حينَ نحلم بأيثاكا علينا أنْ نشهدَ للرحلة: تنويعات من دفتر الخواطر

حينَ نحلم بأيثاكا علينا أنْ نشهدَ للرحلة: تنويعات من دفتر الخواطر

فيصل عبد الله
ما زال الصوت القادم عبر الهاتف طرياً. واثقاً. كأنه بالأمس. أسمعه بكل وضوح في سرداب بيت عائلة إنكليزية كريمة وعريقة. أستذكره اليوم من بين ركام الأصوات القادمة من هناك. أستذكره غداة ذلك الحدث الذي خطف منا الأعز والأنبل. كنا نتحدث وقتها عن معرض فني حمل عنواناً لافتاً في الـ»هيووارد غاليري».”القصة الأخرى»...”لا بالله»، ذلك ما نستعد له في الوقت الحاضر كان يقول، وقد أخذت على عاتقي كتابة أفكار أولية عن قصتنا في أماكن متناثرة نحن المعلقون بخيوط النجوم.

-ولكن الفنان الباكستاني رشيد آرين قضى عشر سنوات يطرق أبواب المؤسسات الفنية البريطانية، أو المعنية بها، لكي يجمع ثلاثين فناناً من منابت مختلفة، ومن خلفيات سياسية يسارية، استقر بها المقام في هذه الجزيرة بعد الحرب العالمية الثانية، وليخرج الى العلن بقصة تكاد لا تذكر. كنت أقول إن الإعلام يبحث عن الدم وأخبار الموت والقصص التراجيدية لتتصدر واجهات صفحاته أو نشرات أخباره.
-أعرف ذلك. ولكن المنفى يبقى هامشاً مهما طال الزمن ما دام لا يصادر رؤيتنا.
-وهل علينا الانتظار لأكثر من أربعة عقود لتُسمع قصتنا؟
-لربما لا تُسمع أبداً.
-اللعنة، هل أنت جاد، هل تعني أن”الطنطل”القابع هناك سيظل جاثماً على الأنفاس ويصادر ما بقي لنا من عمر. تذكر نحن جياد أخذ التعب يظهر على محيا البعض.
-للأسف لا توجد نهايات سعيدة كما ترويها قصص السينما لمن أختار الطريق. ذلك ان فعل التغيير لا يأتي عبر الانتظار على الحافات، ولنا في تقلبات التاريخ وما يحمله من مفاجآت وتعاكس معادلات ما يشي بقلب تطلعاتنا الشخصية أو السياسية. إذ لا توجد صفقات رابحة وجاهزة تعقد مع التاريخ سلفاً. واحدة من دروسه القاسية: كونه عضاضاً. حاول التخلص من لوثة الحنين وعذاباته. سأبعث لك بمسودة عن المنفى والمكان، اطلع عليها واحتفظ بها لأنها تحتاج الى مراجعة جادة، إذ كتبتها تحت وقع أفكار دارت في الذهن ونحن نعد إلى معرضنا المزمع، علّها تجيب على بعض الأسئلة المعلقة في ذهنك، واعتبرها رسالة شخصية.
-طيب سأحتفظ بها كما احتفظ بغيرها.
-حين أستعيد نشر نص تلك الرسالة، مثلما هي ومن دون تدخل، أجد أن مصيرها لم يختلف عن مصير معرض”القصة الأخرى». مصيرها لم يختلف كثيراً عن فحوى سؤالي الحارق وقتها، سوى بنتائجها التراجيدية؛ من تسلمها تأبد منفاه، وأن كاتبها قضى اغتيالاً في بلده على يد”طنطل”جديد وقطاع طرق سفلة غدراً. كم هو معذب وقاس، عليَّ وعلى من عرف كامل شياع، أن تنتهي حياة قامة تنويرية كبيرة وفكرية نفتقد عقلانية مشروعها الثقافي الطموح اليوم إسمه كامل شياع. سوف أترك تأويل مغزى الرسالة المرفقة لمن يشاركني لوعة الغياب..
