المنضدة والمرآة.. قراءة في تجربة عزيز عبد الصاحب

المنضدة والمرآة.. قراءة في تجربة عزيز عبد الصاحب

د. عقيل مهدي يوسف
في صوت عزيز عبد الصاحب الذي ولد في الناصرية عام 1937 رنة جنوبية خاصة تميز مسارها اللحني وخامتها في البعد الصوتي للعروض المسرحية في العاصمة بغداد , الممتدة منذ تخرجه من معهد الفنون الجميلة (1961) وذهابه لمدينته الناصرية وعودته الى بغداد (1968) ليسهم مع الراحل حقي الشبلي بتاسيس الفرقة القومية. العروض التي خبرها في طفولته ,

حفزت ضميره المسرحي , واطاشت لبه في ذلك الوقت المبكر,تراه يداري قلقه بالمرح , يترنم تارة بشطر من الشعر الصوفي ,واخرى بايقاع اغنيه ريفية , اوبشطيرة حكمية يستلها من التراث او شعيرة دينية من المسموعات التي يستهويه فيها الجناس والطباق والحس الرومانتيكي للفجيعه.

وهو في سنه السبعيني كان يجفل من (النقد) اي نقد فيما يتعلق بالنتاجات الفنية فلا الاغنية ولا اللوحة والرواية ولا العرض المسرحي يمكن الاكتفاء بنقدها دون مشاهدتها وسماعها , يتململ في داخله (امراخلاقي) فيسقط (الباليه) من منظومة الفنون , ويكسر الخوابي المعتقة , ثم يلثم قطراتها المسفوحة ويلوم القدر على تبدل احوال النفس الامارة! يحاول الاستطالة بحدث او حكاية او موقف او مزاج ليصنع منها امثولة شخصية مؤطرة بمشهدية متحركة , وغالبا ما يصنع خطا شرطيا بين الحسي والمعنوي في عوالمه الفنية , تارة يشطرها وتارة يدمجها , تضغط على مخيلته رموز من مصادر شتى , فيستلها من زوادة الممثل الجوال (الزوربوي) او الواعظ , والشاعر , والحكواتي , والمناضل الشهيد , والمقرئ (الحسيني).فيمعن في نشوتها , ومتعتها , وحين يتم ماربه منها , يشطب عليها بخطين متقاطعين خوف الوثنية وهما الموعظة الحسنة , والفكرة الرشيدة عن الختام.
يتمنطق برموزه وعدته الفنية , مثل زنار , ليجتذب بالاعيبه , ومكائده القولية (قيل لوتد مااسرع نفاذك في الارض؟ اجاب : بفعل الدق!) جمهوره في المقهى , المنتدى , الباص , السوق ,المصلى...
يتوقف باصطناع مسرحي , وهي عادة سلوكية قديمة تميز فيها اهل المسرح من دون خلائق الارض طرا , ينجز مشهدا مرتجلا , لايريد له ان يظل حبيس روحه , يفخر بانتسابه الى صقور البادية وصفوة ارحامها ودوحتها العالية , ويتاس بخلائقها الباسلة. منذ ان بنى مدينة الناصرية (ناصر السعدون) حتى باتت مهادا تتلقف بذور الفكر السياسي لتزدهر فيها القومية , والشيوعية , والدينية وكذلك عاج في المدينة شقاة ممن ادركتهم حرفة الادب ,منهم من يقارع رحيق الخمارات , ليصحو على تظاهرة , وسجون, ومسرح وشعر , واغنية.
