عبد الملك نوري .. مسرحياً

عبد الملك نوري .. مسرحياً

د.جميل نصيف التكريتي
يحتل اسم عبد الملك نوري مكانة مرموقة بين رواد القصة الفنية في العراق منذ الاربعينيات ولقد تركت مجموعته القصصية نشيد الارض اثراً عميقاً في نفوس قراء القصة في عقد الخمسينيات واثارت منذ صدورها انذاك وما تزال تثير اهتمام مؤرخي القصة العراقية

ونقادها فهو في رأي القاص فؤاد التكرلي القاص الحقيقي الاول في العراق و اول من سعى الى توفير التقنية القصصية المعترف بها في الاداب الغربية للادب القصصي في العراق وانه بعيد ـ في راي مهدي عيسى الصقر ـ الوجه المتفرد الذي يكتب القصة بغزارة اما بدر شاكر السياب فيرى ان مجموعته القصصية نشيد الارض سدت الفجوة الواسعة بين القصة القصيرة في الادب العربي ومثيلاتها في الآداب الاوربية المتقدمة بينما يرى غائب طعمة فرمان ان عبد الملك نوري انتج قصصا جديدة كل الجدة على وسطنا الادبي وانه استاذ الجيل في راي عبد الصمد خانقاه
اما عامر رشيد فيتهم عبد الملك نوري بانه يفرض على ابطاله افكاره وان صوره تختلط مع بعضها بحيث يغرق مضمونه في ضبابية لايمكن معها فهم هذه القصص بينما يرى محيي الدين اسماعيل في الاشكال التي ينتقيها عبد الملك نوري اضطراباً في عرضعها واشكاله في الحياة وانما مضى يبحث عنها فيما كتبه الاخرون الخ كل هذه الاراء وغيرها مما احاطت به دراسة الدكتور عبد الاله احمد الرائدة ووثقته يدل بوضوح على المكانه التي يحتلها عبد الملك نوري في ميدان الابداع القصصي في العراق يقابله غياب اسم عبد الملك نوري في الوسط المسرحي العراقي وفي الدراسات التي اظهرت اهتماماً عارضاً او استثنائياً بالنشاط المسرحي على مستوى التاليف او التمثيل.
ليس من الصواب البحث عن تفسيرات تبسيطية وسهلة كان نعزو ذلك الى ضآلة حجم الاعمال المسرحية التي الفها عبد الملك نوري بالمقارنة مع حجم اهتمامه بالقصة ان الخبرة المستمدة من تاريخ الادب العالمي تؤكد ان عملاً مسرحياً واحداً او مجموعة قليلة من هذه الاعمال كافية اذا ما توفرت لها عوامل النجاح ان تؤمن لمؤلفيها حظوراً مرموقاً في هذا الميدان يحضر الذهن في هذه المناسبة غوغول الذي تعد مسرحيته المفتش مدرسة قائمة بذاتها تخرجت منها اجيال متعددة من مريدي الفن المسرحي منذ ظهورها في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي والى الان هناك الى جانب غوغول كل من بوشكين وتولستوي وتشيخوف وغوركي الذين كان لكل منهم دوره الواضح ومكانته المرموقة في الحركة المسرحية مقارنة بما كتبوه من فنون ادبية اخرى يقابل ذلك ان عبد الملك نوري اظهر اهتمامه بالشكل الحواري في الابداع الادبي في مرحلة مبكرة في حياته الفنية فقد تصدرت رسل الانسانية وهي مسرحية قصيرة او حوارية اولى مجاميع عبد الملك نوري القصصية وجعل من اسمها عنوانا لهذه المجموعة يقوم ذلك دليلاً على اهتمام عبد الملك نوري المبكر بالادب المسرحي وهو ما يزال في بداية حياته الابداعية بالاضافة الى ذلك فقد كان بطل مأساة الفن وهي الفقرة الثانية في المجموعة القصصية المذكورة كاتباً مسرحياً اتخذه المؤلف وسيلة للتعبير عن ارائه حول الفن بعامة وعن الصعوبات التي كانت تعترض طريقه وهو يكتب للمسرح لقد اثار المؤلف على لسان بطله اعترافات صريحة بعجز موهبته وادواته التعبيرية عن الايفاء بمتطلبات الكتابة للمسرح ومع ان بطل القصة حاول ان يلقي تبعة هذا العجز على عاتق الحياة الاجتماعية التي جعلته مقيداً في انتاجه مغلول التفكير مغلول الخيال مما ينتقص من قدر عبقريته بل يسجنها بين حدود ضيقة الا انه يعترف ان هذه الحياة الاجتماعية نفسها لم تحل بين عبقريته وبين ان تجد هذا الانطلاق وذاك التمرد في تلك المقطوعات النثرية الصغيرة التي كان ينشرها هنا وهناك في المجلات المحلية وفي منشورات الاقطار الشقيقة الادبية واضح ان المقصود بالمقطوعات النثرية الصغيرة تلك القصص القصيرة التي كانت وراء المجد الادبي الذي تمتع به عبد الملك نوري منذ ذلك الحين.
