مخاطبات كامل شياع قبل قتله

مخاطبات كامل شياع قبل قتله

ياسين طه حافظ
يمتدّ في غور الجحيم طريقُ محمدٍ/ القاسم المفروشِ
بالجثث القديمةِ، والسيوفُ سفيهةً مرّتْ
تشـق طريقها للقتلِ،
لكن الطريقَ الآن خالٍ، ليس غيرُ سقائفٍ

للجند قابعة وراء حجارةٍ، أكياسِ رملٍ،
ليس غير الشاحنات تصيح من عبءِ وحمّى،
غير أكداس العوائلِ حُمّلَتْ مكشوفةً للشمسِ
في أسمالها تختضّ كي تصل الظلالْ.
وجهُ الطريقِ يُخيف. تلك حراشف قفَّتْ
وأحـداقٌ وراء لثامهـا.
تتوعّد الآتين تستجلي حقائقَهم لتسلخَها.
والشمس بعد الظهر تكشفُ، لا تريد الكشفَ،
تلك جريمةٌ تأتي.”لماذا الخوفُ؟
هل وحدي أسيرُ؟ وإن أتى ماذا سأفعلُ؟
لا سبيل سـوى هذا الطريـقْ»
ولكي يُقِصّرَ خوفَهُ، كي ينتئي من وحشةٍ،
يلهو بذكرى:
ذلك المقهى الظليل، هناك قهوتُهُ وعاملةٌ
مع الاكواب بسمتُها القصيرة، غادرت. تلك
الجليسة عذبةٌ... ورذاذ بلجيكا تعلّق بالزجاجْ..
يتذكّرُ الزمنَ الذي استرضـاه يوماً:
تلك توقظه بنظرتها وترشف كأسَها لتعودَ
ترمقه بأخرى.. هل ترى لمحَتْ ظلالَ كآبةٍ
في وجهِهِ؟ اترى استراحت فهي تمنحُهُ
ابتساماً ثم تتركه ليُكملَ قصةً في الرأسِ؟
بادلها ابتساماً ثم عاد لنفسِهِ ولبيتِهِ،
ولفكرةٍ ظلت تدور برأسِهِ منذ الصباحْ.
لـفّ الضبـابُ طريقَهُ
هل صدفةً هذا الصباح حمامةٌ في الباب؟
حدّثَها كما يأسى :”يعزّ عليَّ أن أمضي..»
كأنْ قالت له شكراً وطارتْ
وهو أكمـلَ دربَـهُ..
هذا الطريقُ يخيفُهْ. والشاحناتُ تضجُّ راكضةً:
«توقّفْ ايها الرجل المهذّبُ! ليست الأمواجَ
هذي، لا المطارات الكبيرةَ.. ذا طريقُ
محمدٍ / القاسم المزروع موتاً والشواظ يشبُّ
فوق الوجهِ...»
ما عاد الحديث يسرُّ سامعَهُ.
تتصادم الكلمات فوق لهاتِهِ وحديثُهُ
قلِقٌ كأنْ سينعطف انعطافتَهُ الأخيره!
وكأنْ رأى من ذلك المقهى الوجوهَ تغيبُ
والورقَ الخريفيَّ المُذَهّبَ
راح تكنسُهُ ريـاحُ الليـلِ...،
ذاك الظلُّ يشبهُهُ، يحاول أن يفكَّ يديهِ،
أن ينسلَّ من شرك الرياحْ...
لو كان يهدأ ساعةً، يتأملّ الغصنَ الذي
استرخى وينجو من طريق محمدٍ / القاسمِ المكتظِّ
نيراناً وخوفاً،
يلمع الإسفلتُ مغسولاً بنار الشمس تركض فوقه العجلات
سوداً تستغيثْ على سوادْ.
الخوفُ والبنزين يشتعلان فيها. ليت هذا
الشارعَ”المسكونَ”تحسمُهُ نهايتهُ، فيمضي
ناعماً يرتاحُ...
هل عَـوْدٌ لغرفتِـهِ
ونافذةٍ تحاذرُ أن تُطِلَّ، حياؤها حلوٌ
وشارعُها صديقٌ وادعٌ يهديكَ بعض شذاهُ،
أو، إن شاء، نثَّ عليكَ.. ذلك عالمٌ..!
كان النهارُ هناك غضّاً ناعماً، كلُّ النهارِ
هناكَ يصلح للّقاءِ (كما النهارُ هنا..)
ويضحـك شبهَ منكسـرِ..
«كم تبعد الأضواءُ عن بيتي؟ تركتُ سلامتي
وكتابتي وتركتُ بعض الروحِ، ماذا تنفعُ
الأفكارُ حين أموتُ سوف تموتُ.. هل هي هكذا؟
دعْها، الحقيقة مـرةٌ...»
قد كان يسأل ثم يختار الإجابة غيـرَ ما ترضاه روحُهُ،
ثـم يُكمـِلُ:
«في العراق هناكَ كانت أوّلُ اللَّعَبِ البريئةِ..،»
في العراق هناك أولعَ راجفاً أولى سجائرِهِ
ليهجَرَهـا إلى أبـدٍ..
تـذكرَّ أول الأوراقِ يأخذهـا ليقرأ ذلك الممنوعَ سـرّاً،
وحدَه في الليل يقرؤها.. تذكّرَ ذاكَ
وانسابَتْ على الأيام بسمتُهُ..
قد تستطيع، وبعد هذا العمرِ والوجهِ المغطّى
في ظـلالٍ مـرةٍ،
أن تلتقي أيامَكَ الاولى وأن ترقى تلالاً من ترابٍ،
تستطيع ترى النخيل اليابسات كما ترى تلك العواصمَ