أفكار ليست للنشر
المنفى كمكان
الى فيصل : إنني أجلس في ظلالك عندما أكتب
لكل تجربة مكان. وشاءت تقاطعات حتمية نظام الأشياء واختياراتنا أن يكون لتجاربنا مكان دون الوطن. وإذا كان مكوثنا القسري لسنوات غير قليلة من أعمارنا في المنفى قد أتاح لنا شيئاً، فهو إطلالات متحرقة على الوطن الأول، واستعادات لم تنقطع عّما كناه وما لم نكنهْ: لمصائرنا باعتبارها دلائل اختلاف. نحن والوطن الحاضر صرنا نتنازع الانتماء. هل هي رحلتنا الغريبة أم رحلته التي أدت الى هذا الافتراق المفجع؟. وحيث إن لا أحداً منا قد نال جواباً بعد، تُركنا نلهو بطلي إقاماتنا الشاذة ببريق الوطن الأول أو برماد خرابه. وننسى....ننسى المنفى فنحيله الى مجرد معبر للتواصل اليوم أو محطة عابرة في مسيرتنا الوهمية المنتصرة نحو ذلك الوطن – السراب.
ورغم أن الذات الإنسانية لا تقوى في قرارتها على الانتساب لأكثر من وطن واحد، إلا أنها في التجربة تنزع غالباً للتمرد على ارتباطاتها المسبقة من أجل اختراقها. وهذا الاحتمال هو ما تزكيه التجربة الثقافية المعاصرة، بما تتميز به من وعي حاد لعدم الاتساق الذي يحكم نظام الأشياء ويميز التجارب الإنسانية، وبما يجعل تكرار الأصول ينطوي على إمكانية جعلها أكثر مثالية، وبالتالي أكثر وهمية. فهل حان الوقت لنعلَق وقتياً انجذابتنا المعتادة لدلالات ميتافيزيقية من أجل اكتشاف خارطة حضورنا الفعلي؟ أو لنرفع حكم التأجيل غير المعلن عن تجربتنا في المنفى كي نجد أنفسنا في سياق أكثر شمولية؟
لانختلف في أن المنفى مهما طال يبقى هامشاً. لكنه هامش لم ينغلق إزاء مطالباتنا ولم يصادر منا الرؤية. لذا ينبغي استيفاؤه حقه لأنه متن بالقوة، لأنه الوجه الآخر للوطن. حين نحلم بأيثاكا ينبغي أن نشهد للرحلة!.
***
من بين مرادفاته العديدة، كمأوى، كأمان، كحرية، كفضاء نقيض للحرمانات.. وغيرها، تبرز مفردة الفصل باعتبارها التلخيص الأشمل للمعنى المعاش وما ينطوي عليه بالنسبة لنا. وبالأحرى فإن كل ماتقترحه المرادفات الأخرى لايعدو أن يكون معادلاً لوظائف تتوج بوعي علاقة الانفصال القائمة بين البيت وبين النُزل. ومع هذا الفصل المتحقق فيزيائياً وروحياً تبتدأ بالتلاشي حدود انتظامنا الخيالي في العالم متيحةً انفراط المصائر والأخيلة. ماهو العراق في خضَم هذا الانفراط؟ أهو صور مسالمة من ماضٍ صار بعضنا يفتديها بإعلان شهادة مبكرة؟ أهو إضافة لاغير لسيرة ذاتية في تيهٍ شامل؟ أهو مرجع لن نحتكم اليه؟
إننا لانبغي وطن الصور، لا نبغيه موضوعاً سهلاً لنرجسية الذات أو لمونولوغ الفقدان. إننا لا نتردد من الاعتراف بأن كل مانمتلكه دون الوطن – البيت ودون الوعي الماسك بتلابيبه. لكننا لا نجد جدوى من إكمال تجربتنا عبر اختيار قصدي للسكنى في يوتوبيا الأصول. إننا لانريد أن نقيم خلف أسوار حضاراتنا الغابرة نرمّم واجهاتها ونوصد أبوابها في مساءات العمر!