يصف الرواية بطل قصة مأساة الفن بانه قلق لايكاد يستقر في مكان يبحث عن الهدوء والطمأنينة والراحة فلا يجدها في الامكنة التي يبحث عنها فيها حتى ان الكتب في مكتبته قد علاها الغبار بسبب الاهمال لقد مل الشهرة بعد ان نالها وهو ينذر نفسه للفن يقصد فن الكتابة المسرحية ولكن آه من الفن آه منه انه يتطلب شروطاً كثيرة.
اجل ان الكتابة المسرحية تتطلب شروطاً كثيرة والتزاماً بامور متعددة الاطراف اعترف بذلك كتاب المسرحية ومنظور الادب المسرحي ان المزاجية والنزعة الفردية والضيق بالانضباط الذي تتطلبه الكتابه المسرحية وعدم الالتزام بالقواعد والضوابط النابعة من جوهر فن الكتابة المسرحية قاد عدداً كبيراً من الرومانتيكيين وعلى رأسهم الشاعر الرومانتيكي الكبير بايرون الى كتابة اعمال درامية غير صالحة للتمثيل على خشبة المسرح وان كانت من عيون الادب العالمي وغرره.
اذن فقد احس الاديب عبد الملك نوري وهو ما يزال في بداية شوطه الابداعي ان الكتابة للمسرح عملية شاقة وتتطلب من المواهب والمؤهلات والصبر ما يفوق كثيراً ما تتطلبه الكتابة في الميادين الاخرى للابداع الادبي شعراً وقصة تتضمن قصة مأساة الفن مقطعاً فريداً في بابه يصف الرواية فيه بطل القصة وهو كاتب مسرحي اسمه رمزي في واحدة من ازمات الابداع التي كانت تمزق عقله ونفسه.
اراد ان يكمل حديثه مع نفسه فقاطعه خاطر مفاجئ ومض في ذهنه ومضاً خاطفاً وجعله ينقلب الى المائدة الخشبية الوحيدة ثانية ويتناول من فوقها كراسة شاحبة الغلاف اخذ يقلب صفحاتها المسودة بالحبر حتى وقعت عيناه على الصحيفة التي يريدها فقرأ في اعلاها للمرة العاشرة: الفصل الرابع ـ المشهد الاخير وللمرة العاشرة ايضاً تناول القلم وجلس يفكر ولكنه ما لبث ان رماه والكراسة جانباً واخذ يتمشى من جديد لقد مضت على الاستاذ رمزي ساعة وبعض الساعة وهو يحاول ان يكمل روايته المسرحية الجديدة الا انه لم يوفق الى شئ يسود به الصحائف الاخيرة من هذه الرواية.
لقد احس بالجدب يسري في قريحته وبالخمول يطغى على تفكيره فلم يستغرب ذلك ولكنه تافف .. وتأوه..