وهي لامعةٌ ملوّنةٌ، تراها الناصريةَ مثل
روما، كنتَ تحلم، والفواتنَ في المخازنِ
والمطاعم، كنت تحلمُ.. هل أقول حقيقةً؟
«هَـبْ انني أبدلتُ أفكاري، فماذا؟
في المحطة ضجّةٌ وحقيبةٌ أخرى بديلَ حقيبتي..»
يا أيها الرجل استعد افكارَك الاولى، ستبقى
هذه الاحزان تأتينا وتذهبُ. انما هذا الكتاب
يظل رهْناً في يديك كما الجريمة رهن ايديهم،
وتبقى كلما أشجاك كسْرٌ، قلتَ للدنيا
السلام، عزيزةً تبقى الحياةُ نباتُها والناسُ..
كنتَ تقول”كلُّ سقيفةٍ صنوٌ لناطحة السحابِ،
لهذه ولتلك هذي الوردة الحمراءُ، للدنيا
النظيفة ِ هذه الأرواحُ ليس لهم:
غيرُ النشيـدِ مقدّساً في الليلِ،
غير هديـة الدم في النهـارْ.
فإذا مضوا، عفوَ الحياة إذا انتهى فيها وعانقَها الحبيبْ
يهوون مثل ملائـكٍ لمصيـرهم
كالضـوء فـي الظلمـات طائـرهم يغـيـبْ...»
أصغي إليهِ مودِّعاً أو حالماً يأسى على الدنيا
ويلتقط الإشارةَ مثل منتظرٍ، يحدّثني كعاشقها:
«القصيدة حلوةٌ في ملحق الأسبوع..”قالَ
محاولاً كشفَ المُخَبَّأِ، قال لي :
هذا النهار محيّرٌ أخشى هوامشَهُ،
كأنَّ سحابـةً تأتـي،
كأن بروكسلَ المحلولة الأغصان تغرق في الظهيرةِ..»
قالَ والسيارةِ البيضاء تركض في طريق
المـوت كـي تصلَ الحيـاه.
قلْ للحياة محبّةَ السير البطيء، فتلكمُ
السيارة البيضـاء واقفـةُ
وهناك كامل رأسُهُ اتّكأتْ على يُمناهُ.
هل ما زال يحزن للحياةِ وما يزال مفكرّاً؟
لحمٌ طريٌّ مالَ منسكباً، نبات الظلّ،
في كفيّن ناعمتين حاولَ أن يصدَّ رصاصَهم،
كفين ناعمتين للوردِ النديِّ وللكتابه!
هـذي النهايـةُ.
صامتاً وحدي أُقلبُ سيرةً مسروقةَ الأوراق، أذكر قولَهُ:
«لوعدتُ، ربَتما سألقاها، فقد تأتي
مبكرّةً الى المقهى (وقد يأتي الرصاصُ مبكّراً..)
لكن قصتَها الغريبةَ مثلُ قصتنا تُضلِّلُ،
علَّها شاءتْ تقولُ ولم تقـلْ
ولعلها سمعتْ باني سوف أرحلَ للعراق، لعّلها.
هل كان يوحي الوجهُ في شيءٍ؟ كأني خائفٌ:
اني رأيتْ على الطريق كتابةً
لـم تتـضِحْ
لكنها، وكما فهمتُ، تقـولُ :
“تتبعني!»
يا أيها الرجلُ ابتأَسْنا حدَّ أن نبكي،
فذاك المنجل المرفوعُ يحصد من رقاب ذويهِ
يُطِعِمُ غولةَ التاريخ علَّ الشمس تأتي وهي
تهربُ..، علّهم يَصِلونَ، حتى جاءهم خبَرُ
ليوقف دورةً للأرض : ان قلاع َ مأربَ
كلَّها سقطَتْ وان الفأر ملتذٌّ بـ”رأس المالِ»..،
لا أحـدٌ
أفتى برأيٍ. كل شيء كان يمشي دون ساقينِ،
الحقائقُ ليس ما ندري.. وكاملُ لاذَ
بالكأس الأخيرة. قام دون عبارة التوديعِ
ظلتْ بسمةٌ مكسورة للنصـفِ،
ظل الكوب فوق الشرشف المطـويِّ،
ظلت في الفراغ قصيدةُ الموتى... رجعتُ كنازح ٍ
لا بيتَ يؤويهِ أهزّ بنخلة ماتَتْ
وتسقط فوقي الأسماءُ، هل أحَدٌ
يتذكر الموتى؟ أيسخرُ انهم ماتوا على أملٍ
أيبكي انهم خسروا؟
الآن قصةُ”كامـل”اكتملَـتْ:
سيـارة بيضـاءُ واقفـةٌ
وكاملُ ميّـتٌ فيهـا –
الحياةُ، جمالُهـا، الأفكار والشجنُ النبيلُ وذلك الفجـرُ
الحريريُّ، الشوارعُ، أوّلُ العربات، آخرُها، المخازن،
زحمةُ الأسـواق، أولادُ المدارس في الصباح ونفحـةُ
الشـاي المبكِرِّ، لفْحَةُ الأفران والعمالُ نحـو الباص،
مبنى الحزب والصحف ُ التي تأتي صباحاً كيَ نقلبّـها
... الحياة جميلـةٌ ظلت ليشهدهـا سـواهُ ثم يغيـب،
يتركُهـا ليشهدهـا سـواه ثـم يغيـب، يتركـهـا،
الحياة جميلة وعظيمة تجري إلى أملٍ
وهناك في وسـط الطريقْ
سيـارة بيضـاء واقفـةٌ!