قائد عسكري ووكيل للوالي و.. عاشق لبغداد.. الداغستاني وصيد الاسود

قائد عسكري ووكيل للوالي و.. عاشق لبغداد.. الداغستاني وصيد الاسود

مير بصري
في سهول داغستان الدافئة ووديانها المترامية من سفوح القفقاس الى شواطئ بحر قزوين تعيش القبائل الاسلامية منذ عصور، قوية الشكيمة عزيزة الجانب، تتنفس هواء الحرية ملء خياشيمها شأن افراسها المطهمة التي تعض ارسانها وتنفث الزبد من اشداقها، وتنطلق كالرياح العاتية في الاراضي الممتدة الى خطوط الافق. لم تخضع هذه القبائل لحكم قيصر الروس في بطر سبورج الا بعنت وصعوبة.

فلما رفع الشيخ شامل زعيمها الروحي والمدني راية الجهاد سنة 1834، دارت الحرب سجالاً بين فرسان القفقاس والجيوش القيصرية ربع قرن حتى اضطر الشيخ شامل في اخر الامر ان يعنو للقوة القاهرة، فاستسلم والقى سلاحه في سنة 1859، وقد احسن الروس معاملته وسمحوا له بالعيش في مدنهم تحت رقابة السلطة، ثم مضى الى الحج فادركه الحمام في مكة سنة 1871. وكان في نحو الرابعة والسبعين من عمره.
لقد خـلـد الكاتب الروسـي الكـبير تولسـتوي حيـاة هذا القومالابي المناضل في روايته”الحاج مراد”ورسم لابطال الجركس والجاجان والقفقاس وداغستان صورة حية رائعة الجمال.

