صفحة مطوية من من تاريخ الصناعات العراقية..قصة تأسيس معمل(فتاح باشا) وتأسيس غرفة تجارة بغداد

صفحة مطوية من من تاريخ الصناعات العراقية..قصة تأسيس معمل(فتاح باشا) وتأسيس غرفة تجارة بغداد

د.صلاح عريبي العبيدي
حظى العراق منذ مطلع القرن العشرين، بمجموعة من الاقتصاديين الوطنيين الذين أدركوا أهمية الاقتصاد في تحقيق الاستقلال الوطني. ومن المؤكد ان هؤلاء البرجوازيين قد تلقوا تعليما حديثا واطلعوا على ما يشهده العالم من تطور من خلال عملهم في استانبول وتنقلهم بين الولايات العثمانية، ولم يقتصر نشاط هؤلاء البرجوازيين على الجوانب الاقتصادية بل كان لهـم نشـاط سياسي وثقافـي،

وكـان نـوري فتاح باشا واحدا من ابرز البرجوازيين العراقييـن الذيـن تركـوا بصمـات واضحـة في صرح الاقتصاد الوطني العراقي.

قصة تأسيس معمل (فتاح باشا)
في عام 1926 اقدم نوري فتاح باشا ووالده على تأسيس اول معمل وطني حديث دخل في تاريخ الصناعة العراقية، وهو(معمل فتاح باشا للغزل والنسيج)، وتعود قصة تأسيس هذا المعمل الى ان صالح ابراهيم (صهر فتاح باشا)، كان يعمل مديرا فنيا لمعمل نسيج الجيش العثماني(العباخانه). وقد صدرت اليه الأوامر عند انسحاب الجيش العثماني من بغداد عام 1917 بتفكيك المعمل وتدمير مكائنه، غير انه قام بتفكيك المكائن ولم يدمرها، بل أرسلها الى الموصل، وحاول خلال السنوات اللاحقة أيجاد الممولين اللازمين لاعادة تأسيسه في الموصل، لكن محاولاته بآت بالفشل، وأصبحت المكائن غير صالحة للعمل، غيـر ان رغبته في تأسيس معمل للغزل والنسيج بقيت شديدة في نفسه، وما ان راى الاستقـرار السياسي في العراق بعد تشكيل الدولة العراقية، وسياسة الحكومـة في تشجيع الصناعـة الوطنية، حتى توجه الى نوري فتاح باشا وأقنعه بأهمية تأسيس مشروع وطني للغزل والنسيج، ولاسيما بعد تأسيس الجيش العراقي، وكانت الخبرة التي يملكها فتاح باشا عن هكذا مشروع، لكونه عمل مديرا لمعمل نسيج الجيش (الغباخانه) عامـلا مساعدا في الأقدام على تأسيسه.
تم اختيار منطقة الكاظمية في بغداد موقعا للمعمل، لكونها كانت مركزا مهما تتواجد فيه اغلب معامل ومشاغل النسيج اليدوي، مما ساعد في رفد المعمل الجديد بالأيدي العاملة ذات الخبرة السابقة بالصناعة الصوفية، وبدأ المعمل يمارس نشاطه في عام 1926 حيث تولى نوري فتاح إدارة الأعمال المالية والتجارية والإدارية، وتولى صالح ابراهيم إدارة الأمور الفنية، وكان في مرحلته الأولى يقوم بإنتاج الغزل الصوفي فقط ويجهزها الى مشاغل النسيج اليدوية الصغيرة، والى مصلحة السجون التي كانت تقوم بإنتاج بعض المنسوجات الصوفية والسجاد اليدوي، وبلغ عدد العاملين فيه مع بداية العمل (65) عاملا، ومع مرور الوقت استكمل المعمل معداته، حيث احتوى على (40) نوالا مستوردا من بولندا، وجهز بمحرك بخاري بقوة (75) حصانا وجهاز لتوليد الكهرباء.
