كان ما بي شهوة للملك ولا تبين/ قد خالطت كوساوس الشيطان عقلي فالتبس/ ومضت تخادعني لتبرير الخطيئة مثل آدم/ فأظن أن تطلبي الدنيا دفاعا عن حقوق المسلمين/ وأخال أن تطلعاتي ثورة ضد المظالم/ إن كان بي هذا الفتون/ إن كان بي زهو خفي لابس زهد التقي/ فاسكب على قلبي شعاعا من جلال حقيقتك/ لأرى اليقين/ لأرى الحقيقة والخديعة في الذي هو كائن حولي وفيما قد يكون.
ثم يورد لنا خطاب الحسين وهو على أعتاب نيل شرف الشهادة ليصبح رمزا داميا للموت من أجل الحقيقة والإباء.
الحسين: فأنا الشهيد هنا على طول الزمان/ أنا الشهيد/ فلتنصبوا جسد الشهيد هناك في وسط العراء/ ليكون رمزا داميا/ للموت من أجل الحقيقة والإباء/ قطراته الحمراء تسرح فوق أطباق السحب/ كي تصبغ الأفق الملبد بالعداء/ ببعض ألوان الإخاء/ من قلبي الدامي ستشرق روعة الفجر الجديد/ من حر أكباد العطاش سينبع الزمن السعيد/ طوبى لمن يعطي الحياة لقيمة أغلى عليه من الحياة/ طوبى لأبناء الحقيقة أدركوا أن الإباء/ هو الطريق إلى النجاة/ وتذكروني دائما/ فلتذكروني كلما استشرت طواغيت الظلام/ وإذا عَدَتْ كِسفُ الجوارح فوق أسراب الحمام/ وإذا طغت نوب الحروب على نداءات السلام/ وإذا تمطى الوحش في الحقل الندي/ يلوك أحشاء الصغار/ وإذا طغت قطع الغمام/ على وضاءات النهار/ وإذا تأجج في النجوم بريقها تحت العواصف/ وإذا تمزق آمن تحت المخاوف/ وإذا مشى الفقهاء مخذولين/ يلتمسون عطف الحاكمين/ وإذا انزوى العلماء خوفا من صياح الجاهلين/ وإذا أوى الضعفاء للأحلام يقتاتون بالأمل الحزين/ وإذا دجى ليل الخطايا/ وإذا تبجحت الدنايا/ وإذا الفضائل أصبحت خرساء عاجزة/ وصوت الشر صداح مبين.
كتب الشرقاوي عليه رحمة الله ملحمة استشهاد الحسين بن علي بن أبي طالب كما لم يكتبها شاعر فكان أن استحق غضب من يزعمون أنهم يخافون على الأمة من الفتنة.
أي فتنة يخافون؟!.
فتنة الضلال والجهل الذي يعمه فيه المسلمون تحت توجيههم أم فتنة التحريض على القتل وسفك الدماء والاحتراب الداخلي التي ازدهرت وترعرعت بسبب هذا الجهل!!.
لم أر أمة يخالف فعلها قولها كهذه الأمة التي يزعم قادتها صباح مساء بأنهم يحبون أهل بيت نبيهم ثم يقتلونهم بهذه الطريقة البشعة ويصرون لمدة 14 قرن على أن من ينعاه ويبكيه ويحكي قصة ثورته واستشهاده هو مثير للشغب والفتنة وأنه شيعي سبأي وأخيرا ماركسي!!.
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.

عن بحث بعنوان
الثورة الحسينية في الادب العربي