سرقة في البلاط الملكي سنة 1932  والشرطة تعثر على السارق

سرقة في البلاط الملكي سنة 1932 والشرطة تعثر على السارق

د. اكرم المشهداني
- في شتاء عام 1932 كان معاون شرطة السراي محيي الدين عبدالرحمن جالسا في مكتبه بالمعاونية، حين استدعاه مدير شرطة لواء بغداد شخصيا للحضور الي مقره لأمر مهم، وحين دخل عليه أخبره مدير اللواء بوجود إخبار عن حدوث سرقة في البلاط الملكي، وأن المسروقات هي سيف الملك فيصل الأول شخصيا، ولما يعهده في المعاون محيي الدين فقد أمره أن يتوجه علي الحال وفورا الي البلاط الملكي،

ومقابلة رئيس الديوان الملكي آنذاك المرحوم رشيد عالي الكيلاني، لأخذ التوجيهات والاستيضاحات منه عن الحادث..

وحين وصل معاون السراي الي البلاط دخل علي رئيس الديوان فرحب به لوجود معرفة سابقة بينهما، وشرح له تفاصيل سرقة سيف جلالة الملك من مكتبه الخاص، ثم طلب الكيلاني منه الذهاب الي غرفة جلالة الملك للسلام والاستئذان بمباشرة التحقيق حول الحادث، وكان اللقاء سريعا بسبب انشغال الملك بموعد مقابلة مع السفير البريطاني في بغداد.
ثم باشر المعاون أعماله وتم تكليف ملاحظ رئاسة الديوان الملكي لمرافقته في تحقيقاته، وابتدأ المعاون بتدوين أقوال العاملين في البلاط وأخذ المعلومات التي يتطلبها التحقيق. فالسرقة وقعت في المكتب الخاص لجلالة الملك، والسيف كان في دولاب خشبي مثبت عليه زجاج شفاف، ولم يلاحظ أية شدة أو عنف في كسر أو فتح الدولاب.
حصر الشبهات
ومن خلال تدوين الأقوال، حول الأشخاص الذين يمكن أن يترددوا علي المكتب الخاص بالملك، وإجراء الكشف علي محل الحادث، فإن المعاون محيي الدين عبدالرحمن حصر شبهاته في شخصين فقط، هما:
المدعو (أبو شفيق) وهو سوري الجنسية، والذي أنيطت به مهمة تنظيف مكتب الملك والآخر هو (الشيخ سنداح) المسؤول عن إعداد القهوة للملك وضيوفه وهو من الحجاز قدم الي العراق مع الملك فيصل، وقبل ذلك كان مسؤولا عن إعداد القهوة العربية في بلاط (الملك علي) عندما كان ملكا في الحجاز، قبل أن يعزله آل سعود فقدم الي العراق للعيش في كنف الملك فيصل الأول.