باشر المعمل إنتاجه، بالشكل المخطط لـه، أواخر عام 1929، واشرف عليه في بداية الامر فنيون بولنديون، ووصل عدد العاملين فيه زهاء (300) عامل وعاملة، و(8) موظفين إداريين، و(12) ملاحظا ورئيس عمل،وقد تراوحت أجرة العمال بين (50 ـ250) فلسا يوميا حسب كمية العمل وقدرة العامل، وتجدر الإشارة الى ان نوري فتاح اعتمد في إدارة المعمل على زملائه من الضباط المتقاعدين، وذلك لضبطهم الإداري، وحاجتهم الى فرص العمل.
انتج المعمل الأقمشة والغزل والاحرمة والبطانيات، وقد تراوحت قيمة البطانية الواحدة بين (450ـ750) فلسا، وامتازت منتجاته بالجودة وبالاخص البطانيات التي كان الناس يفضلونها على الاجنبية، لان صناعتها كانت متقنة وصوفها خالص، ونتيجة لهذه الجودة صدرت المنتجات الى الشام ومصر واقطار الخليج العربي وايران، حتى انها حازت على جوائز دولية لجودتها، كما شارك المعمل في عدة معارض محلية وعربية وعالمية، وبما ان المعمل كان يعد معلما من معالم النهضة الصناعية في العراق، فقد كان يزوره العديد من رجال السياسة والاقتصاد الذين يزورون العراق، وكان من بين زواره رائد الاقتصاد المصري محمد طلعت حرب في نيسان 1936، ومؤسس البنك العربي عبد الحميد شومان في عام 1947.
اما على المستوى الحكومي فان الملك فيصل الأول (1921ـ 1932) نفسه كان يهتم بالمعمل، ويوصي باستمرار بتقديم التسهيلات له، وتلبية احتياجاته، ومنحه مساعدات مالية، وكانت الحكومة بدورها تسعى الى دعم وتشجيع الصناعات الوطنية بشكل عام، وقد حظي معمل (فتاح باشا) ومعمل (عزيز ميرزا يعقوب وشركاه) بدعم الحكومة فقد حصل المعملان على إعفاءات من الضرائب من مجلس الوزراء عام 1927، كما شمل المعملان بقانون تشجيع الصناعة رقم (14) لسنة 1929، والذي تضمن تقديم التسهيلات والمســــــــــاعدات لاصحاب المصانع بما فيها إعفاء المواد اللازمة والمستوردة من رسم الكمركي.

غرفة تجارة بغداد (1926ـ1945) :
بعد قيام الحكم الوطني في العراق، أصبحت الضرورة ملحة لتأسيس غرف التجارة، وقد صدرت العديد من الدعوات في صحف البلاد المحلية تطالب الحكومة بتأسيس الغرف التجارية، لذلك سنت الحكومة العراقية، بعد حصول موافقة مجلسي النواب والأعيان، قانون غرف التجارة ذي الرقم (40) لسنة 1926، وبموجب هذا القانون جرت في 28 ايلول 1926 انتخابات اللجنة الإدارية لغرفة تجارة بغداد عن طريق الاقتراع السري، وبنتيجة الانتخابات فاز (15) عضوا جرت الانتخابات في رويال سينما وحضرها وزير المالية صبيح نشأت الذي دعا الى تشكيل ادارة من (15) عضوا يكون أحد المصارف عضوا في أدارتها وثلاث شركات أجنبية كبيرة وخمسة من التجار المسلمين على ان يكون أحدهم إيرانيا، وخمسة من التجار اليهود وواحد من التجار المسيحيين، وربما كان يقف وراء دعوة الوزير ضغوط أجنبية ويهودية للسيطرة على غرفة تجارة بغداد. فاز في الانتخابات الى جانب نوري فتاح كل من : محمود الاطرقجي (ايراني،مسلم)، وايتWight (بريطاني، مسيحي)، قاسم باشا الخضيري (عراقي، مسلم)، باتي G.r.Battay (بريطاني، مسيحي)، يعقوب يوسف عاني(عراقي، يهودي)، يهودا ازلوف (عراقي، يهودي)، عبد المجيد حمودي (عراقي، مسلم)، خضوري شماس (عراقي، يهودي)، ميرزا فرج (ايراني،مسلم)، وينل داود ساسون (بريطاني، يهودي)، صهيون عبودي (عراقي،يهودي)، كرجي عبودي (عراقي، يهودي)، الياهو العاني (عراقي، يهودي)، محمد الحاج خالد (عراقي، مسلم) حصل نوري فتاح، والذي حصل على (29) صوتا، ليكون بذلك من الأعضاء المؤسسين لغرفة تجارة بغداد.
