الرحال والدفاع عن قضايا  المرأة

الرحال والدفاع عن قضايا المرأة

حنا بطاطو
شكل حسين الرحال، الذي اصبح في العشرينيات طالبا في مدرسة الحقوق في بغداد، في العام 1924 ما كان بالفعل اول حلقة دراسية «ماركسية»في العراق، او انه بث – بالاحرى- اول العناصر الماركسية في تفكير جماعة ادبية لا رسمية كانت موجودة قبل ذلك التاريخ. وربما لم يكن لمعظم الشباب الذين كانوا يختلون يومها بالرحال في مناقشات مغلقة

في غرفة داخلية من مسجد الحيدر خانة في بغداد (وهو مسجد اشتهر في تاريخ بغداد كمكان للقاء ثوريي العشرينيات) ان يعرفوا انفسهم بكونهم «ماركسيون»، ولو سئلوا لقالوا انهم جماعة همها دراسة «افكار جديدة». وكان الرجال يشير اليهم، ببساطة، بقوله «جماعتي». ولكن القاء نظرة خاطفة على الجريدة الناطقة باسمهم، «الصحيفة»، التي ظهرت في 1924-1925، ثم لفترة قصيرة في العام 1927، كانت تكفي لكشف توجههم الماركسي الواضح.

وكان من بين الاعضاء الاساسيين في الجماعة محمد سليم فتاح، طالب الطب ابن المسؤول السابق في الحكومية العثمانية وصهر الرحال، ومصطفى علي، وهو معلم مدرسة وابن نجار، والرجل الذي اصبح في عهد الجنرال عبد الكريم قاسم وزيراً للعدل، وعبد الله جدوع الموظف في ادارة البريد والبرق وابن متعهد ثياب، وعوني بكر صدقي، وهو معلم – صحافي وابن مسؤول صغير اصبح في اواخر الخمسينيات رئيس تحرير «صوت الاحرار»ذات الميول الشيوعية، ومحمود احمد السيد، الذي كان ابرز من في االجماعة بفارق كبير.
واالمعروف اليوم عن السيد (1903 – 1937) هو انه اول روائي العراق، ولكن ما لايعرفه الا القلائل هو ان «الافكار الجديدة» لصديقه الرحال اسهمت في ايقاظ مواهبه الادبية الكامننة. ولابد لنا من الاشارة فورا الى ان هذه المواهب لم تكن ذات شأن كبير، بل ومن المشكوك فيه امكانية اعتبار روايته «جلال خالد» او قصصه القصيرة اعمالا فنية. ومع ذلك، فقد نجح السيد – وعن غير وعي الى حد ما – في رسم الصعوبات والحيرة التي كان يعانيها ابناء جيله وفي اضافة شيء ما الى معرفة العراقيين بانفسهم.
وبالرغم من ان السيد والرحال اشتركا في تعاطف متبادل فانهما كانا يختلفان الى حد مذهل في الخلفية والطبع. فقد ولد السيد من أب عربي وام هندية – افغانية في اسرة من «العلماء»و»الاسياد». وكان والده – لعقود – امام جامع الحيدرخانة. وكما هو متوقع في هذه الاحوال فقد لون الدين نشأته المبكرة. ولكنه – على العموم – وقع تحت تأثير علماني ضعيف في اثناء وجوده في المدرسة التركية الابتدائية في بغداد. واستمر هذا باستمرار دراسته الرسمية. ولكنه كان قارئاً شرهاً بطبعه، وكان يلتهم الكتب والصحف المنشورة خصوصا في مصر والتي بدأت تتدفق على العراق في اعقاب الحرب العالمية الاولى. وكان لرحلة قام بها الى الهند عام 1919 ان تفتح امامه افاقاً جديدة ومثرية، ولكن افقه الذهني بقي اكثر محدودية من افق رفيقه الرحال، ولم تكن معرفته واسعة، بالرغم من انه كان اكثر حساسية واغنى خيالا واكثر تاثيرا بالضمير الاجتماعي. وكذلك، فقد كانت معالجة الرحال لشؤون الحياة اكثر هدوءاً واكثر توريا من معالجة السيد، الذي كان اكثر انقادا وتهوراً. ولم يكن السيد بقدرة الرحال في التعامل مع الافكار النظرية او المجردة، او باستعداد لتبين مضامينها المنطقية. كما انه كان يستسلم بسهولة للنوعية الجمالية للكلمات اكثر مما يفعل بالنسبة الى محتواها الفكري. وكان التصافه بـ «الشيوعية»– ان جاز لنا استعمال التعبير في وصف افكاره الضبابية غير المصقولة وغير المنضبطة – عبارة عن عاطفة اكثر من قناعة. وتعاطف السيد مع «الشيوعية»لانه تحسس متاعب الجماهير العراقية الكبرى المهملة ورأى في «الشيوعية»تبديدا للعتمة التي تعيشها هذه الجماهير. واذا ما اريد تعريف شخص السيد قيل عنه انه «عاطفي»او «شيوعي رومانسي».
