أدوار نادرة لسيد درويش.. الخروج من المقامات التقليدية

أدوار نادرة لسيد درويش.. الخروج من المقامات التقليدية

كريم جمال
على غرار قوالب الموسيقى الغربية، تعددت قوالب التأليف الآلي في الموسيقى الشرقية، وقد انقسمت تلك القوالب الشرقية إلى ما هو تركي الأصل، كـ«البشارف» و«السماعيات”و«اللونجات»، وإلى ما تفنن فيه الموسيقيون العرب، كـ«التحميلات”و«التقاسيم الحرة» غير المقيدة بهيكل محدد.

وكما ظهرت أنواع للتأليف الآلي المنفرد، ظهرت أشكال للغناء الشرقي؛ فتنوعت ما بين «القصيدة» و«الموشح”و«الموال”و«الطقطوقة”و«المونولوج» و«الدور»، وللدور أهمية خاصة بين تلك القوالب العربية؛ فهو يظل دائمًا الأكثر تعقيدًا، والأجدر في إظهار إمكانات الملحن، والمطرب الذي يؤديه، بل إنه يمثل نقطة التلاقي بين جميع فنون الغناء الشرقي؛ فمن يتعامل مع ذلك الفن عليه الإلمام بأساليب التلحين، ودروب الموسيقى العربية؛ لكونه فنًا شاملًا، يجمع المقامات والإيقاعات المختلفة داخل صورة واحدة.