لقد كان احساس بطل القصة عميقاً بازمته الفنية ولقد عبر عن هذا الاحساس نيابة عن المؤلف وبتخويل مباشر منه كذلك فكر بطل القصة بالبحث عن مخرج من هذه الازمة فاين يكمن في رايه ـ الذي هو راي المؤلف عبد الملك نوري نفسه ـ هذا المخرج؟ يخبرنا الراوية ان البطل((تمنى لو كان في غير هذه البلاد(حيث لايقدر الشعب فنانيه حق قدرهم فلا يلتفت اليهم ولايعيرهم اهتماماً ولايشجعهم ولاييسر سبل الحياة امامهم)). هل يعتقد الاستاذ عبد الملك نوري ان شكسبير ابدع روائعه بفضل التقدير الكبير من جانب الشعب والدولة؟ الم يصل الى عمله ان بلدية لندن كانت تلاحق الفرق المسرحية وتعاملها وكانها فرق غجر؟
ويواصل الراوية مراقبة البطل ووصفه حالته الفكرية والنفسية :((تمنى لو يفسخ العقد بينه وبين فرقة عشاق الفن ـ الفرقة التمثيلية المعروفة ثم يفر بجلده هارباً الى اين؟
لايدري الى اين! ولكنه على كل حال ناقم ساخط بل في اشد حالات سخطه ونقمته ان في نفسه لهيباً يضطرم وفي راسه تعصف الافكار عصفاً)) ان الادب المسرحي ادب مواجهة وتحد لا ادب هروب امام الصعوبات وانكفاء الى الذات.
ولكنها ـ صفة الهروب ـ هي الصورة المركزية في ادب عبد الملك نوري ومن هنا الاثر المدمر لمثل هذه الزاوية من زوايا تناول العالم على جهود الاستاذ عبد الملك نوري في ميدان الكتابة المسرحية.
ان الادب المسرحي هو الادب الاكثر موضوعية بين انواع الابداع الادبي انه الادب الذي يغيب فيه صوت الكاتب وراء مائة حجاب وحجاب بعكس الشعر الغنائي الذي يشكل في احسن حالاته بوحاً مباشراً من جانب الشاعر بمكنونات نفسه وتباريح روحه وتمزقها وبعكس الادب القصصي بما في ذلك الادب الروائي الاكثر موضوعية بين فنون الابداع القصصي هذا الادب الذي يوفر للمؤلف اكثر من قناة واحدة يوصل من خلالها صوته بصورة مباشرة او غير مباشرة.
لقد حاول عبد الملك نوري من خلال بطله في قصة مأساة الفن ان يبرىء نفسه من مسؤولية فشله في ميدان الكتابة المسرحية وان يلقي تبعة ذلك على الحياة الاجتماعية التي لم تجعل كل شئ ميسوراً له ولم تمكنه من الثروة والقصر والسيارة والمتع والعشيقة بل العشيقات على حد تعبير بطله لقد اعتقد واهماً انه من اجل ان يثمر فنه وينمو كان على الحياة ان تحقق له حلمه بـ حبيبة مثالية تسمو على هذه الارض وتكاد تكون اقرب الى الملائكة منها الى البشر على ان تتوفر فيها الصفات الارضية التي يحبها الاستاذ ويهيم بها ولايستطيع ان يتصور حبيبته من دونها وهي ان يكون لها: فم قان صغير وعينان زرقاوان واسعتان وشعر جعد ذهبي وقامة هيفاء وخصران نحيلان وبشرة ملساء ناصعة البياض الخ هذه هي نقطة الضعف القاتلة في مجمل تصورات عبد الملك نوري الكاتب المسرحي لقد كان يحلم بالجاه والثروة وتساقط العشيقات على اقدامه في قصوره الخيالية التي ترابط عند ابوابها افخم انواع السيارات وذلك على طريقه الفنانين العظام في الغرب!!