ومن ناحية اخرى، فان انجذاب الرحال الى الشيوعية، او بالاحرى الى الماركسية، من النوع الفكري، وقد سجر منذ اللحظة الاولى بديناميكية معالجاتها الفكرية.
وعبرت الجماعة «الماركسية»الجديدة عن تبلورها، اول ما فعلت، عندما بدأت بنشر جريدة «الصحيفة» بدءا من 28 كانون الاول (ديسمبر) 1924. وكانت الجريدة جديدة في نوعها، والاولى نوعيا في عراق العشرينيات. وخلافا للصحف العراقية الاخرى لم تسع هذه الى كسب الرزق بل الى تغيير الناس. ولم يكن همها الاخبار بذاتها او انباء الفنانين، بل الافكار. وركزت الصحيفة على المشكلات الاجتماعية ولم تتعامل الا هامشيا مع الموضوعات السياسية. ولم تتردد الجريدة، في فترة كان التعبير فيها عن الرأي مشحونا بالمخاطر، في مهاجمة المعتقدات والاحكام المسبقة المتأصلة في قلوب الناس. واعطت هذه الامور، كلها، جريدة «الصحافة» طابعا خاصا بها، وسجلت فتح منظورات جديدة في الحياة الذهنية للعراق.
وتنقل جريدة «الصحيفة» الينا العديد من الانباء عن الجماعة الجديدة، واولها انه يتضح من صفحاتها ان الجماعة لم تتخل ابدا عن افكارها. وبكلمات اخرى، فانها بشرت –ببساطة – بافكار ولم تهتم بالعمل السياسي. واكثر من هذا، فان افكارها كانت عالية المستوى الى حد جعلها تتفلت من قبضة الجماهير العراقية. ثم، وعلى الرغم من ان تبشير اعضائها بـ»الماركسية»كان واضحا فان هذه الكلمات لم ترد، ولو مرة واحدة، في كتاباتهم، مع انهم اعلنوا صراحة ان «المادية التاريخية»تشكل «التفسير الافضل»لعملية التاريخ. وهذا ما خدع الشرطة اليقظة وقليلة المعرفة في الوقت نفسه. ولابد من الاضافة هنا ان معرفة اعضاء الجماعة انفسهم بالماركسية كانت ضحلة الى حد ما. وواضح انهم لم يكونوا اكثر من مبتدئين.
وكانت معظم مفاهيمهم مأخوذة من مجلة «الشهرية العمالية»وعن مقالات كان الرحال يترجمها عن صحيفة «اومانيتيه»الناطقة باسم الحزب الشيوعي الفرنسي.
وتكشف «الصحيفة» بوضوح عن امر آخر، وهو انه لم يكن لدى كتابها برنامج محدد، وعلى العموم، فانه يمكن تلخيص كل ما كتبوا بفكرة واحدة مسيطرة، الا وهي ضرورة الاطاحة بسلطة التقاليد. وفي البداية، لم يهاجم هؤلاء الكتاب التقاليد بكل حقولها، بل انهم ركزوا على تأثيرها على حياة العائلة ودافعوا عن تحرير المرأة العراقية من اغلالها القديمة. ولكنهم، بمهاجمتهم التقاليد في هذا الميدان الوحيد، وجدوا انفسهم يواجهون قوة تخترق كل الميادين المختلفة وتقيم التماسك في بنية التقاليد الضخمة بامرها. ولم تكن هذه القوة غير الدين الاسلامي. ولكن هذا لم يرهبهم، بل انهم تساءلوا في اسس الاسلام نفسه من خلال تفسيرهم لكل الاديان بمنطق طبيعي. وكان هذا اكثر مما يمكن للرأي العام التقليدي ان يتحمله، وكان ان اغلقت «الصحافة».
ولم يكن الرحال ورفاقه روادا في دعوتهم الى تحرير المراة العراقية، بل كان الشاعر جميل صدقي الزهاوي اول من اطلق الدعوة. ولكنهم كانوا من جعل حركة تحرير المرأة تأخذ شكل الحملة، اذ تمت عقلنة الفكرة وتقديمها كمطلب من مطالب العملية التاريخية. وما من شك في ان توقيت هذه الحملة قد تأثر بالانجازات النسائية المعاصرة في مصر وتركيا. ولكن المثير للاهتمام هو العقلنة التي وظفت الى حد ما في تقديم اول حالة لاستعمال الفكر الماركسي في العراق، وان لم تكن تلك اول اشارة لتأييد البلشفية، اذ كان الزهاوي قد سبق الرحال الى هذا ايضا. وكان الزهاوي قد حيا الثورة البلشفية في كانون الثاني (يناير) 1921، وفي قصيدة عنوانها «الحياة والموت» قال فيها:
ايها الفقراء لا تيأسوا من الحياة، ايها الفقراء
رفعت اخيرا فوق رابية الهدى راية بلشفية حمراء
ولكن االزهاوي كان مغرما يومها بقول الاشياء المذهلة الخارجة عن المعتاد، ولم يكن يؤخذ دوما على محمل الجد.