وفي سنة 1860 هاجرت جماعة كبيرة من رجال داغستان الى البلاد العثمانية واستوطنت ربوعها، حتى اذا ما جاء مدحت باشا والياً على العراق سنة 1869، دعا فريقاً منهم الى القدوم، واسكنهم في بغداد وجهات المنصورية، وعهد الى رجالهم مناصب في قوات الجيش والشرطة لما اتصفوا به من بسالة واخلاص في الخدمة.
وفي مرابع داغستان الشاسعة، في قرية جوه من اعمال القفقاس ولد الفريق الاول محمد فاضل باشا في نحو سنة 1846، وكان ابوه داود لاو من السلالة الافارية من اسرة المشايخ المتصلة بالشيخ شامل بوشائج القرابة. ولما كبر وبلغ اشده اخذ الى بطر سبورج العاصمة شان اقرانه من ابناء الاشراف وادخل المدرسة العسكرية، فتخرج ضابطاً في الجيش القيصري في الثامنة عشرة من عمره. ولم تمض ثماني سنوات حتى استقال من الجيش الروسي وذهب الى الاستانة مؤثراً اللحاق بزوج اخته الغازي محمد باشا ابن الشيخ شامل الذي انضم الى الجيش العثماني ونال الحظوة لدى السلطان.
ونشبت الحرب التركية الروسية سنة 1877 فحارب محمد فاضل في صفوف العثمانين برتبة رئيس اول واظهر شجاعة فائقة. وعلى اثر ذلك عينه السلطان عبد الحميد الثاني مرافقاً له، ورفع في ايار 1882 الى رتبة امير لواء، ثم عين قائداً للخيالة في الفيلق السادس في بغداد (شباط 1884).
روى المهندس الانكليزي السر وليام ويلكوكس في مذكراته، وكان قد تعرف بمحمد فاضل باشا في اثناء قيامه ببناء سد الهندية على الفرات قبيل الحرب العظمى، ان الداغستاني كان من حرس السلطان عبد الحميد، فانطلق اسد من قفصه فلم يكن منه الا ان تقدم اليه بسيفه وهاجمه حتى رده على اعقابه.
واشار الجواسيس على السلطان بابعاده بدعوى انه رجل خطر لا يهاب الاسود، فينبغي الحذر من بأسه. وابعده السلطان الى بغداد، لكنه بقي بالرغم من ذلك يحترم الخليفة ويقدس ذكره، ولو امره بالانتحار لفعل طاعة له.
وفي صدد قضية الاسد ذكر هلال الصابئ في كتابه”رسوم دار الخلافة”عن المعتضد بالله الخليفة العباسي ان سبعاً افلت من يدي سباع في حضرته، فهرب الناس من بين يديه مذعورين، لكن الخليفة ثبت في موضعه.
وذكر عباس العزاوي في المجلد الخامس من”تاريخ العراق بين احتلالين”ان احمد باشا والي بغداد من المماليك خرج للصيد سنة 1732 ومعه الخيل والحشم، فتوجه الى هور عقرقوف وسار في طريقه في الاجام. ووجد في تلك الانحاء اسداً، فهرب اعوان الوالي في هلع شديد، لكن هذا اغار على الوحش الضاري بقوة جأش ورماه بحربة اصابت احشاءه، ثم ترجل وصال واجهز عليه بسيفه. وغضب الوالي على اعوانه اللائذين بالفرار وانحى عليهم بالائمة، فقال له ظريف منهم : ان اسدين تقارعا، فما شأن الكلاب بينهما!.واستشهد العزاوي ببيت المتنبي:
امعفـر اللـيث الهـزبر بسـوطه
لمن ادخرت الصارم المسلولا؟.
جاء محمد فاضل باشا الى العراق فقضى فيه زهاء ثلث قرن واسشهد على تربته. وقد اصبح من رجال بغداد المرموقين، مهيب الطلعة، كث اللحية، اصم الاذنين، منطلق الاسارير. وكانت داره موئل البغادة، يقصدها العوام لمشاهدة الاسود والدببة والقرود التي سجنت في اقفاص حديد بناحية منها، ويرتادها الخواص لحضور مجلس القائد الذي يتصدر قاعة الاستقبال جالساً على سرج حصان لشدة ولعه بالفروسية وتفضيله صهوة الخيل.
وعهد اليه بتأديب عشائر الهماوند التي عاثت فساداً فطاردها في اطراف مندلي وخانقين (1885 – 1886) واسر رؤساءها وخضد شوكتها. ورفع سنة 1904 الى رتبة فريق وعين قائداً في لاهيجان وبسوه على الحدود الايرانية. وعاد الى بغداد سنة 1907 قائداً للفيلق السادس. وعهد اليه بوكالة ولاية بغداد (ايار 1909)، ثم عين والياً للموصل وقائداً لقواتها (اب 1909)، واعتزل الخدمة بعد ذلك.
اعيد الى الجيش في تموز 1913 مفتشاً لفيلق العراق. وقاد حملة عسكرية لتاديب عشائر بارزان بزعامة الشيخ عبد السلام. واسند اليه منصب الوالي بالوكالة مرة ثانية في 10 ايلول 1913 فقام باعبائه اربعة اشهر الى 18 كانون الثاني (يناير) 1914 حين قدم الوالي الاصيل جاويد باشا. واتيح له خلال هذه المدة ان افتتح سد الهندية الذي اقامه المهندس السر وليام ويلكوكس في 12 كانون الاول (دسمبر) 1913.
ولما اعلنت الحرب العامة واصطلت الدولة التركية بنارها عاد القائد الشيخ الى امتطاء فرسه وسل سيفه من غمده، اذ عين قائداً لقوات العشائر والجيش غير النظامي في منطقة الحويزة (اذار 1915). وحارب في سوح العراق الجنوبية، وانسحب مع قواته امام الجيوش البريطانية الزاحفة. والحق به الضابط النظامي توفيق بك الخالدي ضابط ركن، وكان مع الحملة التركية من العلماء الشيخ مهدي الخالصي وعبد الكريم الجزائري وغيرهما. ووصل الداغستاني بقواته الى مدينة الكوت حين فرض عليها الجيش التركي الحصار. وفي معركة شنها الانكليز لرفع الحصار استبسلت القوات التركية وجموع العشائر في رد المغيرين وكتب لها النصر في ذلك اليوم، لكن سقط الفريق الاول محمد فاضل باشا شهيداً في حومة الوغى في 11 اذار 1916. وقد دفن في اليوم التالي باحتفال عسكري مهيب وانطلقت في رثائه السنة الشعراء، ومنهم جميل صدقي الزهاوي وعبد الوهاب النائب.