فهل يفكر عبد الملك بطرق الآلآم التي قطعها كل من هؤلاء الفنانين فادمت اقدامهم وقرصت اجسامهم قبل ان يدركوا هذه المكانة؟
لقد كان الفن دائماً سلاحاً ماضياً استخدمه الانسان في سبيل تغيير العالم من حوله اما المسرحية فقد كانت دائماً من امضى هذه الاسلحة سلاحاً فعالاً كان لابد لها من التحلي بنزعة المواجهة كان لابد لمؤلفها من الخروج من شرنقة عالمه الداخلي الذاتي الى عالم الحياة الواسع والرحب ليكون شاهداً موضوعياً قادراً على فضح اسرار هذه الحياة
وخباياها، محتفظاً لنفسه بارائه الشخصية واحكامه المباشرة،موفراً مقداراً واحداً من الحرية لممثلي جميع الشرائح الاجتماعية للاعراب عن نواياها وقيمها ونظرتها الى العالم. فماذا فعل بطل عبد الملك نوري ؟ لقد كان صادقاً وهو يصف العالم من حوله بالكآبة وبانه "يضيق عليه شيئاً فشيئاً...؟" ومن حقه ان يمقت هذا العالم اشد المقت، ولكن ماذا بعد ذلك؟ ان جواب بطل عبد الملك نوري عن هذا السؤال يشكل نقطة الضعف القاتلة في نشاطه المسرحي. لقد هرب الاستاذ رمزي بطل قصة "مأساة الفن" من هذا العالم بدلاً من مواجهته وتحديه.
الغريب في الامر ان عبد الملك نوري كان صائباً جداً وهو يشخص على لسان بطله اهم العيوب التي يمكن ان تتعرض لها المسرحية، غير ان الاغرب من ذلك ان عبد الملك لم يفعل شيئاً لتجنب هذه العيوب، بل اكدها واصر عليها حينما عاد الى الكتابة المسرحية بعد فترة انقطاع طويلة نسبياً كما سنرى .فما هي عيوب مسرحيات البطل ـ التي هي بالتاكيد عيوب مسرحيات المؤلف نفسه ـ كما يشخصها الراوية؟ يقول الراوية:
"كانت هذه الرواية اخر اربع روايات قدمها الاستاذ للمسرح. وكانت جميعها تمتاز بجو من التشاؤم. يثقل على النفس ، وينفر الانسان من الحياة ، ويكرهها له ..." وبعد ان لخص عدداً من العوائق والقيود الاجتماعية التي تشل تفكير الاديب وخياله وتكبل عبقريته يقول الراوية انه " بالرغم من كل تلك القيود،وبالرغم من العنف الذي يلقاه الاستاذ عند التاليف ، فقد استطاعت عبقريته الوقادة ان تترك للجيل الحاضر ، او كما كان يعتقد ] للاجيال المقبلة التي ستقدر فنه حق قدره، اعظم رواية عرفها الادب العربي الحديث [ ..." ويصف الراوية هذه المسرحية بأنها "قليلة الحوادث ، مغرقة في التحليل النفسي وخاصة في تحليل النفوس الشاذة التي لا تتلاءم والبيئة المحيطة بها . فبطلها شاب موسيقي موهوب، يصعد الى اوج قمم المجد بفنه ويصبح علماً من فوق نار ... ولكنه روح نبيلة، روح ملائكية رقيقة قدر لها ان تهبط في هذا العالم المليء بالدنس والشرور فتاخذ بالتخبط وبالاضطرار بالثورة على العالم الفاني. احب هذا الرجل .. اجل .. ومن كان مثله لا يستطيع العيش بغير حب. ولكنه كان في حبه خائباً محزوناً ، اذ ذهبت عبثاً كل تلك السنين التي قضى في التفتيش عن مثله الاعلى بين النساء.
