فنتازيـا القـص .. قراءة في قصة (زيارة) للقاص هيثم بهنام بردى

فنتازيـا القـص .. قراءة في قصة (زيارة) للقاص هيثم بهنام بردى

د. جاسم خلف الياس
تعد قصة (زيارة) في مجموعة (النهر والمجرى) للقاص هيثم بهنام بردى واحدة من القصص القصيرة التي سعى القاص في اشتغالها إلى تحولات القص، إذ اشتغل فيها على تقنيات جديدة عبرت عن وعيه بالكتابة وتحولاتها الفنية، وتعرية الواقع والجرأة والغور في نسيجه، وإمكاناتها في قول ما تريد، في تشكيل بدا عليه الافتراق عن الاتفاقيات السرد المتوارثة.

إذ تنهض القصة على أحداث وشخوص فنتازية، يقدمها راوٍ يوظف ضمير الشخص المتكلم (أنا) الذي يتم بوساطته نقل الاحداث التي تخصه مباشرة، وبذلك يكون الراوي الذاتي هو صانع الفعل القصصي، والمهيمن الحقيقي في منطقة القص، وعلى وفق هذا التحديد فالراوي((شخصية مشاركة في النص القصصي، ذات رؤية داخلية يتم خلالها تقديم الاحداث من وجهة نظره، فهو العالم بكل التفاصيل، ذو معرفة شخصية واسعة بجوهر الاحداث)) ( ) فبعد أن تدخل الشخصية (المرأة) التي يبتكرها الراوي الغرفة دون أن تطرق الباب، يندهش لهذا الاقتحام الأنثوي المباغت لمكتبه، وهذه أولى الإشارات التي سندخل عبرها إلى الفنتازيا النصية، فيفوح فضاء الغرفة برائحتها، وعندما تصبح قبالته تماماً، في الجهة الأخرى من مكتبه الانيق تبادره بسؤال: هيثم بردى.. حسب تصوري..؟ فجبيها ونظراته تسافر في أغوار عينيها السماويتين: نعم.. أنا هيثم، تفضلي.. هل من خدمة؟.
ثم يستمر الراوي في روي الأحداث التي وقعت في غرفته الى نهاية القصة بضمير المتكلم، فيصف لنا شعوره وأحاسيسه وأفكاره، فهو الراوي والشخصية المشاركة التي عاشت هذه الأحداث، ويتطابق اسمه مع أسم المؤلف، فهل ستُروى الأحداث التي تتعلق بالراوي كما هي؟ وهل سيقطع الراوي خط القصة بانعكاسات على المخيلة؟ وهل سيشكل تدخله مستوىً قصصياً جديداً؟ وهل تعمد في ذلك بهدف ايهامنا بأن الاحداث حقيقية، والشخوص من الواقع؟ قد تكون هذه التساؤلات وما يليها من تساؤلات أخر هي الإجابات في الآن نفسه. فما علينا إلا أن نكمل ما وراء الاستهلال كي نرى إلى أين يقودنا هذا الفعل الكتابي. فبعد وصف عينيها اللتين تخزران الاوراق البيض الملقاة أمام الراوي/هيثم، يناولها سيكارة لتبديد الصمت الذي ران في الغرفة، لكنها ترفض بإيماءة من رأسها، ثم يحدق فيها بإمعان؛ ليصف لنا شعرها وكتفيها البضين، ووجها الناصع البياض، وأنفها المستقيم، وفمها الصغير، وعنقها الطويل، لينتقل الى تأففها بعصبية وهي تقول: قد تتساءل عن زيارتي هذه؟ ثم تتوقف للحظة تنتظر ان يسألها ولكنه يعاود الروي الذاتي (ولكني لم أفعل) لينتقل الى استطرادها: جئت أسألك سؤالا واحدا لا أكثر. وحين يطلب منها السارد (هيثم) أن يتعارفا، تجيبه بحسم: يكفيني أني أعرفك، وتستطيع أن تناديني ندى، هدى، سميرة، باسمة.. الخ. وهنا نتورط في حضور الوعي القرائي، فلماذا تصر المرأة على الاسم الموهوم الذي لا يتحدد ضمن ستراتيجية التسمية لكل إنسان؟ وهل يشكل استفزازاً للقارئ الذي عمد القاص إلى جعله شريكاً فاعلاً في صناعة الدلالة. وبعد أن تخبره بصدور رواية له، ويعقب على كلامها بعنوان الرواية (الغرفة 213) تفاجئه بسؤال أدهشه:
((لم جعلت زكريا يموت بهذه الطريقة؟))( ).