***
إن المكان، من الناحية الفلسفية، هو أحد الأبعاد الأساسية للتجربة الإنسانية لأن انتظامه يشي بانتظام التجربة الإنسانية ذاتها. ولكن المفارقة التي نراها هي، أن وظائفية المكان الناتجة بالطبع عن انتظامه تبدو متناسبة عكسياً مع الانجذاب إليه جمالياً. هل أن حنين الفنان المنفي الى الأمكنة القديمة هو في جوهره حنين الى أمكنة موضعية غير منظمة ولكنها مشحونة بمعانٍ فلسفية واجتماعية؟
قليلون هم أولئك الذين يتصورون إن سعادتهم يمكن أن تتحقق بالعيش في أماكن عالمية محايدة، وإذا كان الأمر كذلك، فإن المكان سيُختزل عندئذ الى الصفر في علاقة الذات بالعالم. ولكون العلاقة مع المكان هي علاقة يحضر الماضي على وجهها الآخر، والوجود فيه يستتبع الحنين إليه، فإن التماهي مع المكان ككلية لايمكن أن يقوم على إلغاء تفاصيله. العلاقة بالمكان إذن، إن كانت نتاج تجربة معاشة أو نتاج تخيل، تفترض لا طبيعية المكان. أي إنها ليست علاقة جسد (إنساني) بأشياء(موضوعات خارجية)، ولاعلاقة قابلة للفنون الشكلية أن تتمثلها كما ينبغي، لأنها تحديداً علاقة تأويلية ذات معانٍ إجتماعية. ومن هنا تبتدأ صعوبة (خصوصية) التجربة الجمالية للمكان، كونها تجربة تختلف وربما تتجاوز في فحواها النهائي (توصلاتها) مستويي الانغمار التلقائي في الاشياء والتجرد عنها، أو مستويي الصور الخام وما تولده من مفاهيم. إن نبذنا لفكرة المكان الطبيعي والمجرد، على السواء، يقودنا الى اعتبار علاقتنا بالمكان هي قبل كل شيء علاقة محتوى يمنح قيماً جمالية أصيلة تبدأ من تاريخيته وليس من صنميته. ووفق هذه الرؤية فإن اختراق شكلية المكان، وما يحمله من تفرد فولكلوري، يضعف أمام مواجهة أصعب لإجلاء معالم مكان انتسبنا إليه انتماءً. أن المكان كمحتوى هو دائماً أكثر قابلية للمقارنة بأمكنة أخرى منه كمجرد شكل. وهكذا يبدو أن نقطة الانطلاق التي تجعل من الوطن والمنفى مكانين مكملين لبعضهما هي في الوقت ذاته النقطة التي تجعل تمايزها أقل وضوحاً مما يبدو للوهلة الأولى. اننا نعنى بإبراز الاختلاف باعتباره مصدر متعة جمالية وتسامياً.
***
إن المكان لا يرتفع إلا ليكون دارساً: إنه لايقوم، مهما طالت السنوات، إلا لمرة واحدة فقط ليودع حضور ساكنيه الى الأبد نحو رحلة الفناء والبدء من الصفر.. المكان هو استبدال وتراكم في فراغ. لاشيء يشبه عدمية تجلي المكان وغيابه. وحتى أولئك الذين يستذكرونه بالكلمة أو الصورة فإنهم لا يستذكرونه الإ عبر قصصهم وإقاماتهم الخيالية. لايكتمل معنى المكان إذاً من خلال فيزيائيته ومصيره الحتمي للزوال، لأنه نتاج تجربة خيالية نصدقها ولا يهمنا غالباً التحقق من نتائجها.
المنفى كمكان والوطن كمكان، يمثلان شروطاً موضوعية مختلفة وتجارب مختلفة سمتها الأكثر غرابة هي عدم انفتاحها للاختيار أو للمفاضلة. في الوطن بدا لنا المكان متكاملاً مع بعضه، لا كمحتويات وحسب بل كقصد وموضوع. كان فسيحاً لتفاصيل الذاكرة، متجانساً كما الصحراء ضمن حدود متحركة تعصى على إرادة الامتلاك والمراقبة وتتسع للجميع وللا أحد. أما في المنفى، فإن المكان يبدو قائماً لذاته وأكثر انغلاقاً، لأنه يحضر كقيمة مشبعة بغايات وظيفية وجمالية قلما تحتمل الإسقاطات التخيلية للذات. انه بالتأكيد غير معدٍ لفنان منفي ليقيم فيه بكونه جزءاً منه، ولهذا فهو يشكل بالنسبة لطاقة الخيال مادة ممانعة جميلة بذاتها ولكنها تعيق رغبة إعادة الاكتشاف عبرها لأنها لا تحرض على ذكريات أصيلة. كل ما يبقى للفنان، وللوهلة الأولى، من هذا المكان هو ليس المكنونات التي يجسدها بل الزوايا والحُجر التي يتيحها ليبقيه حياً يأمل.
ولكن من منظور تأملي، فإن لهذا المكان العصي فضيلة لا تخطأ، هي فضيلة تجسيد استمرارية الاختلاف الحضاري وسطوة حضور الآخر مقابل غياب الذات في متاهاتها الحلمية أو في خلاصاتها الوجودية. وإزاء امتلاء معالم مكان الآخر يسحق الخراب معالم مدننا (عبثاً تنقذها الذكريات!)، مجسداً نزعة تدميرية هائجة تتخذ من الاحياء والتحديث شعاراً لإعلاء مسرح هائل لدمى آدمية محكومة بفنطازيا الرعب من النظرة الشمولية المستَفَزْة للدكتاتور.