قال الزهاوي يندبه :
المــوت، اذ وطن الابــي مهــدد
مجد يشايع او حياة تخلد
مامـــات في ارض الجهـاد محمد
بل عاش في ارض الجهاد محمد …
افديك مــن بطـل هوى عن طرفه
والسيف في يده تشد به اليد
شبت من الجيشــين حرب نارهـا
تشوي الوجوه فلم يرعك المشهد
اذ كانـت الاعداء تــسعر نارهـا
والنار منك قريبة لا تبعد

كتب عنه نجدة فتحي صفوة بعد اعوام طويلة فقال: ”كان محمد فاضل باشا الداغستاني شخصية مهيبة، له قامة فارعة ولحية بيضاء طويلة. وكان يوصف بالشهامة والكرم والتمسك بشعائر الدين، وكانت له في بغداد وفي جميع انحاء العراق سمعة حميدة، ومن الخصال ما حببه الى القلوب العشائر واهل المدن على السواء …”
اعقب محمد فاضل باشا ولدين هما داود بك واللواء غازي. وبناته تزوجن اللواء عزت باشا الكركوكي والفريق احمد جودت العزاوي والدكتور شوكت الزهاوي وحكمت سليمان وتوفيق عبد الكريم السعدون ونجيب الراوي.
روى عباس العزاوي قصة تدل على شهامة الداغستاني وفتوته. فقد القى القبض على حمه مام سليمان احد رؤساء الهماوند، وذلك في انحاء خانقين حينما كلف باعادة الامن في تلك الانحاء، فاكرمه ومنحه فرساً وبندقية. لكن حمه مام انتهز الفرصة في احدى الليالي وفر هارباً.
ولما علم محمد فاضل باشا بهروبه لحق به، فقال حمه مام : ان كنت رجلاً فقف امامي وجهاً لوجه بمعزل عن الجيش ووافق القائد فتبادلا اطلاق الرصاص. وهرب الهماوندي، وتبعه القائد على فرسه ولم يتركه حتى استسلم في مقر الحكومة في كركوك. وعابه على فعله، فقال حمه مام : وماذا يأمل القائد من حمه مام بعد ان ملك بندقية وفرساً؟.
وقال غازي الداغستاني ان اسرته سافرت به الى
كركوك بعد مقتل والده في حرب الكوت، فلما عادوا الى بغداد قام اولاد حمه مام بحراستهم وفاءاً بحق ابيهم بعد اكثر من ثلاثين سنة.
ولده : اللواء غازي محمد فاضل الداغستاني كان من المع ضباط الجيش العراقي. ولد في بغداد سنة 1910 ودرس في مدرسة الاليانس وكلية فكتوريا بالاسكندرية. وانتمى بعد ذلك الى المدرسة العسكرية في بغداد والتحق بالجيش العراقي سنة 1928. وقد اوفد لمواصلة دراسته في كلية الاركان في كويتا بالهند(الحقت بعد ذلك بالباكستان)، واشترك في دورات عسكرية في انكلترة وفي كلية ووليج في لندن، وقد اختص بالهندسة. واشترك في حملة تأديب الاثوريين سنة 1933، وكان برتبة ملازم ثان.
حارب الانكليز في ايار 1941 وكان برتبة رائد ركن واوفد في مساء 30 ايار الى السفارة البريطانية المحاصرة في بغداد لطلب الهدنة من السفير السر كنهان كورنواليس. وفي صباح 31 منه حمل علم الهدنة عبر الجسر الخر الحديدي امام أرتال الجيش البريطاني القادم نحو بغداد.
وحارب في فلسطين في ايار 1948. وتولى مديرية الاشغال العسكرية، ثم عين سنة 1952 ملحقاً عسكرياً في السفارة العراقية في لندن. ورفع في كانون الاول (دسمبر) 1955 الى رتبة لواء، وعين معاوناً لرئيس اركان الجيش وقائداً للفرقة الثالثة في بغداد.
ولما نشبت ثورة 14 تموز 1958 اعتقل وحكم عليه بالاعدام، ثم عفي عنه واطلق سراحه (1961). مضى بعد ذلك الى لندن وتوفي بها في 11 كانون الثاني (يناير) 1966.
عن (اعلام التركمان في العراق الحديث)