في رحاب العراق: المدرس جون فان أيس

في رحاب العراق: المدرس جون فان أيس

علي أبو الطحين
ولد جون فان أيس في الولايات المتحدة سنة 1879. تعلم اللغة العربية لمدة ثلاث سنوات في بلاده قبل قدومه الى البصرة لتأسيس المدرسة الأمريكية للبنين في خريف سنة 1902. وخلال أقامته أكثر من أربعين عاماً في العراق، ومعاصرته خمسة عهود من الأنظمة السياسية، التركي القديم، والتركي الدستوري، ثم الحرب العظمى والاحتلال البريطاني، وبعدها نظام الانتداب،

وأخيراً الحكم الوطني، تراكم له كم معرفي هائل عن العراق والعراقيين. أما زوجته دورثي فكانت قد قدمت الى البصرة في سنة 1909، وتعرفت على جون حين كانت تتعلم العربية في البحرين، وبعد زواجهم سنة 1911، عادت الى البصرة لتأسس المدرسة الأمريكية للبنات. وكلتا المدرستين تابعتين لجمعية تبشيرية أمريكية. كان ثمرة زواجهما، ولّد وبنت، ولد الإبن جون سنة 1917، وبعد دراسته في الهند و سويسرا والولايات المتحدة، عاد الى مسقط رأسه في البصرة، للتدريس في المدرسة الأمريكية للبنين، وكان كما يقول أبوه قد انصهر الشرق والغرب في ذاته، وتوفي بالمرض في عنفوان شبابه سنة 1943، ودفن في البصرة.
ولع جون فان أيس بالعرب وباللغة العربية التي يصفها بالمذهلة مقارنة بلغته الإنكليزية الخليط التي تفتقد الشكل والنسق والكمال كما يقول، ويشير دوماً الى أنه تعلم من العرب الذين جاء ليعلمهم.
في آخر زيارة للملك فيصل الأول الى البصرة سنة 1932، اختلى الملك بالسيد فان أيس، قال له الملك بعد أن وضع يده فوق يد السيد فان أيس : أنك يا جون من القلة التي جاءت الى هذه البلاد لتعطي لا لتأخذ، أحلفك بحليب أمك أن تقول للعرب دائماً الحقيقة عن أنفسهم. يقول جون وعدته ذلك، لكن بعد طول السنين وغياب فيصل من ذاكرة الناس أصبح من الصعب التقيد بالوعد، وبعد أن أصبحت الحقيقة غير مستساغة ولا مرغوبة.
يضع جون فان أيس في كتاباته عن العراق الكثير من الأحاديث والحوادث الحياتية والاجتماعية المليئة بالطرافة والفكاهة والواقعية. في زيارة له الى كربلاء في أوائل عهده في العراق في العهد العثماني، تجمع حوله العامة لمنعه من دخول المدينة المقدسة، وحين أبرز وثائق السفر الموقعة من والي بغداد الى الجندرمة، اقتيد الى الباشا الحاكم التركي، الذي رحب به قائلاُ له، نحن أوربيون، وما هؤلاء العرب إلا وحوش همج. يقول جون كنت في ضيافة الباشا لمدة أسبوع، كال فيها العرب بكل الصفات والنعوت البذيئة، مبيناً حقده الضغين ضدهم. وعندما سألته لماذا أذن يعيش بينهم، قال : لكن يا أفندم لقد دفعت ألفان ليرة لوزير الداخلية لهذا المنصب، ولم أحصل حتى اليوم بعد ستة شهور، سوى ثلاث آلاف ليرة فقط. وفي أحد الأيام، وبعد وجبة دسمة من الرز والدجاج، كان الباشا مسترخياً في ثوبه الفضفاض، وقد وضع الطاقية فوق رأسه، قال بحسرة : أراد الله سبحانه وتعالى يوماً أن يرى العالم الذي خلقه، فطاف حول الأرض ليرى، وحين وصل بلاد الإفرنج، سأل هل خلقت هذا، فأجابه جبرائيل نعم أن الفرنجة أهل علم ومعرفة، فسخروا الجبال والمياه، وحرثوا السهول والوديان، فجعلوها كما هي الآن. وحين وصل أمريكا، قال الله ما هذا، أجاب جبرائيل، أن الأمريكان أهل عمل وجد، فعمروا وشيدوا البلاد وحولوا البذور الى زهور. وهكذا كان الحال في كل مكان مر به الله حتى وصل العراق، فصاح الخالق أعرفه هذا العراق، كما وضعته لم يتغير فيه شئ. لم يتعلم العرب لا من أسرار الكون ولا من كنوز أرضهم. يقول جون ذكرت للباشا عظمة الحضارات وازدهارها في أرض الرافدين، فأردف : هذا يؤكد ما ذهبت أليه، فالعرب ورثة تلك العهود تراهم اليوم عراة كالأطفال.
