الشخصية الدرامية والقناع

الشخصية الدرامية والقناع

قراءة في قصيدة (هواجس عيسى بن أزرق في الطريق إلى الأشغال الشاقة) لمحمود البريكان
عبد الرزاق صالح
تشير الموسوعة البريطانية إلى أن مصطلح (القناع) يرتبط بمصطلح (الشخصية الدرامية) ولذا غالباً ما يكون التعامل مع المصطلحين كمترادفين، ولكن هذا التعامل ربما أدى إلى خلق نوع من الحواجز بين مصطلح (القناع) ومصطلح (الشخصية Personal). إن الكلمات أقنعة، وأن الحقيقة سرٌّ، وقد يحق لنا أن نتساءل، لماذا أهتم الشعراء بهذه المبادئ، ونقبوا من جانب آخر في الأساطير، ففي الأساطير هذه الفائدة الأولى، وهي انه علينا أن نبحث لا أن نترك عقلنا خاملاً.

إن الشعر داخلية تخاطب داخلية، وهذا الخطاب لابد أن يتحاشى كل غاية خارجية غريبة عن الفن وعن المتعة الجمالية الخالصة وإلا لهبط الأثر الشعري من علوّه الحر وبارح المنطقة الشاهقة والتي لا وجود له فيها إلا لذاته، وسقط في مضمار النسبي والنثري، ومع ذلك لا يملك الشعر أن يدعي لنفسه موقفاً منعزلاً في قلب الواقع العيني، فما دام حياً لا مناص له من المشاركة النشطة في الحياة. يقول البروفسور بورا : (أن الرغبة في التعبير عن التجربة بدقة متناهية تحتل المكان الأول عند الشعراء المحدثين، وهم يدركون متطلبات ذلك، وهم ابعد ما يكونون عن اللامبالاة والتهور، فالبراعة والدقة مثلهم الأعلى.).
انطلاقاً من هذا المبدأ ومن الإحساس بضرورة الاعتماد على أقنعة ذات دلالات مُعاصرة تكون قادرة على التحول تبعاً لنظام العصر، راح الشاعر العربي الحديث ينحت شخصيات ذهنية يشحنها بالدلالات الجديدة والفاعلة. وقد تكون تجربة محمود البريكان في قصيدته (هواجس عيسى بن ازرق في الطريق إلى الشغال الشاقة) هي التجربة الأولى في الشعر العربي الحديث على مستوى القناع الذهني، تتمتع هذه القصيدة بخصوصية تجربة محمود البريكان الشعرية (حاول البريكان بقوة الأفكار وشجاعة الشاعر، أن يستأنف دعواه خارج السرب، وحين كان الشعراء من جيله ينتقلون إلى أساليب جديدة بمكانزم عام، استطاع البريكان أن يتأكد من تفرده)(*). ولقد جاءت القصيدة تحمل تاريخ 1958 وهو تاريخ متقدم على مستوى قصيدة القناع الناضجة والقناع الذهني بصورة خاصة في الشعر العربي الحديث :
(يخفي المسافرون
وجوههم في صفرة الظل ويحلمون
بالغدِ، الرجال متعبون يحلمون
بالبيع والشراء، والفاقة والثراء
والأهل والبنين، والوداع واللقاء)
إن استخدام (البريكان) لشخصية (عيسى بن ازرق) كقناع، وكانت من خير أقنعة الشاعر الدرامية، وتكمن أهمية هذا القناع في رؤية هذه الشخصية لخبرات شتى ولأناس مختلفي المستويات، يدورون في حلقة الحياة الرتيبة، وهو الشاهد على تلك الأوضاع في الوقت نفسه في هذه القصيدة، يطور محمود البريكان، بنية متميزة للقصيدة، يمكن أن تسمى بنية (ثنائية) المركز.- وهذا الصوت أو هذه الصرخة مقطع من قصيدة الشاعر – هكذا تكون لحظة الحضور هي ذاتها لحظة الغياب تماماً، كما كانت عبر القصيدة كلها، في كل موضع تتجلى فيه هذه الهواجس، سواء كان التجلي حقيقياً أو شبحياً، وبهذا يكون (البريكان) قد استخدم هذه الشخصية – القناع – استخداماً واقعياً مجسداً حركة الحياة الفعلية، حتى لو كانت على مستوى الشخصية الدرامية، لأنه اتخذ من هذه الشخصية شاهداً على الحياة، متحدثاً عبر هذه الهواجس، ينطق بالرأي السديد وسط الفوضى والتناقض. أن هذا التجلي الداخلي يتوضح من خلال العلاقة بين بنية العمل الفني – أي البنية الداخلية للقصيدة – وذات الشاعر الذي رفع صوته ورأسه – من خلال القصيدة – كمن يريد أن ينفخ بالبوق، محذراً من وقوع الكارثة، وعلى مستوى الواقع العيني، وفي قلب الأحداث في تلك الفترة، تاريخ كتابة القصيدة، والمسار الذي تتخذه الحالة بعد ذلك.

(*) الصوت في قصيدة القناع – فصل من رسالة الماجستير (القناع في القصيدة العربية)/ ضياء الثامري / جامعة البصرة.