***
أي حيزٍ غير طبيعي من المكان على اللوحة أن تفتح؟ اي مدينة على الفنان أن يرسم وهو المتخم بالغربة والمحاصر بالتغيير؟ اين سيرسو في زمن أصبحت فيه الذاكرة الجماعية رخوة وقابلة للتشويه الى أقصى حد؟ أين سيضعنا، نحن القتلى والمتمردين، الخائفين والمنفيين، في الأماكن الخطرة أم في الأماكن المنقرضة؟ في السجن وغرف التعذيب والمقابر وساحات الحروب، أم في المحلة القديمة والمشاهد الرعوية وأنصاب حضاراتنا المودعة في الأرشيف؟.
بالنسبة لنا فإن الفن هو أكبر من استعراض تقابلات خارجية وأخطر من أن يكون ترياقاً للذاكرة، ذلك إذا كان الفن تذكراً، بكل ما ينطوي عليه، فإنه ايضاً بالقدر نفسه تحدياً يقود الى خلق معانٍ جديدة. أن النزوع اليوتوبي عند فناننا ينبغي أن لا يكون مجرد هروب من واقع سيئ نحو واقع مرغوب وطيّع لرغبة التكرار، بل أن يكون سبباً لاستشراف ماهو ليس بقائم بعد. ومن وعيه لوجوده بين مكانين، والاختلاف الظاهر عن الباطن تتشكل الأرضية التي يقف عليها الفنان المنفي. إنها أرضية مؤقتة، هي كل مابقي لنا، نسميها اللا مكان بمقدار ما تتيح لنا رؤية تقاطعات السياقات وبمقدار ماتنجينا من الاستعادات الرمزية للماضي حينما يتحول الحاضر الى صفقة خاسرة.
***
إن الاختيار المسبق لمادة معرضنا هذا كما تستند الى الوصف أعلاه، تنطوي على تحدٍ لا ريب فيه. ذلك بعض ما وفره المنفى، وينبغي أن نقر بذلك أخيراً، قد سوغته لنا رغباتنا الدفينة وتمرداتنا الشقية. وبعد طول اغتراب هيأناه لأنفسنا كشرط للحرية والتفتح انتهينا الى المنفى الذي هو من أقسى محن الحياة. هل إننا ضحية تشظي الأحلام الكونية؟.
إن المنفى قصة لاتكتمل وكل ما يهمنا الآن هو إعلان فصلنا الخاص منها كفنانين معاصرين وليس كمحترفي تذكر وأساطير سياسية. بين الحاضر والمحظور، بين الانتماء والعدم نريد أن نبلغ الوطن عن المنفى والمنفى عن نفسه. لقد جئنا الى هنا لنكسر حلبة الغربة والتواصل المقطوع.
***
التردد على منطقة”الساوث بانك”يقدم لزائره مفاجآت لا تخطر على البال. قصة ذلك المعرض ورسالة كامل وقتها ظلت حاضرة كلما زرت ذلك المعلم الغني بتنوع نشاطاته الفنية والسينمائية والاجتماعية على مدار العام. في واحدة من تلك الزيارات وجدت لقية لم أكن أتوقعها في ذلك المكان. إذ عن طريق المصادفة استدار الرأس ليقع على مجموعة قصائد لشباب معلقة قرب باب مطبخ مطعم. صورت بعضها عبر جهاز هاتفي النقال. هالني ما كتبه الشاب برايان ثاو وورا(1973)، أمريكي من لاوس، بعد التعرف على اشتغالاته الشعرية. ومن حينها ظللت أردد تلك القصيدة كتعويذة حين أزور ذلك حتفاءً بإسم كامل.....
من دون ندم
في يوم ما
قد نعثرُ على صفحةٍ،
أو ندندنُ بأغنيةٍ،
أو نخطُ أثراً فنياً
تغنينا عن الشروحٍ.
في يوم ما
قد يتعلم طفلٌ أسماءَ ذلك الغريب
التي آمن بها حتى قبل يلتقيا.
في يوم ما
قد يتذكر القلبُ
أخاً، أختاً، جريمةً، لحظةَ وجدٍ،
وقائعَ مدينةٍ، هايكو من اليابان،
معلماً،
صديقاً تحمله في مقلتيك.
حتى يحينُ ذلك الوقت، ما هو المؤكد؟
يحلّ الليلُ، ثم النهار. القمرُ، الشمسُ، المطرُ والموج.
وأشياءُ أخرى، قد يكون بينها شيءٌ يكتبه أحدُهم.
وقد لا يكون...
براين ثاو وورا
20 آب 2017