سعى نوري فتاح من خلال عضويته في غرفة تجارة بغداد الى العمل مع باقي أعضاء الغرفة لتحقيق الغايات التي أسست من اجلها الغرفة والمتمثلة في تحقيق النهوض الاقتصادي في البلاد، وحماية مصالح التجارة والتجار، فكان يشترك في اللجان التي تشكلها الغرفة، ويعبر عن آرائه في المواضيع الاقتصادية التي تناقش، ويشترك في المؤتمرات الاقتصادية التي تعقد. ففيما يتعلق باللجان كانت له مشاركة في عدد منها، فعلى سبيل المثال كان أحد أعضاء لجنة أعداد نظام الغرفة الداخلي عام 1928، واحد أعضاء لجنة دراسة لائحة قانون الكمارك عام 1928.
وللنظر بهذا الموضوع عقدت غرفة تجارة بغداد عدة جلسات تميزت بحرص الأعضاء اليهود على جعل يوم الأحد يوما للعطلة، وحرص نوري فتاح على ان تكون العطلة التجارية الأسبوعية يوم الجمعة وهو يوم العطلة الرسمية، غير ان ما عرضته الغرفة من آراء حول عطلة يوم الجمعة لم يؤخذ به، وربما كان ذلك بسبب ضغط اليهود وقوة نفوذهم في الحياة التجارية انذاك، وفي العام نفسه اختلفت دائرة الكمارك والمكوس مع الآسرة التجارية بسبب الاختلاف في أطوال القماش المستورد، فاقترح نوري فتاح جلب الة ذراع على غرار الآلة المستخدمة في المصانع واستخدامها لتزول بذلك أسباب الاختلاف في ذراع المنسوجات.
اما عن مشاركته في المؤتمرات الاقتصادية، فكانت له بعض المشاركات على المستوى المحلي والدولي، فعلى المستوى المحلي، شارك في أول مؤتمر عقدته غرف التجارة العراقية في بغداد في 23 حزيران 1930، والذي عقد بمشاركة الغرف التجارية الثلاث في بغداد والموصل والبصرة، مثل غرفـة تجارة بغداد فضلا عن نوري فتاح كل من : قاسم الخضيري (رئيس الغرفة)، محمد جعفر ابو التمن (نائب الرئيس)، الياهو العاني (سكرتير الغرفة) وبقية أعضاء اللجنة الإدارية،اما ممثلوا غرفة تجارة البصرة فهم : عبد الله جلبي (رئيس الغرفة)، مصطفى الحاج طه جلبي السلمان (سكرتير الغرفة)، يوسف عبيد (عضو)، فـي حين مثل غرفة تجارة الموصل حمدي جلميران (سكرتير الغرفة). انظر: محاضر جلسات غرفة تجارة الموصل وكان العراق وقت انعقاد المؤتمر يمر بظروف مالية صعبة بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية (1929ـ1933) وتأثيرها على الاقتصاد العراقي، لذلك ركز أعضاء المؤتمر اهتمامهم حول مخاطرة هذه الأزمة، وكيفية أيجاد السبل الكفيلة لتجاوزها، وقد رفع المؤتمرون في ختام جلساتهم تقريرا الى رئيس الوزراء نوري السعيد (23اذار1930 ـ تشرين الاول1930) تضمن تأثير الأزمة وطرق معالجتها.