ومن هنا يبدأ القاص في تفعيل دور الفنتازي، إذ يقلّب الراوي قلمه بين السبابة والوسطى باحثاً عن الإجابة فيقول:((إنها الطريقة المنطقية التي عالجت بها خاتمة الرواية، كان يجب أن يستشهد)). فتقاطعه المرأة الزائرة قائلة: بل يموت، تستفز الراوي /هيثم فيجيبها بتوتر أنت مخطئة يا آنسة وأعتقد أننا خطان متوازيان. ثم يلملم أوراقي متحاشياً النظر اليها، لكنها تنهض وتضع كفيها على حافة المكتب، وتصرخ بغضب: ((ستبقى تكتب نصوصاً محنطة، ما دمت تسكن هذا البرج، أنزل أيها الأستاذ وتنفس هواء الواقع)) ( ). ويتساءل بدهشة أنزل؟ وترشقه بنظرة ازدراء وتخرجت كما دخلت، دون أن تغلق الباب.
يزجنا الراوي/ المؤلف في مفارقة الحالة (المرأة في الواقع/ المرأة في النص) وهذه ستقودنا إلى الفضاء الفنتازي، إذ نكتشف بعد استمرارنا في القراءة، إن هذه المرأة هي شخصية مركزية في رواية (213) للقاص هيثم بردى، أي بمعنى آخر إن المفارقة التي يكتشفها القارئ تقوم على يقيننا بأن الشخوص التي تحاور الراوي الآن (المرأة) وفيما بعد (زكريا) والشخوص التي هي روائية أساساً، جميعها شخوص ورقية، وليست من لحم ودم. ثم يأتي دور زكريا (الشخصية التي تواجدت مع الراوي في غرفة صديقه صباح) فيلومه بقسوة وهو يوجه كلامه للراوي (هيثم) أو(المؤلف) ويعنّفه لعدم تنبيه زكريا الى الحالة التي كشفها صوت ضميره حين كان يُصلي أذنيه بالحقيقة المروعة، (وحتى هذه اللحظة لم يدرك الراوي أن الذي يكلمه هو زكريا بطل رواية (الغرفة 213) ويكمل زكريا حديثه بعدم موافقته على وضع نهاية غير موفقة قائلاً له: جعلتني أموت مثل حشرة. وهنا يتمظهر الذهول على الراوي، فمن هذا الذي يكلمه؟ وما علاقة هذا الرجل بزكريا (الشخصية الورقية) هذا شيء فوق الطبيعي، ولا يمكن لعاقل أن يصدق ما يحدث، لذا يتساءل بتعجب: ((- تموت..؟!.)) فينهض زكريا فجأة وينظر الى الراوي/ المؤلف/ هيثم ويقول بصوت عاصف: ((مثل حشرة أيها الروائي الواعد)). فتميد الصالة تحت الراوي، ولا يقوى على النهوض، فيهمس بوجل:
((- من أنت؟. بهدوء، أجاب.- زكريا، أنا زكريا بطل الرواية)).
وبعد أن اختفى زكريا من أمام الراوي، انتشرت مـلامح وجـهه في السـقف، الـجـدران، الأرائـك، الصـور، وأثـاث الصـالة، ووجه زكريا يحاصره، يشعر باسوداد يغلف رؤاه، فيتهالك على كتف صباح الذي دخل بعد ذهاب زكريا، ويهوى على خده بصفعة، فيقول الراوي / هيثم عن نفسه:
((شعرت على أثرها بحواسي تنسل إلى جسدي ثانية، وقفت كالتمثال وراوزت عينيّ، كان صباح واقفاً قبالتي وفي مقلتيه سؤال:- هيثم؟!. سمعت صوتي:- زكريا كان هنا.- أي زكريا؟- بطل روايتي (الغرفة 213)..))