لان من احب كانت كغيرها من بنات جنسها ، أمرأة من لحم ودم ، لا تقدر فيه عبقريته ، ولاتقدر فيه فنه ، وانما تقدر جسده فقط وتعبد لذتها فيه ، فهي اذن تجهله..تجهل نفسه.. وتجهل كل شؤونه الروحية وشؤون حبه العلوي .. فينبذها، اذ يجدها تؤثر تاثيراً سيئاً في انتاجه الفني ، وترسل العقم في مواهبه".
بهذه الطريقة تتداخل الصورة التي يقدمها الراوية عن بطل قصة "مأساة الفن" ـ وهو كاتب مسرحي ـ مع صورة بطل واحدة من اهم مسرحياته الاخير لتكونا صورة واحدة تشكل ركنا اساسياً من سيرة المؤلف الذاتية. ويواصل الراوية ـ المؤلف تلخيص السيرة الذاتية لبطل المسرحية داخل القصة قائلاً:" وينقلب الى فنه فتشغله شواغله عنها حينا من الزمن ، ولكنه لا يلبث ان يجد نفسه فجأة وقد شقه السقم وامضه الحب واجج في قلبه نيرانا جائعة نيرانا تلتهم على مر الايام صبره، وتلتهم جلده ، وتلتهم عزمه.
فيعود اليها صاغراً، ويعود اليها ذليلاً مستغفراً ويعود اليها ليقضي عمره معها ولكن ... تعود ايضاً الى نفسه وساوسها، وتعود الى قلبه الامه ، وتعود هذه المرة بعنف اشد، فيتركها ويترك الفن ، ويصبح مخبولاً ، مدمناً على المسكرات ... هائماً على وجهه في الطرقات .." الخ.
وهكذا يتضح ان عبد لملك نوري يشطر نفسه الى راوية القصة، وبطلها الكاتب المسرحي ، ويكلف البطل بكتابة مسرحية تعالج حالات الاحباط والفشل في حياة بطلها الفنان بدوره هو الاخر، هذه الحياة التي تنتهي نهاية مأساوية بهجر الفن والادمان على المسكرات ثم الانتحار . وهكذا تتطابق السيرة الذاتية لبطل المسرحية داخل القصة في معظم تفاصيلها واجوائها مع حياة المؤلف عبد الملك نوري الذي وزع حلقات مهمة من سيرته الذاتية على عدد من قصصه ومعظم مسرحياته التي سيكتبها في فترة لاحقة.
وهكذا فقد أدخل عبد الملك نوري ـ الانسان والمبدع ـ نفسه داخل هذه الدائرة الضيقة والمغلقة ونسي تقريباً ضجيج الحياة وصخبها واضطرابها في العالم الواسع من حوله.وبعد انقطاع عن الكتابة المسرحية دامت اكثر من ربع قرن صدرت لعبد الملك نوري مسرحية "خشب ومخمل" عن دار الحرية للطباعة (1972) وفي هذه الفترة ايضاً نشرت له مجلة الكلمة مسرحية "القاذورات" وهي مسرحية قصيرة . ولديه دفتر مسودة يضم بين دفتيه ثماني مسرحيات قصيرة كتبها المؤلف خلال الاشهر الثلاثة الاولى من العام 1972 نفسه. كان من حق المتتبع للادب العراقي بعامة وادب عبد الملك نوري بخاصة ان يجد في المسرحيتين المنشورتين مؤخراً وفي المسرحيات المخطوطة التي كتبت في الفترة نفسها ما يدل على حدوث تحول في مستوى الابداع المسرحي عند عبد الملك نوري تبرر انقطاعه عنه مثل هذه الفترة الطويلة بالنسبة لحياة المبدع ، وبعد ذلك التشخيص الصائب والدقيق لجوانب االضعف التي عانى منها ابداع المؤلف المسرحي.