إخبار جلالة الملك بالخبر
وقام المعاون محيي الدين بإبلاغ رشيد عالي رئيس الديوان بما توصلت إليه تحقيقاته، فأخبره الكيلاني أن الأمر يتطلب إشعار جلالة الملك بالنتائج، وفعلا دخل الإثنان علي الملك فيصل، الذي رحب بالمعاون وأمر بتقديم القهوة له إكراما، وجاء الشيخ سنداح وقدم القهوة، وحين خرج أخبر الإثنان الملك بما توصلت اليه تحقيقات المعاون محيي الدين، فصعق الملك لهذا الخبر، لأن آخر من يشك بهما هما خادماه المخلصان، وبدا عليه التأثر الشديد، وقال بعد صمت:
يؤلمني ان يحدث هذا الأمر ولا أكاد اصدق ان هؤلاء يمكن أن يسيئا لي يوما، وأني حين قدمت الي العراق قدم معي اتباع مخلصون من الحجاز ومن سورية.. وعلي كل حال ارجو أن لا ينالهم أي أذي.
ثم استأذن المعاون من الملك، وخرج مع رئيس الديوان، وقال المعاون لرئيس الديوان:
أرجو الأذن لي باستصحاب هذين الشخصين معي الي مكتبي في معاونية شرطة السراي لمواصلة التحقيق معهما...
فلم يمانع رئيس الديوان.
وفي مركز الشرطة اختلى المعاون محيي مع السوري (أبو شفيق) وحين تعمق معه في التحقيق انهار، وأخذ يبكي وقال:
هل من المعقول أن أخون سيدي جلالة الملك الذي أكرمني غاية الإكرام؟..
وفي هذه الإثناء حضر الي المركز شقيقه (الحاج خيرو) وهو صاحب محل لبيع المرطبات في سوق الأمانة بشارع الرشيد، وهو صديق قديم للمعاون، فرجا منه أن يختلي مع شقيقه لوحدهما، فأذن له، واختلي معه، ثم خرج من عنده واخبره أن شقيقه ليس هو السارق وهو متأكد من صدقه.
وهنا رجع المعاون الي أبي شفيق وطلب منه أن يعود بذاكرته الي الوراء ويستعرض سلوك (الشيخ سنداح) وعاداته، فهل تغير شيء من سلوكه بعد اختفاء السيف؟.
فأطرق برأسه ليتذكر، وبعد صمت قليل أخبر المعاون أن الشيخ سنداح قد تغير سلوكه فعلا بعد اختفاء السيف، وأخذ يطيل البقاء في غرفته، وكان يحمل أكداساً من أكياس الفحم ويقوم بتكديسها في الغرفة.
وحين استفسر منه عن السبب، قال له أنه يحتاجها لموقد القهوة.
وهنا قام المعاون بتهيئة سيارة المعاونية واصطحب معه أبو شفيق الي البلاط الملكي، وتوجه مباشرة الي غرفة الشيخ سنداح فوجده فيها ولما رآه يدخل عليه الغرفة فجأة، اضطرب واصفر وجهه، وقال للمعاون:
ماذا تريد؟
قال المعاون بهدوء:
أريد سيف جلالة الملك! فأنت السارق.
فخرج راكضا من الغرفة ليشكو المعاون عند رئيس الديوان، وفي اثناء غيابه ألقي المعاون نظرة فاحصة علي الغرفة التي يسكنها الشيخ سنداح، فوجد أكياس الفحم بصورة تكديس ليس له مبرر. فخطرت ببال المعاون قضية مماثلة سبق أن أجري التحقيق فيها حيث حصلت سرقة في دار شاكر البحراني وكانت المسروقات مصوغات ذهبية تعود الي زوجة صاحب الدار حيث عثرت الشرطة علي الذهب في الدار المقابلة لدارهم مخبأ في (حفرة) وضعت عليها أكداس من الحطب، وقد اعترف صاحب الدار علي السارق وكان يدعي (جليل) وهو لص محترف.
وهنا حضر رئيس الديوان ومعه الشيخ سنداح مكفهر الوجه وبدا يتذمر من اتهام المعاون له، فما كان من المعاون إلا أن يقول لرئيس الديوان: ارجو أن تأمر بإخراج جميع محتويات الغرفة.. وفعلا تم تفريغ محتويات الغرفة، فلما اصبحت أرضية الغرفة خالية من المواد، طلب المعاون إحضار ماء، وأمر بعض عمال القصر، أن يسكب الماء علي أرضية الغرفة المصفوفة بالكاشي من النوع متوسط الحجم وان يسكبوه بهدوء، وأخذ الماء ينتشر علي أرضية الغرفة فلما وصل الماء إلي زاوية منها ظهرت فقاعات دلالة علي حفر حديث في هذه المنطقة.
فطلب إليهم أن يحفروا في هذه المنطقة وبحضور رئيس الديوان والشيخ سنداح وبعد حفر قليل عثر علي قطعة من القماش فلما أخرجوها وجدوا السيف داخلها، فبهت رئيس الديوان من ذلك وهنا التفت المعاون إلي (الشيخ سنداح) وقال له:
(ماذا تقول الآن يا شيخ؟)..
ثم انتقلوا إلي مكتب رئيس الديوان، وهناك أدلي الشيخ سنداح باعترافه فقال:
إن الباعث علي فعلته سببه قيام الملك فيصل الأول بالإطراء علي السيف أمام كل من يحضر من الضيوف، ويقول لهم انه هدية من الملك سعود..، ولم يخطر بباله أن الملك سعود هو الذي طرد أخاه الملك علي من الحجاز، وجعله دون مأوى، فخطرت للشيخ سنداح فكرة ابعاد هذا السيف عن الملك فيصل كي لايقوم بالإطراء عليه ثانية أمام الضيوف، وليس بقصد سرقته.
وهنا استأذن المعاون من رئيس الديوان الملكي بيان ما يقرره حول نتيجة التحقيق، وهل يرغب الديوان الملكي باتخاذ الإجراءات القانونية ضد الشيخ سنداح. فأجابه:
إنه يفضل معالجة الموضوع عن طريق رئاسة الديوان دون حاجة للإجراءات القضائية.
وتوجه رئيس الديوان بالشكر الجزيل لمعاون شرطة السراي علي جهوده ومهارته في كشف غموض هذه الجريمة التي كان وقعها قاسيا علي جلالة الملك الذي لم يكن يتوقع أن الفاعل هو أحد مقربيه والمؤتمنين لديه، و استأذن المعاون بالانصراف، وعاد الي مدير شرطة لواء بغداد فأخبره بنتيجة التحقيقات والعثور علي السيف، وعدم رغبة البلاط الملكي في اتخاذ الإجراءات القانونية ضد السارق، ووجه مدير شرطة اللواء شكره للمعاون علي براعته وجهوده وأمره بالانصراف والعودة الي المعاونية لمزاولة واجباته المعتادة.