إلا أن (صباح) الشخصية الرابعة في القصة، أخذ ينظر الى الحدث برؤية يشوبها التعجب، فطوّق كتف السارد/ هيثم هامسا: - أنا آسف. ثم يدعوه الى النوم، ولكن الراوي/ هيثم يجيب صباح بثقة مطلقة، ليقنعه بأن زكريا فتح له باب الشقة وكلّمه، وتركه بعد أن أشعل حرائقه. غير أن صباح كان واثقاً من نفسه أيضاً، فالشقة مقفلة، والمفاتيح ها هي بين كفيه. ويزداد تعجبه من الأمر فيتساءل:
))- كيف دخلت الشقة…؟ ويهرول نحو النافذة، فيجدها موصدة، ويرجع وعيناه تقدحان سؤالاً لغزاً: - أقلتَ انه فتح الباب؟.- أجل…فتهالك على الأريكة وأنشأ يفرك صدغه ثم قام نحو المغسلة قائلاً:- سأبتلع قرصاً منوماً)).
هذه الفنتازيا تمثلت في مرتكزين : الأول تدخل الراوي الذي شكّل مستوىً مروياً جديداً، كي يوهم القارئ بأن ما يقرأه أحداثاً حقيقية، وهم يمارسون حياتهم بكل واقعية، والثاني: الفعل الفنتازي الذي شكل العلاقة المعقدة بين التخيل والواقع، والمؤلف/الراوي، بهذا الصنيع استفز الذهن بالطريقة التي تستطيع أن تدهش وتشوّش على نفسها. فالتأثيرات الفنتازية متأتية من الافتنان الذي مصدره الحيرة أو الشك، وهي بالتأكيد تنجم عن تصورات غير واقعية وتهدف إلى إشباع الرغبات اللاواعية ( ).
ويستمر تدخل الراوي/ المؤلف في الفعل الكتابي المتخيل، من خلال التعليق عليه، وقطع السرد أحياناً، والتركيز على التنظير الذي يترك انطباعاً لدى القارئ بأن كل ما يجري من أحداث ومواقف قد حصلت في الحياة الواقعية، وتم توظيفها في عالم القص، فبعد إغفاءة رخية بسرعة فائقة، يتأمل السارد/ المؤلف أشياء الصالة، وينتابه حوار داخلي:
((مستحيل، أنه بطلي الخيالي الذي صنعته أنامل مخيلتي، كيف استحال من شخص على الورق إلى رجل حقيقي يزجرني كما زجرتني زائرة الصباح المجهولة)).
ثم ينهض كالملسوع متسائلاً بحرقة وهو يتذكر المرأة التي دخلت عليه فجأة وكلمته عن زكريا، فيستحضر صورتها في ذاكرته، شعرها الأشقر المتطاير، نظرتها الحالمة المنبثة من سحب زرق لعينين بلون البحر: مَنْ تكون..؟!! أتكون هناء بطلة الرواية؟. ويستمر في مخاطبة نفسه ولكن الكلام موجّه للقارئ ليشركه عنوة في الخطاب:
((كن واقعياً، إنها فتاة لا وجود لها، من صنع الخيال، ولم لا.. قد يكون الخيال الوجه الآخر للواقع، قد تكون هناء شخصية حقيقية، ألم تقل في مستهل الرواية أنها مستوحاة من واقع حقيقي، إذن هناء حقيقية، ولكن من يضمن.. من يضمن.. من..؟)) ( ).
ويقفل القاص هيثم بردى قصته بإقفال مفتوح يعود بنا الى زكريا وهناء في روايته (الغرفة 213) بعد أن باغته النوم، وقد تشكلت في فضاء الغرفة صورة رجل وامرأة يمشيان جنباً لجنب متشابكي الأيدي، وأمامهما دائرة تشبه الشمس، وهذا يمثل استجابة ضمنية يمظهرها القاص لرفض موت (زكريا) بالطريقة التي وردت في الرواية، لذا نراه يعدل عن ذلك ويمنحهما حياة جديدة وهما يتجهان نحو الشمس بكل دلالاتها الايجابية. فالجمالية التي استطاع القاص هيثم بردى أن يوفرها لنا في هذه التحولات، عبر توظيف العجائبي، هي التي تهمنا في هذه القراءة، ودلالة هذا التحول تتمركز في إدانة الواقع، فإذا كانت الشخصية الورقية تحتج على طريقة موتها فما بال الإنسان من لحم ودم بكل مشاعره واحاسيسه آماله وتطلعاته، ألا يحق له أن يعيش بعيداً عن الحروب والقمع والتوحش والإذلال؟ أو يعري الواقع، فما هو فنتازي في الواقع المعيش هو الطبيعي، فحياتنا الواقعية تحتشد بالفنتازيا إلى حد التخمة، أو كما قال الراوي: قد يكون الخيال الوجه الآخر للواقع.