في سنة 1905، طلب مهندس الري البريطاني وليم ويلكوكس من جون فان أيس مساعدته في استكشاف بعض مناطق الأهوار لإكمال خرائطه التي يعدها لمشاريع الري في العراق لحساب الحكومة العثمانية ولم يكن ذلك يسيراً لتردي الحالة الأمنية. قام جون بالمهمة بمرافقة خادمه سليمان ودون سلاح باختراق الأهوار من الناصرية الى العمارة، في وقت كان عرب الأهوار في نزاع مع الحكومة. ألتجأ جون الى أحد العشائر في الأهوار وأقنعهم بأنه طبيب بعد أن عالج بعض المرضى، واستطاع الحصول على المعلومات المطلوبة عن المنطقة.
كان الشيخ فالح أول المنضمين أليه. يقول فان أيس: حين أخبرته مرة بأن أحد الطلاب قد أغمي عليه في الصف بسبب الجوع، أنقدني ما قيمته مائة دولار، قائلاً لا تدع ذلك يحصل مرة أخرى مادام فالح على قيد الحياة.
كان لجون فان أيس صداقات مع أغلب الساسة العراقيين الكبار، في أحد المرات، سأله نوري السعيد قائلاً : يا أستاذ، أخبرني عن شئ لا أعرفه عن العراق. يقول جون أجبته : يا باشا سأقول لك أمرين لا تعرف عنهما شئ. الأول أنك لا تعرف بماذا يفكر الناس، والأمر الثاني لا تعرف ماهي حاجتهم. وبرهان ذلك، عند وفاة الملك فيصل الأول، خرجت مظاهرات التعزية تملئ الشوارع لعدة أيام متواصلة، سألت أحد المتظاهرين، ما الخبر ما الذي يجري. قال لي : والله يا صاحب (لقب كان يطلق على الأجانب في العراق) يقولون أن أبن الملك راح يتزوج. أما عن حاجة الناس فلا أظن أنهم يحتاجون الى ملعب أولمبي. (في أشارة الى بناء مدرجات ملعب الكشافة).
تقول زوجته دورثي في ذكرياتها، كانت الدعاية اليهودية نشطة وقوية في الولايات المتحدة بعكس العرب فلم يكن لهم صوت، فطلب الابن جون من ابيه ان يكتب ذكرياته عن العرب للقارئ الامريكي. فقام بعد وفاة ابنه، بوضع ذكرياته عن العرب بكتاب عنوانه Meet the Arab،”أقدّم أصدقائي العرب”لأعطاء فكرة عن العرب وحياتهم ولغتهم، ضم الكتاب فصلا عن اللغة العربية بعنوان”لغة الملائكة”. أهدى جون نسخة من الكتاب الى صديقه رئيس الوزراء نوري السعيد، الذي أقترح ان تتم ترجمة الكتاب الى اللغة العربية. وهكذا قام جليل عمسو، من مدرسي الارسالية في البصرة، بالتعاون مع جون بانجاز الترجمة سنة 1944. الا ان مديرية الرقابة في عهد وزارة حمدي الباجه جي اعترضت على الكتاب وتم مصادرة جميع النسخ الانكليزية من المكتبات العراقية. تألم جون فان أيس جداً من ذلك، وخصوصا ان المنع كان لاسباب واهية، ولم تصدر الترجمة العربية للكتاب حتى سنة 1949 بعد عودة نوري السعيد للوزارة.
تردت الحالة الصحية لجون فان أيس بعد وفاته أبنه في سنة 1943، وأحيل على التقاعد في مطلع سنة 1949، وتهيأ للعودة مع زوجته الى الولايات المتحدة، وتم تنظيم العديد من الحفلات في توديعه في البصرة، الا انه فارق الحياة في يوم 26 نيسان 1949 قبل يومين من موعد الرحلة، وهو في السبعين من عمره، فدفن في البصرة بجانب ابنه كما كان يتمنى.