تجلّيات رهيفة من الأغاني الرائقة في (العشق أسماء)

تجلّيات رهيفة من الأغاني الرائقة في (العشق أسماء)

لميس نجم الدين
الولهُ بالتقاط مشاهد وتفاصيل معينة سواءٌ أكانت صغيرة أم كبيرة والتي تلامس قلب كل محبّ كلف بالصبابة والتعشق هي إحدى زوايا الأكثر نجوى في كتاب (العشق أسماء) للأديب أرشد العاصي، تغدو فيها الكلمات شيئاً من الزفيف في فضاء العاطفة الجياشة نحو تلاقي المحبوبة والعوم في هالات جماليّة لامتناهية.

هذا الحسّ الجماليّ يتعمّق في لبّ الهوى ويعربشُ في زحام المشاعر الصنيعة لخلق عالم سريّ به وبحبيبته من بريق الحنوّ وسناء المودة، فتنجلي اللغة نوعاً من اللمعانِ في أيامٍ دامسة بالعذابات وشهيق الانتظار والأنين. تهبّ عاصفته بشذراتٍ قصيرة تكاد أن تكون قصيرة كجدائل معشوقتهِ في أماسي الأحلام المتبعثرة لالتئامهِ في جوهر الاحتشاد العشقيّ الوافر التي تبرز في حاضنة الفكرة الأساسيّة للنصوص والومضات في الكتاب.
فالعشق في البداية والختام هو المهجة الأوحد للعاشق الحقيقي، يترجم فيها الشاعرُ تلوّعهِ بكلّ تفصيلة فيه، هُنا يعرض مشهداً من أصفى المشاهد التي يمرّ فيها العشّاق ويلدغ الحنين أقدس ما في القلبِ بسماع أغنيّةٍ تلهب أحاسيسهم وتضرم جمرات الذكرى والأشواق اللانهائية ولو تقدّم بهم العمر، هُنا الشاعرُ لا يكتب بل يعزف ناياً شجياً وارغاً في ابتهالاتهِ الشاهقة، يغنّي لقلبه المُلتاع على موجات أغنيةٍ تصدح في ثنايا مخيلتهِ بكلّ إثارة وتوق للحب الجميل:
(ربّاه كم أنا صبّ حدّ الاحتراق الأخير/ تلك الأغنية الماسيّة المعجونة بالوَهل العفيف/ ومذاق السلسبيل الذي تسلّل في غورةٍ بلون الجريال إلى جّناني/ تلك الأغنية العسجديّة/ التي تتلألأ لآلئ وسَنا اللُجين/ وتنهمرُ على الرّوحِ بأزكى مَنشم/ ووريقاتُ الليلكِ وأزاهير الأوركيدْ/ غدت لقلبَينا نشيدْ/ وتجلّى صبوةً من الوريدِ إلى الوريدْ).
ضمّ الكاتبُ في عملهِ الأدبيّ هذا بين العشق الطاهر والرومانسيّة المفرطة والتجليّات، وهو في علوّ شامخ من الحبّ الذي لا يشوبه أي رغبة أو خطيئة، ويصل إلى درجةٍ سامية من العذاب العذب والألم المُختار لنفسهِ بكلّ مسرّةٍ وحريّة في قصيدة (عفراء) ويواصلُ زحفاً مقدساً إلى رحابِ معشوقتهِ في رحلة من التأوّه والعناء كي يفوزُ بإبقاءِ حبّه وعدم تركه في مُستنقع ليالٍ مُستهجنة مع الغرباء، هو يهوى الضجيج الأول والأنين الأول والوحشة لكل شيء مع معشوقتهِ ويطرّز الأحرف بشكلٍ ماهر في محنتهِ هذه ويُذهب الخيال إلى أماكن شتّى، فهو يريد أن يفعل كلّ شيء بشرط أن لا يتركهُ من سلب فؤاده، فيناجي المحبوبة:

(يا قمراً من سماءِ وطن الزيتونْ/ أطلبي ما هو في المستحيلِ يتجلّى/ أطلبي أن أطفئ الشمس/ أو أصطاد كواكب/ أو أطير على سرجِ سابحٍ نحو الأعالي في المساء/ وأجلبُ معي لكِ شعاع النُجيمات/ أطلبي أن أجعل الدنيا تهطلُ أديماً في الصّيف/ وأغطّي الشوارع والروابي والبيوت والأشجار والقلعةَ بالثلج/ أطلبي أن أجعل قامة المنارةِ تشعبُ نرجساً/ أن أجعل الخريف يزهو إخضراراً/ وأؤجّلُ الربيع وأضيفُ على المواسم موسماً آخر/ قولي لي ما يخالجكِ قولي لي؛ أن أجعل الفجرَ ينام/ وينجلي الليلُ لمدةِ عشر سنواتْ/ وينزلُ المطرُ لعقدَينِ بغزارة/ ولقرنٍ كامل يُسمعُ خرير الماءِ في كلّ مكان/ وزقزقة العصافير وبوح المزارعِ وسريناتا الكرواناتِ قطعةً قطعة/ أطلبي ما هو معجزةٌ/ ولا يغوصُ حتى في طور الخيالْ ؛ أطلبي أن أغيّر مسار العُمرِ، أن أخبّئ شيئاً في الغيب/ وأطرّزُ ريطة أقدارنا كلّها ليالٍ حمراء/ حينَ تُغازلُ الصّبوة شفتيكِ وتهتفُ هامسة: من خمرة العشقِ إسقيني/ فيا عفراء أرجوكِ/ إفعلي ما يحلو لكِ ولكن فقط لا تتركيني).