سيكتشف من يقرأ مسرحيات عبد الملك نوري الاخيرة ان المؤلف مايزال حبيس عالمه الفردي ـ الشخصي الضيق ، وان بطله في معظم الحالات ، او قل ابطاله يمثلون مجموعة صور اخذت من زوايا ذاتية متنوعة لبطل واحد، وهذا البطل يذكرنا ببطل مسرحية الاستاذ رمزي بطل قصة "مأساة الفن" . كان يمكن لمسرحية "خشب ومخمل " ان تبدو للوهلة الاولى استثناء من هذا الحكم العام. اما بطلها فهو شاه ايران السابق محمد رضا بهلوي الذي اخفاه المؤلف وراء قناع يحمل اسم الملك هيرام، واما بطولتها النسائية فتتقاسمها كل من زوجة الشاه ثريا التي اخفاها المؤلف وراء اسم نسرين، وزوجة الشاه الاخيره فرح ديب باسم وردة شاه التي حلت محل الزوجة السابقة بسبب الملابسات المتعلقة بانجاب ولي عهد يرث العرش.
وعلى الرغم من ان موضوع المسرحية يشكل في اهم خطوطه حقيقة تاريخية معروفة فان ذلك لم يمنع المؤلف من تحويل بطل المسرحية الملك بهرام الى واحد من ابطاله المهزوزين الفاشلين في حياتهم الزوجية المتهمين في رجولتهم المتسولين بالمخدرات او المسكرات لدفن همومهم. اما تظاهر هذا الملك بالقوة والقسوة في بداية المسرحية فكان مجرد قناع سرعان ما انكشف زيفه.
دودو بطل مسرحية "القاذورات " المنشورة في مجلة الكلمة اوائل السبعينيات ،اديب فاشل مدمن على الخمر ويائس:
دودو: ماذا يمكن ان يكون انضج من كوننا احياء ولدنا كي نشقى ثم نموت لنمسي طعاماً للدور؟
ثم باطل الاباطيل . كل شيء باطل وقبض الريح. ما فائدة العمل ... الخ.
بطل مسرحية "القاذورات" امتداد لبطل قصة "مأساة الفن" حيث يعترف بنضوب عبقريته:
دودو"(يرمي القلم جانبا بحدة ويشرب) الشرارة انطفأة ، شرارة العبقرية لم تعد تضىء المسكين. ما العمل ؟ مات دوستويفسكي الوليد، مات قبل اوانه،مات بين القاذورات ... ان بطل المسرحية متهم برجولته وتتهمه زوجته بالجبن وانه من اولئك الناس " الذين يعشقون انفسهم" وانه لا يفكر بالاخرين ولايعمل من اجلهم وانه امضى كل حياته في خدمة نفسه فقط وانه لم يفهم يوما ما هي الحياة ... وانه سكير فاشل ...الخ
بامكان الباحث ان يوزع عبد الملك نوري، القصصي منه والمسرحي على مجموعتين : احداهما تكون ، السياسي الى العالم ، اما الاخرى فتكون ، بهذه الدرجة او تلك ايضا ، الصدق بحياة الاديب الداخلية ،بالرؤى والاحلام والكوابيس النابعة من اعماق روحه، ومن لا وعيه من عالمه العاطفي والشعوري. ينطبق ذلك على مسرحيتي عبد الملك نوري المنشورتين في مطلع عقد السبعينيات : " خشب ومخمل"، و "القاذورات " فمع كون المسرحية الاولى تكون اقرب الى الخط الاول من حيث السمات الخارجية لموضوعاتها الا ان النشيد الداخلي لعوالم شخصياتها الروحية والعاطفية والنفسية يشكل ممرا خفيا يربطها بمجموعة الخط الثاني. وبالعكس فمسرحية القاذورات الصق بخط المجموعة الثانية، ذلك ان الرؤيا الفكرية ـ السياسية للمؤلف شكلت اطاراً جسم وابرز كل سلبيات البطل السلبي عند عبد الملك نوري : الخور ، العقم ، السلبية، الادمان على المسكرات..الخ
