شجاعة نادرة أمام احتمال الموت الوشيك

شجاعة نادرة أمام احتمال الموت الوشيك

ترجمة : عدوية الهلالي
في رواية (تعب حقيقي) للفرنسي كريستيان اوتييه، سنرى رجلاً يرى اقتراب شبح الموت منه ليتمكن من تقييم حياته... وبأسلوبه الظريف والانيق سيتمكن اوتييه من ايصال فكرته للقارئ وكأنه يتحدث عن نفسه.. في بداية الرواية، يتلقى باتريك بيرثيه نبأ وفاة والده، فيواجه الموقف بشكل عادي جداً لرجل بلغ سن الثامنة والاربعين وصار قوياً ومسؤولاً، بحيث يهييء نفسه لمواجهة مثل هذا الموقف ثم يواصل حياته بهدوء وسعادة...

بيرثيه، هو مهندس معماري مشهور، يعمل في مدينة كبيرة في موطنه الأم في الجنوب الغربي... ومنذ طفولته، لايعرف بيرثيه المنحدر من الطبقة البرجوازية الريفية سوى النجاح والتألق في حياته.. الاخفاق الوحيد الذي سيعرفه هو النهاية المريرة لعلاقته مع زوجته الحسناء ماري، اذ لم تستمر إلا لثلاث سنوات فقط... كما انه لم يتمكن من اقامة رابطة حقيقية مع ولديه وهما يخوضان مرحلة المراهقة المعقدة إذ يكتشف اختلاف اذواقهم الموسيقية والأدبية عنه وغرابتها بالنسبة حياة وله..
رغم ذلك، تبقى الحياة وردية بالنسبة لبيرثيه الذي لايجد فيها مايضير حتى يحل ذلك اليوم الذي تنقلب فيه كل الموازين ويزوره النحس وسوء الحظ بأبشع صوره..
يتزامن الأمر مع حدث كبير ومهم، ففي الوقت الذي يجري فيه انتخاب رئيس الجمهورية ويدخل الجميع في حالة انذار، يشعر باتريك بأول حالة توعك صحي..ورغم عدم وجود صلة واضحة بين الحدثين إلا أن الكاتب يرتأي اختيار مثل هذا الحدث ليضع بطله بمواجهة نفسه فيعيد تقييم حياته على أسس جديدة...
بعد بضعة اسابيع، يجري باتريك فحصاً طبياً شاملاً، فيصدر الطبيب قراره الخطير حين يبلغه بأنه مصاب بمرض اللوكيميا وبأن أيامه معدودة إذ ربما تبقى له ستة –ثمانية اشهر وربما اكثر اذا ماخضع للعناية المركزة...
الغريب في الأمر أن بطلنا باتريك بيرثيه يستقبل الخبر بشجاعة نادرة ولاتزعجه أبداً فكرة احتمال موته الوشيك بل يزعجه أن يعلن الخبر لمحبيه، لكنه يندهش حين يرى كيفية استقبالهم للأمر، ففي مكتب الهندسة المعمارية الذي يعمل فيه يسارع شركاؤه لاتخاذ الترتيبات اللازمة لتنسيق العمل في حالة غيابه، أما اولاده فلا يهمهم من الأمر إلا كيفية ضمانه لمستقبلهم بعد وفاته...
لأجل هذا كله، يشعر باتريك بأنه مستعد لمواجهة الموت وتوديع أحبته بتجرد مذهل ويروي ذلك بلغة رائعة خاصة في الصفحات التي يصف فيها مشاعره الأخيرة تجاههم وكيف ينوي مغادرة الحياة التي كان يتمنى أن يراها تنتهي بهدوء ومن دون ندم.
من المعروف أن أهم غرض في الأدب الروائي هو الادهاش، اذ يجب ألا تحدث الاشياء كما يتوقع القارئ..ففي هذه الرواية، وبعد أن يألف باتريك فكرة موته القريب بسبب مرض ميئوس من شفائه، يفاجئه نفس الطبيب، بأن هناك خطأ في التشخيص وبأن حياته ستستمر ومعها كل مشاريعه وأحلامه وطموحاته... والغريب في الأمر أيضاً أن باتريك لم يستقبل الخبر بأن يتنفس بارتياح لانقلاب الموقف بل يغرق مباشرة في موجة من الاضطراب والقلق، اذ لم يعد يتقبل عودته الى الاحياء بعد أن قرر مغادرتهم لذا يهرب من عائلته واصدقائه ليقضي أشهر طويلة في حجرة في فندق محاولاً طوال الوقت استعادة قدرته على التشبث بالحياة من جديد...
يعيد الكاتب كريستيان اوتييه بطله الى نفسه حزيناً ومنكسراً بعد أن يغادره الشعور بالشباب والابتهاج في هذه الكوميديا التراجيدية الظريفة والقوية ليمنح القارئ انطباعاً جديداً عن مستجدات الحياة..
ربما يشعر القارئ بصورة الكاتب تطل عبر ملامح البطل الفكرية والثقافية فهو في نفس السن تقريباً ويمكنه الحديث عما يحبه ويشعر به من خلال بطله كما يتلذذ بتصوير اللوحات الاخلاقية لزمنه وينقل الينا لحظات تمرده كتلميذ ابدي لاتتحدد سلوكياته بعمر معين..
صدرت ر واية (تعب حقيقي) لكريستيان اوتييه مؤخراً عن دار نشر (ستوك) في 256 صفحة.