وتطور موضوع حرية المرأة الذي طرحته الجماعة الجديدة بالشكل التالي: فتح الموضوع بمقال كتبه الرحال تحت عنوان «الحتمية في المجتمع»، اعلن فيه ان لا وجود لنظام اجتماعي «طبيعي» او «خالد». بل على العكس من ذلك فان كل المؤسسات الاجتماعية هي مؤسسات انتقالية بطبيعتها. ووضع المرأة يخضع لهذا «القانون العام». واضاف الرحال قائلاً ان العائلة العربية، بوضعها الراهن، جزء من بقايا ايام «الاقطاع». واستناداً الى ذلك فان الحريم والحجاب هما من بصمات اخلاقيات «الاقطاع». ولم تتمكن الارستقراطية من بناء «دور الحريم وزج هذه الاعداد من النساء فيها الا عن طريق استغلال جهد الناس». وانتهى الرحال الى القول ان الحريم والحجاب لم يكونا معروفين في حياة «الطبقة الشعبية» – بين الفلاحين العاملين – «وسيختفيان كليا عندما تقيم الطبقة الشعبية سيادتها». وكان ما سعى الرحال اليه هو انه يدعونه الى الغاء الحجاب والى مساواة المرأة بالرجل انما كان يسهم في رسم التاريخ.
وهكذا دخلت «الماركسية»الى عقول العراقيين بشكل غير معلن وغير ملحوظ مرتدية ثياب تحرر المراة.
في البداية، كان التقليديون الذين اتخذوا من صحيفة «البدائع» ناطقة بلسانهم ميالين الى السخرية من هذه الدعوة «الانثوية»الجديدة على انها من صنع «الفتيات البغداديات»اللواتي ادخلت بجرأة اراءهن غير المنشورة على الشيوخ والافاضل. وعلى العموم، فانه سرعان ما نزل بعض التقليديين الى مستوى النقاش مع جماعة الرحال. وقال هؤلاء انهم لايفهمون لماذا بدافع «الانثويون» عن تحرير المراة اذا كان التغيير «حتميا» كما يدعون. وكان ذنب هؤلاء في تناقضهم. ورد «الانثويون» بالقول ان معارضيهم لا يستطيعون التمييز بين الحتمية والقدرية، واضافوا انه استنادا الى علم النفس الحديث الذي تنغرس جذوره في فلسفة القرن التاسع عشر – التي ولدت الحتمية الاقتصادية – فان الانسان قد «يريد»اشياء معينة، ولكن شكل هذه الارادة يتحدد من خلال تاثيرات البيئة. وعموما، فانه بخضوع الانسان لهذه التأثيرات تتشكل في ذهنه افكار جديدة يتابع استخدامها بشكل هادف لاحداث تغيير في بيئته.
وبقدر ما كان الاسلام والشريعة يقران الوضع الاجتماعي للمراة، فانه لم يكن للرحال ورفاقه – باصرارهم على افكارهم – الا ان يجلبوا لانفسهم تهمة تخريب الدين والاخلاق. ورد هؤلاء بقولهم ان هدفهم الأوحد هو «اجتثاث ما زرعه التقليديون في اذهان ابناء الشعب لكي يتمكنوا من تنمية وعي اجتماعي متكافيء مع وضعهم الراهن ويمنع اعداءهم من احتكار القانون والفضيلة بعد ان احتكروا الثروة والهيبة والشرف.
وانكر الرحال وجماعته كذلك صلاحية الشريعة وصلتها بالموضوع على اساس ان مبادئها «صيغت من اجل مجتمع كان موجودا قبل الف سنة ونيف». وقالوا انه بالشريعة او من دونها، فانه لابد للتغيير ان يحصل اذا كانت هنالك حاجة اجتماعية واقتصادية ملحة اليه.
ويبدوا ان الرحال وجماعته كانوا يقللون من اهمية خصومهم عندما ذهبوا الى ابعد من ذلك باعلانهم ان «العصر الذي كان الناس يؤمنون فيه بالتوجيه الالهي لاحداث الطبيعة قد ولى»، وان «ليس الدين هو الذي يحرك الحياة الاجتماعية بل ان الحياة الاجتماعية هي التي تحرك الدين». وبكلمات اخرى، فانهم صرحوا بانهم صاروا لايعترفون الا بالاوضاع الانسانية والردود الانسانية. واثارت جرأتهم المتزايدة حنق التقليديين الذين لم يتأخروا في التكشير عن انيابهم.
وسرعان ما وجدت جماعة الرحال الصغيرة نفسها محاطة بهيجان ناجم عن المرارة والامتعاض، وصارت خطب ايام الجمعة في المساجد تصليهم نارا حامية. واستنكرتهم المضابط الجماعية على اساس كونهم مرتعا للكفر والالحاد. واسكت صوت الجماعة، ولكنها عادت فسجلت نقطة لحسابها.
والواقع ان الجماعة لم تخضع. وجرى تذكير بغداد بذلك بعودة «الصحافة» االى الظهور لفترة قصيرة بعد ذلك بسنتين (في العام 1927). وقالت افتتاحيتها بلهجة الانتصار: «عدنا! ولم نلفظ نفسنا الاخير كما تصوروا».

عن كتاب ((العراق، الطبقات الاجتماعية
والحركات الثورية))