سبق ان اشرنا الى ان لدى عبد الملك نوري ، دفتر مسودة يضم ثماني مسرحيات قصار كتبها خلال الاشهر الثلاثة الاولى من عام 1972 وهذه المسرحيات هي : ـ " النصب العظيم" و "محكمة" و "سيزيف" و"البغل واللص" و "الليلة بدأ الربيع" و"انا انسان" و "لعب الاطفال " و "سلطان" وهذه المسرحيات هي الاخرى تتوزع على مجموعتين : تستمد الاولى مواضيعها من افكار الكاتب السياسية المباشرة فجاءت شخصياتها اقرب الى رموز المسرحيات الاخلاقية في القرون الوسطى ، سيما في مسرحية "البغل واللص" واقل اقرب الى "الروبوت" و "انا انسان" اما المجموعة الاخرى فتغور موضوعاتها بدرجات متفاوتة طبعاً ، في اعماق الا اللا وعي الشخصيات وعقدها النفسية، واحباطاتها، وهزيمتها امام قوة القوى الخارجية ، الى هذه المجموعة تنتمي كل من مسرحية "محكمة" و "لعب الاطفال" و "الليلة بدأ الربيع " الى حد ما. اما مسرحية "سيزيف " فكان بالامكان ان تتحول لو توفرت لها العناية الكافية من المؤلف، الى مسرحية تمجيد رائع لصمود الانسان النبيل المدافع عن حقه في تحقق سعادة الحياة على الارض ولكن قوى القهر والقسر والقمع والانانية تصادر هذا الحق. غير ان المعالجة كانت مبتسرة فبدأ لنا بطل المسرحية اقرب الى المستسلم الخائر المتشائم والعبثي. في المسرحية عدد من الثيمات الصغيرة توزعت على امتداد المسرحية الصغيرة،لو توفرت لها معالجة مناسبة، لو اشبعت معالجة فكانت مسرحية من نوع اخر.
لي ملاحظة على مخطوطة الاديب عبد الملك نوري، ان هذه المسرحيات قد كتبت كما يبدو ، على عجل وانها تقدم اكثر من دليل على ان الاديب لم يضع في حسابه امكانية عرض هذه المسرحيات على المسرح. ان مسرحية مثل "النصب العظيم" قد تجاز من اجل الطبع لكن لايمكن ان تجاز للعرض على المسرح. ينطبق ذلك على مسرحية "رسل الانسانية" التي تنتمي الى المرحلة الاولى من ابداع المؤلف، اما المسرحيات الاخرى فلا تسلم في معضمها مما يشكل عائقاً يحول دون التفكير بتقديمها على خشبة المسرح.
من بين العوامل الاخرى التي تقلل من اهمية الجهد الذي يبذله كتاب القصة في ميدان المسرح اصرارهم على كتابة المسرحية الصغيرة مما يحول دون تطوير ادوات ابداعهم اللازمة لتناول العالم من زاوية درامية. ارجو ان نجد في وقت قريب بين ايدينا ثماراً حقيقية من الابداع المسرحي ذي الحجم الكبير الذي يفجر طاقات الاديب من ناحية، ويكون قادراً على معالجة القضايا الكبرى في حياتنا العامة من الناحية الاخرى.
هذا تناول سريع للابداع عند عبد الملك نوري اريد له ان يكون تعريفاً عاماً ومدخلاً الى دراسة تفصيلية نرجو ان تساعدنا الظروف على انجازها لتاخذ مكانها الى جانب الابداع المسرحي لعدد اخر من الادباء العراقيين.
الهوامش
1.جاء ذلك في " كلمة" التي قدم بها القاص فؤاد التكرلي مجموعة عبد الملك نوري الاخيرة "ديون الخريف" .دار الشؤون الثقافية العامة"افاق عربية" بغداد 1987.
2.انظر:الدكتور عبد الاله احمد ، "الادب القصصي في العراقي منذ الحرب العالمية الثانية"،دار الحرية للطباعة والنشر بغداد 1977 ص 157وما بعدها.
مجلة الاقلام
ملف خاص عن عبد الملك نوري تشرين الاول 1989