وبعد نهاية الحرب العالمية الاولى وسيطرت بريطانيا على العراق، كان لنوري فتاح باشا نشاط في الحركة الوطنية انذاك، وعلى الرغـم من عدم إشارة المصادر التاريخيـة الى طبيعة هذا النشاط، الا ان نشاطه هذا دفع بسلطات الاحتلال البريطاني الى اعتقاله ونفيه مع مجموعة من أقرانه الوطنيين الى جزيرة هنجـام في الهند، كان الى جانب نوري فتاح كل من : عارف السويدي، احمـد مختار الحاج فتحي، صبري ابن قاسم، محمد مصطفى الخليل، امين افنـدي رئيس بلديـة المعظم، الشيخ صالح الحلي. وقد حاولت وزارة عبد الرحمن النقيب (25 تشرين الاول 1920 ـ 22 اب 1921) ان تجس نبض سلطات الانتداب البريطانية في أمر إرجاعهم، فاتخذ مجلس الوزراء في 10 تشرين الثاني 1920 قرارا بإرجاعهم، وارسل القرار الى تلك السلطات التي أجابت بدورها في 18 تشرين الثاني 1920 بعدم ممانعتها لعودتهم إذا آخذت الضمانات اللازمة في عدم عبثهم بالأمن. وفي 22 تشرين الثاني 1920 قرر مجلس الوزراء إعادة نوري فتاح وخمسة من رفاقه، واشترطت عليهم كتابة تعهد خطي هذا نصه:”نحلف ان نخضع الى الحكومة الحاضرة المؤقتة، ونحلف بشرفنا ان نعمل بحسب أوامرها الى ذلك الوقت الذي يصدر قرار ـ كذا ـ من مجلس الأمة فيما يختص بتعيين مستقبل العراق، ونضمن أنفسنا بان نبتعد بعد رجوعنا الى العراق عن كل عمل سياسي”.
التـزم نـوري فتاح بما تعهد به، وابتعد عن الحياة السياسية، بعد ان اختار لنفسه طريقا أخر يمكنـه من خدمـة وطنـه بشكل لا يقـل أهمية عن العمل السياسي، وهو طريق الاقتصاد أو بمعنى أدق طريق النهوض بالصناعـة الوطنيـة، ولكنـه لـم يتخـل عن مواقفه الوطنية، فخلال ثورة مايس 1941 عقدت غرفة تجارة بغداد جلسة استثنائية لمناقشة مشروع إسعاف الجيش، وتقرر التبرع بمبلغ قدرة (382) دينار، فكان نوري فتاح اكثر المتبرعين سخاء، اذ اسهم بـ (100) دينار، في حين توزع بقية المبلغ على (16) عضوا من أعضاء الغرفة، أما على الصعيد القومي فنتيجة لتفاقم الأوضاع في سوريا على اثر سياسة البطش والإرهاب التي اتبعتها السلطـة الفرنسيـة المنتدبـة على سوريا، وحاجـة القطر الشقيق الى الإعانات والتبرعات تقدم كل من نوري فتاح وسعيد الحاج ثابت مع عـدد مـن النواب والوجهاء بطلب الى وزارة الداخلية في 17 شباط 1936 لتأليف لجنة عليا فـي بغداد تقوم بجمع الإعانات لمنكوبي سوريا، وما ان وافقت الوزارة على الطلب حتـى اجتمع أعضاء اللجنـة العليا وانتخبوا محمد مهدي كبـة معتمدا ونوري فتاح أمينـا للصندوق، وقـد وجهت اللجنـة نـدا عاما الى الشعب العراقـي دعته باسم الإنسانيـة ان يبـادر لإغاثـة سوريا المجاهدة من اجل حريتها واستقلالها، ويحثهم على تأسيس لجـان فرعية لجمع الإعانـات لإنقـاذ سوريا مـن نكبتها، وتمكنت اللجنـة من جمـع مبالـغ كبيـرة أرسلتهـا الـى دمشـق لتوزيعهـا على عوائل المنكوبيـن.

عن رسالة (الدور الاقتصادي
للبرجوازيين الوطنيين)