بين الحب والموت عمى الالتباس بين النور والعتمة..بعض الحب يقود الموت إلى سبات لكنه لا يقضي عليه

بين الحب والموت عمى الالتباس بين النور والعتمة..بعض الحب يقود الموت إلى سبات لكنه لا يقضي عليه

زينب المشاط
كم هو فوضوي ومشوش موضوع الحب! إذ نراه في كل مكان يُحتفى به على اساس إنه”التجربة الأكثر أهمية في الحياة الإنسانية”أتساءل: هل يوجد ثمة من يجادل بالضد من الحب؟ وسواء منحنا الحب متعة عظمى، أم تسبب لنا بمعاناة رهيبة، فإن القليل وحسب هم الذين ينكرون أن الحب هو من يمنح الحياة معنى، وهدفاً جديرين بالاحترام، وإن غياب الحب يحيل الحياة إلى صحراء موحشة.

ثمة الكثير من الشكوك السائدة عن الإرباكات والتناقضات التي يحتويها مفهوم الحب، وغالباً ما نتساءل : كيف يمكن لهذه الخصلة الانسانية العظيمة أن تكون لها نتائج غير مرغوب فيها وعصية على الفهم البشري؟
في كتاب”عن الحب والموت”لـ باتريك زوسكيند، سنجد أن الكاتب يناقش قضية الحب والموت من وجهة نظره الخاصة، قد قدم في هذه الدراسات الكثير من الآراء التي تخص الحب والموت لمجموعة من الكُتاب والفلاسفة والمفكرين، صدر الكتاب عن مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون، ترجمه د. نبيل الحفار، وقدمته الروائية والكاتبة لطفية الدليمي...
حاول زوسكيد أن يؤكد من خلال هذا الكتاب، أن كون الحب نوعاً من دفقة”تسونامي”تضرب كيان الفرد وتدفعه لإتيان بأنماط سلوكية ربما ما كان سيفعلها لو كان في حالة أخرى توصف بالهادئة والمعقلنة، وفي هذه الجزئية يتماهى زوسكيند مع كثيرين”منذ عصر الاغريق وحتى اليوم”يئن في الحب عرضاً من اعراض الهوس العقلي المندفع بغير لجام...
يستعرض زوسكيد في كتابه أنماط عن مفهومي الحب والموت، ومنها لعدد من الفلاسفة والكُتاب والمفكرين، مثلاً خلال النصف الاول من الكتاب يتحدث عن موضوعة”الحب من الزواج المقدس إلى النزهة الرومانسية”ويذكر أن في القرن العشرين قبل الميلاد كانت مجتمعات وادي الرافدين، وبخاصة المجتمع السومري، حيث تنظر هذه المجتمعات الى موضوع الحب نظرتها إلى فعل مقدس متصل بالآلهة، باعتباره نشاطاً يفضي إلى ديمومة الوجود عبر رمزية اتصال الملك والكاهنة العظمى في طقس”الزواج المقدس”الذي ينقل قوة الخصب والوفرة للبشر والكائنات الأخرى وللطبيعة بفعل العقائد والديانات والفلسفات التي ظهرت في الشرق والغرب وحكمت بمفاهيمها سلوك البشر وحياتهم وتناوبت أو تقاطعت الطاوية والمانوية والهندوسية والصوفية المسيحية والاسلامية، في رؤيتها للحب...
وأشار زوسكيد الى إن هيغل في كتابه”جدل الفكر”ناقش موضوعة”الحس الجنسي”خامسة الحواس الداخلية التي هي: الحس بالحرارة والحس بالحركة والحس بالجهد والحس العضوي اضافة إلى الحس الجنسي؟، ويعد الأخيرة المكملة للحواس جميعها، استند هيغل إلى مقولة ثنائية الجنسين، فالحب لدى الكائن الانساني محكوم بهذه الثنائية، حيث أن في الكائن الذكر شيء من الانثى، ويمثل كلا الذكر والانثى وجوداً ناقصاً ومتحركاً يدفعه الحب باتجاه الاخر عبر الانجذاب العاطفي والجنسي الذي يعد وسيلة لتحقيق نزعة الاكتمال الكامنة في طبيعة الاثنين. يتقاطع إريك فروم مع هيغل في ثنائيته الهيغبية حول فعل الحب ويقول : إن كل تجليات الكينونة الانسانية – الحب والفرح وإدراك الحقيقة – لا تحدث في الزمن بشكله المطلق، إنما تحدث في”هنا”و”الان”وتلك هي السرمدية اي التحرر من الزمن اللامتناهي.
يرفض إريك فروم استخدام مفردة”الوقوع”في الحب ذلك إن الوقوع يعتبر فعلاً سلبياً بينما الحب بحد ذاته ايجابي يسمو بالمحب ويخصب طاقته الحيوية، وهو به ينهض ويتقدم ولا يقع، وربما تصلح كلمة”الوقوع”لذلك الطراز من التعلق الجسدي النزوي العاصف الذي لا يعرف التجارب والألفة والحنان والمتعة الحقة، بل ينشد اللذة اللحظية، ولا ينطبق عليه توصيف إريك فروم لفعل الحب كنشاط ايدابي ونهوض وسمو، وتقدم في الزمن، ويقول فروم”اذا أحّب احدهم شخصاَ آخر حباً مقصوراً عليه وحده وأظهر لا مبالاة بمصير بقية البشر، فإنه لا يعرف الحب ولا يحب بالمعنى الحقيقي للحب، وإنما يعاني من تعلق طفولي تطفلي ويكشف عن انوية متمركزة واسعة...
في موضوعة الحب والموت : صراع (إيروس) و (ثاناتوس) الأزلي، ويذكر أن افعى الموت الملعونة المتربصة دوماً، قد تسبت قليلاً أو كثيراً لكنها لن تلبث أن تطل بأنيابها السامة ولو بعد حين، إذاً ما العمل معها؟
الحب يفعل الاعاجيب في كبح جماح افعى الموت المتغولة وتحييد عملها القاتل، في قصة قصيرة للأمريكي شيروود اندرسون”صديقنا القديم – الجديد الموت”يرى أندرسون أن الترياق الناجح للتعامل مع هذه الاشكالية الضاغطة في حياتنا كل حين يكمن في جزئيتين: أن نديم عوامل الحب وهيجاناته المنعشة للروح الراكدة لنضمن سبات الافعى إلى أطول مدى ممكن، وأن نعيد تصوراتنا عن الموت الذي يغيبنا عن الأحباب، وهنا يؤكد زوسكيد أن الحب والمخيلة ضديدا الموت: من لا يمتلكون المخيلة لا يجترحون الحب، وبين الحب والموت عمى الالتباس بين النور والعتمة، بين الخواء والازدهار، الحب الذي يقود أفعى الموت إلى كهف السبات – ولو مؤقتاً – يرقد الموت في السبات احياناً لكنه لا يموت، وكيف يموت الموت؟ هو الاقنوم الفائض عن حاجة الجسد والنص، لكنه يصاحبنا ويألفنا عند غروب الحب، ينام ليلاً على وسائدنا ويذكرنا بفضيحة التحلل وفناء المادة واندحار الجمال، لا الحب يستوعب الموت ولا الموت يستثني الحب – كلاهما عدو متربص بالآخر حتى الأبد.