وإن كانت مهمة ملحن الدور كبيرة، فمهمة المطرب أكبر؛ فالمطرب الذي تؤدي حنجرته فن الدور يلتزم التزامًا كليًا بالنص الموسيقى المكتوبأ وإن طرق باب الارتجال، وجب عليه معرفة طريق العودة للارتكاز على المقام الرئيس, الذي صيغ منه جسد الدور.
ويتألف الدور من خمسة أقسام، تبدأ بـ«المذهب»، الذي يكون المدخل الرئيس لقالب الدور، وفيه يتجلي مقام الدور، حتى نهاية المذهب، ويصاغ ـ غالبًا ـ على إيقاع «الـمصمودي»، ثم ينتقل إلى «الغصن»: الذي يطابق في الواقع لحن المذهب، لكنه، في لحظة ما، يتشعب بمجموعة من «الردود”التي ترددها «البطانة» المشاركة مع المطرب؛ إذ يتناوب المطرب والبطانة ترديد جمل مختلفة، من حيث الصياغة اللحنية، وتنتهي تلك المبادلة الغنائية بـ«قفلة ما» تضع المطرب داخل مرحلة الآهات؛ إذ يظهر المطرب قدراته في التعبير عن أجواء اللحن بمجموعة من الآهات، قد يستبدل بها غناء «يا ليل يا عين»، ويعتبر لقسم «الهنك» مكانة كبرى داخل الدور؛ فهو المساحة الكبرى التي تظهر فيها إمكانات المطربـ وقدرته على الوصول إلى أعلى الدرجات الموسيقية، وقدرته على الرجوع بسلاسة مرة أخرى إلى درجة «ركوز”مقام الدور؛ للتمهيد لنهاية مطربة، أو قفلة «حراقة»، على حد تعبير «الموسيقار محمد عبد الوهاب»، وقد اعتبر الملحن «محمد عثمان”(1855- 1900) رائد ذلك الفن الغنائي؛ إذ استطاع محمد عثمان إعادة تطوير شكل فن الدور، وترسيخ عدد من الثوابت الموسيقية به، والتي صارت ـ فيما بعد ـ علامات إرشاد لكل من يقترب من عالم الدور.
دور «كادني الهوى» لمحمد عثمان
وبالرغم من الحكم الذي اعتاد مؤرخو الموسيقى إطلاقه: بأن أدوار «الشيخ سيد درويش”هي العلامة الفارقة في تاريخ الدور الغنائي، وأنه أقام مجده الموسيقي بعدما رفض التراث القديم ولفظه، إلا أن منْ يتتبع مرحلة تلحين الأدوار في حياة الشيخ سيد درويش، وهي مرحلة ذات ثقل في رحلته القصيرة، يجد أن الرجل لم ينفصل عن عالم محمد عثمان، و«الشيخ عبد الرحيم المسلوب» (1786-1926)، بل شكل امتدادًا طبيعيًا للمدرسة القديمة في طريقة الغناء، ولكنه استطاع أن يفجر ثورته في طريقة التلحين لفن الدور، بإخضاع فن الدور لمعايير «الدراما المسرحية”التي برع في تلحينها أيضًا، فأضاف التعبير الدرامي للغناء، دون أن يعدل في تركيبة جسد الدور، أو يتنازل عن جزء من أجزائه.
وفي سبيل استخلاص موقف حقيقي من أدوار الشيخ سيد درويش العشرة، ومعرفة مدى تطوره، يمكن لنا حصر نقاط اختلاف أدواره عن غيرها في نقطتين هما:
1- التعبيرية.
2- استعمال المقامات غير الشائعة.
أولا، التعبيرية: فدوره الأول «يا فؤادي ليه تعشق»، الذي صاغه الشيخ سيد سنة 1914، وهو لم يتجاوز ـ بعد ـ الثانية والعشرين من عمره، وأسسه من مقام «عجم عشيران»، جاء منذ بدايته في حركة «ميلودرامية”متصلة، لا تخلو من قفزات هينة، تضفي على اللحن طابعًا مميزًا، وتؤكد تماسك قوام النص الموسيقي، وقد بلغ الشيخ سيد درويش ذروة لحنه في مقطع «قولي إمتى أنا أفرح إمتى»؛ إذ قدم طريقة التطريب القديمة، مصورة على مقام «الراست»، ولكن بروح مختلفة، معتمدًا على تعبيرية بسيطة، غير مكتملة.
دور يا فؤادي ليه تعشق
وقد زادت روح التعبيرية مع الوقت في موسيقى سيد درويش، وظهرت بشكل ناضج في أدوار «أنا عشقت»، و«ضيعت مستقبل حياتي»، ودور «أنا هويت وانتهيت»، الذي اعتبره محمد عبد الوهاب الصورة الكاملة والواضحة لعبقرية سيد درويش، ففي دور «ضيعت مستقبل حياتي» اختار الشيخ سيد مقام «الشورى»، وتقوم شخصية تلك المقام على المزج بين مقامي «البياتي» و«الحجاز”فيجمع سلم المقام آفاق البياتي الطربية، وقدرات الحجاز المليئة بالشجن، لا شك أن اختيار سيد درويش لهذا المقام جاء لتصوير الإيحاءات التعبيرية، وإبراز حالة الشكوى الموجودة بالنص.
دور ضيعت مستقبل حياتي
بينما نجد في آهات دور «أنا هويت» «تكنيكًا» جديدًا، وطريقة غير مألوفة في تلحين الدور؛ فالرجل عمد إلى أن يبدأ أولًا بجواب سلم مقام «الكرد»، وليس بقراره، ثم تنقل بين درجات متباعدة داخله؛ مشكلًا جملة موسيقية غير مكتملة، لكنها تساعد في تهيئة جمل «الردود”الخاصة بالبطانة، وكما أنها مهدت لخلق قفزات موسيقية بعيدًا عن الانتقال النغمي المتدرج، والذي عادة ما كان يصيب السميعة بالملل، فظهرت آهات تلك الدور، وكأنها ضفيرة واحدة متماسكة، تشد كل جملة بها الجملة الأخرى!
ثانيا استعمال مقامات غير شائعة: صاغ الشيخ سيد معظم أدواره من مقامات مهجورة، وغير مستعملة في تاريخ الموسيقى الشرقية؛ فلحن دور «ياللي قوامك يعجبني» من مقام «النكريز»: وهو أحد المقامات التي لا يُتطرق إليها في الموسيقى العربية، إلا نادرًا، وهو من فصيلة مقام «النوا أثر».
دور ياللي قوامك يعجبني
واستعمل كذلك «النوا أثر» في تلحين دور «عواطفك دي أشهر من نار»، الذي لقي رواجًا كبيرًا؛ لأسباب سياسية، واستخدم فصيلة من فصائل «الراست»، تسمى «سازكار»؛ في تلحين دور «الحبيب للهجر مايل»، ولحن دور «عشقت حسنك» من مقام «بستة نكار»: وهو مقام شبه منعدم في تاريخ الموسيقى العربية، بالرغم من وجوده في بعض السماعيات والبشارف، إلا أنه لا يستخدم داخل قوالب الغناء، إلا في حركات عابرة وغير كافية لتصوير المقام وتوضيح درجاته.

سماعي بستة نكار لسامي الشوا
أما مقام «الزنجران”فقد ابتكره سيد درويش، وأدخله إلى الموسيقى العربية لأول مرة في دور «في شرع مين”بعدما سمعه من مطرب أرمني يغني في مصر، وقد استطاع الشيخ سيد في ذلك الدور استنطاق مقام الزنجران، وتوطين الشعور بجو نغماته، وإفساح المجال الموسيقي داخل الدور؛ لإرتياد مساحات واسعة من الجوابات والقرارات.
دور في شرع مين
وبذلك تمكن سيد درويش من أن يفجر ثورته، وأن يقدم فن الدور الغنائي حرًا معبرًا، بعيدًا عن تجمد نمطه القديم. أو بمعنى أدق: بعدما كان معتمدًا ـ بالكلية ـ على الارتجال، والتصرف اللحظي غير المتناسق مع طبيعة النص وروح الكلمات، بل إنه استطاع جلب فن الدور خارج حلبة المقامات المعتادة، وحاول تجديد دم الموسيقي الشرقية؛ بإحياء المقامات المهجورة، وإعادة تدوير نغماتها؛ حتى صارت بعض أدواره علامات في تاريخ تلك المقامات نفسها!