زميلي  المريض العراقي

زميلي المريض العراقي

محمد عارف
«الوعي الشقي»، عبارة الفيلسوف الألماني «هيغل»، ترددت في ذهني ما أن تعرّفت إلى الكاتب العراقي سهيل سامي نادر. كنتُ في مطلع سبعينيات القرن الماضي أبحث عمّن يساعدني في إصدار صفحة «آفاق”الثقافية في «الجمهورية»، وأصبح سهيل زميلي حتى أبريل عام 1978 عندما صدر قرار «مجلس قيادة الثورة”في العراق بعزلنا سويّةً مع 11 صحفياً،

ضمن ما سُميَت «حملة تبعيث أجهزة الإعلام والتعليم». بقي سهيل في العراق يتدّبر أمره مع «الوعي الشقي»، وغادرتُ أنا أتدّبر أمري مع «تتمة وعكس الوعي الشقي الذي يكون في دخيلته سعيداً كل السعادة، أي الوعي الكوميدي»، حسب «هيغل”أيضاً.
والصحفيون نوعان؛ صحفي يروي قصصاً بتقاريره، وآخر يقتل القصص بتقاريره. وسهيل يروي في أحدث كتبه «المريض العراقي» رواية في مقالات سياسية، يقول عنها: «ما كتبته آنذاك كان روايتي الخاصة، وما زلت أواصلها، فأنا لا أّدّعي مثل أصحاب المبادئ الكبرى أن الموضوعية تقود أيديهم عند الكتابة، فأنا مَن يكتب». ويستّهلُ سهيل كتابه بحديث عاطفي شجي عن «الزعيم عبد الكريم قاسم»، قائد «ثورة 14 تموز». «مرّت سيارة الزعيم مبطئة ورأيته الوجه بالوجه، مدّ ذراعه محيياً ومبتسماً، إلاّ أنني لم أرفع يدي لردّ تحيته ولم أبتسم. كنت أنظر في عينيه، في وجهه، في ابتسامته البريئة المشرقة». ولم تغادر ذاكرة سهيل قط كيف اختفت ابتسامة الزعيم و«حّل محلها تساؤل مستغرب طفولي. لماذا؟ ما الذي فعلتُ؟». وعندما سيرى الزعيم بعد انقلاب عام 1963 في التلفزيون مذبوحاً، سيستعيد «تعبيره الآسر والمخفق: لماذا؟ ما الذي فعلت؟».
و«المريض العراقي» هو الطبقة المتوسطة العراقية التي انهارت لحظة انتصرت ثورتها التاريخية عام 1958. وأكاد أبكي غضباً عندما يهدر سهيل مواهبه الروائية في الكتابة عن زعماء العراق بعد الاحتلال؛ هل يقرؤون ما يكتب، وإذا قرؤوا هل يفهمون؟.. هذا الفصام الذي يعانيه معظم الكتاب العراقيين يتحدث عنه سهيل بمرارة: «ليس في العراق ما هو سياسي حتى يمكن تحليله ومعالجته. في العراق، توجد أبخرة سامة تخرج من خنادق وطوائف أسلمت قيادها إلى مجانين، أبخرة تسمم الأجواء، وتجعل الجميع في حالة غثيان دائم».
و«سهيل» في أبدع حالاته عندما يكتب عن الفنون التشكيلية العراقية. في كتابه «شاكر حسن آل سعيد: سيرة فنية وفكرية»، يحضر فيه الفنان كحضوره الصوفي السمح في زياراته لنا في «الجمهورية». «كان شاكر لا يني يقف على أطراف مدينته حيث الريف تارة، أو داخل وجدانها الشعبي والديني تارة أخرى، موزع الولاءات بين خيال جامح غير راضٍ وأساليب فنية مختلفة أراد لها تركيباً موحداً. كان في الواقع يحمل رهانين في آنٍ: رهان شبابه المترع بالحمية والهوى من جهة وروح المأساة من جهة أخرى، ورهان يقظة وطنية عامة وانفتاح المدينة المدهش في فترة الخمسينيات الخصبة».
وسيخرج «المريض العراقي» من صدوع جدران يؤطرها «شاكر» في لوحات يتفجّع لها سهيل: «مَثّل شاكر جدراننا المصدوعة في اللحظة التي كانت صدوعنا الاجتماعية تتوسع.. وأيّ جدران مصدوعة أيها المصدوعون؟.. إنها صدوعنا لو تدرون، صدوعكم، صدوع قلب، صدوع مجتمع، صدوع أرواح، صدوع الذكاء غير العادي، المنسحب، المتألم، الحزين».
وبعد ربع قرن، التقيتُ وزميلي سهيل في العراق دون أن نلتقي؛ هو يصور العراق من الداخل، وأنا من الخارج. وأُبيحَ دمُ كلينا؛ أنا لأن كتاباتي تُحمّل المحتلين مسؤولية الكارثة، وهو لأن كتاباته تُحَمِّل العراقيين المسؤولية. وكأنني الذي نجا عندما غادر زميلي بغداد حين سجّل العراق في عام 2006 الرقم القياسي العالمي في عدد قتلى الصحفيين. وانتظر بفضول إبداعات «الوعي الشقي» في بلده الجديد؛ الدنمارك، أسعد بلدان العالم، حسب الأمم المتحدة.

عن صحيفة الاتحاد