ومن جانبٍ آخر يظهر العاشقُ نابضاً مع الحرمان المميت الذي يسود وطن المحبوبة ووطنهِ، هذا”الجور”يذكّره بذاته المُنكسرة في البعاد وقلة الحيلة التي يعيشها والتي تلوحُ علانيةً بين طيّات الشذراتِ في زوايا عويصة، إنهُ يشعر بالوعي الحقيقي للمأساة التي تلفّ في جيد ما حولهُ، تطلقُ إيحاءات حالكة المشاهد ومتوجّع المعنى في (من يوميات عاشقٍ حزين) تنمّ عليها الحالة لتلك الرؤية المذعورة في ما يحصل من قيامة الفجيعة التي تعتري الجميع في صباحات البلاد، ولأنه لا ملاذ له سوى معشوقتهِ فسرعان ما يدخّن سيجارته الملفوفة ويسمع أغنية للشيخ إمام ـ يركضُ نحو حبيبته لُتقبّله ويمضي:

(صباحُ الأمنيات المعجونة/ بلهب الاشتياقِ والصّبابة المزركشة بـكُستناء التنهيدة/ صباحُ المهمّشين في وطنٍ باتَ صومعةً للثكالى/ صباحُ الياسمينات الجريحة على وريقات الصحف السوداء/ صباحُ الأطفالِ الذينَ يتدفّقُ في عيونهم الأمل/ وهُم يتشدّقونَ بـزجاج السيّاراتِ كي يفوزوا بـمبلغِ مالٍ هزيل/ صباحُ الجميلات الصغيرات/ وهنّ على مشارف الأرصفة البلهاء في مدينتنا/ يبحثنَ عن لُقمة عيش/ صباحُ المستضعفينَ في بلادي/ صباحُ المُعذّبين في هذه الأرض النديّة بزهو الأديُم/ صباحُ أغنيةٍ للشيخ إمام مع قهوةٍ سادة/ يُصاحبهما أوراقُ تبغٍ ملفوفة/ كي تهجّ الرّوح/ وتكتب بطبشورٍ فاحم على جدرانٍ من الماس أوجعَ ما تشعرُ بهِ)
ثمّ تُقبّلُ حبيبتكَ و تمضي).

من هنا، فإن بنية الشعور بالألم وظلم الآخرين متأصّلة على مرّ الأزمان. يمكننا القول بأن كتاب (العشق أسماء) رغم ما يحمله من غزلٍ عفيف وعشقٍ سرمديّ وتجليّاتٍ روحيّة وإيمانيّة إلا أنه يحملُ حسّاً مأساوياً ونبضاً يعاني من الاستياء والأسى ومخاضاً طويلاً من الحسرة، لذلك لا نستطيعُ أن نمرّ مروراً عادياً على تلك الأحاسيس والكلمات التي تحدثنا عن هذه الآلام ونجدها في أماكن صعبة بين أسطر الكتاب.

لم يعد العاشق متناثراً على كلّ هذه الأوجاع فيرجع إلى نبع الحياة الأول”الحب”ليأتي واصفاً الحبّ وصفاً صبيحاً وتعريفاً من أنقى التعاريف، فيشدو:
(ويسألونكَ عن الحبّ ـ قُل هو: سريناتا المطر/ وزهرة الأوركيد/ وشهيق القصيدة/ ورقص الفراشات/ ورائحة القهوة/ وبوح النوافير/ ونكهة النبيذ/ وتغاريد البيانو/ وفوعة الرغيف/ وكلّ الحرية).

يسعى أرشد العاصي في كتابهِ (العشق اسماء) إلى الاشتمال بمفردة”العشق”لتحتوي”أسماء”مُشرقة كـ (الولادة ـ البشاشة ـ الأم ـ الصّباـ الحبّ الأول ـ العناق ـ القُبلة ـ الحريّة ـ اللقاء ـ الوطن) فالعشقُ فطرة طاهرة يواجه كل أنواع الكره والقمع والرّدى، ويسبّب في اكتشاف النص في شرارتها الأولى، ألا وهي إمرأته الأولى.