ابتلى عزيز (بداء الخشبة)المزمن , وتوردت وجنتاه وهو يطل من شباك علوي في مدرسة الفيصلية الابتدائية , محاطا باترابه من التلاميذ وهم يشكلون (كورس) من عطش بصري , وفضول طفولي , هكذا شاء قدره ان يحرم من حضور اول مسرحية يشاهدها , اوهكذا شاء مدير المدرسة لحكمة نجهلها , عرفت الناصرية مثلها مثل اي مدينة عراقية , لغزا محيرا فيما يخص احتفالات المدينة لاننا لاندري , اي مخرج خفي , كان يتولى بطريقة مبهمة تجهيز النخب الحاكمة في المدينة بما يتطلب مركزها من اكسسوارات (فلاحية) يؤتي بها من قصبات بعيدة , بكامل ازيائها المتحفية , ومعداتها الزراعية على ظهور الدواب , او في باصات خشبية فتحط اسرابهم على ارض , معمل , اوفي مدرسة اوحفل في مناسبة , اومأتم , اسراب تنتظر الاشارة , فتجيش حناجرها بالهوسات والرقصات القتالية التي بقيت رواسمها ماثلة , مذكرة بعهود الاجداد الفروسية , واحدة من هذه النوبات اعترت عرضا اخرجه في عام (1963) وهو(ثورة على الاقطاع) تأليف عبد الرزاق عبد الواحد ,كانت فرصة كبيرة ان يفترش هذا السرب الفلاحي الارض ,لمشاهدة العرض لكنه بوغت حينما لاحظ ان اتصلت العباءات ببعضها لتشكيل اجنحة سود وصفر لاداء فريضة الصلاة , وبقي هم رهن الانتظار , نقصد الممثلون , مثل فاضل خليل الذي مثل بمهابة شيخا مترفا , ايضا عبد المطلب السنيد وسلمى داود , وساجدة حسن , ثم تقديم العرض تحت انظار الفلاحين المندهشة , وهم يتميزون غيضا من ظلم ابناء جلدتهم! وتقدموا بدعوتهم للفريق , في زيارة مضاربهم , ليطلع اهلوهم على هذا العجب المسرحي الذي اذهلهم , ولم تلبى الدعوة لظروف غير مؤاتية.
يتذكر عزيز وهو بعد صغير صوت والدته الشجي وهي ترتل القران , وكذلك تراوده خطرات عن تمثيله في مسرحية (وفاء العرب) في المدرسة الشرقية , اما الذي ابظع في ذاكرته فهو دوره عام (1956) في مسرحية (الملاح البائس) لجان كوكتو ,واخراج كاظم الشمرتي لانها حفزته الى الانخراط , في المسرح.
ولاننسى كذلك عام (1959) حين قدم مسرحيته الاولى مؤلفا(زنزانة رقم 17)من اخراج محسن العزاوي , وانتاج (الشبيبة الديمقراطية) في الناصرية ويتذكر حميد الجمالي وحسين نعمة, كانت قريحته تجود بالشعر , مستثمرا(البوليفونية) لم يكتف (بالتعددية) الصوتية تحت وطأة تأثير الدراما والمسرح بل حاول ان (يشخص) المجرد , فتخيل الشعر في حلمه,رجلا مهيبا ,ياتي الشاعر وهو (ميت) ويحاوره :
(اجلسني قبالته)..و(قلت زورت روحي) و(قال لي :تعال معي)..
الخ..حين قبل في معهد الفنون الجميلة تعلم من كراسة بيداستاذه اسعد عبد الرزاق , وهو يلقن الحرفة وبعض الدروس عن ستانسلافسكي , ومثل مع استاذه في عام (1959)في مسرحية كتبها زميل دراسته (عزي الوهاب) وكان دوراً شريرا وسلبيا.
وتصلب عوده على يدي اساطين المسرح_ايضا_مثل جاسم العبودي ,وابراهيم جلال...العبودي الذي يجيد تحليل مركبات النص,وطبقات المعنى التي يوفرها اللفظ العربي الفصيح ويعرف كيفية صياغتها في عرض مسرحي رصين ومؤثر وانتقل وعيه مع ابراهيم جلال الى طور جديد في التعامل مع جماليات العرض وتقنياته الاكثر نضجا فمثل معه دور (ابو) في مسرحية (الطوفان) لعادل كاظم , بروحها واسلوبها البابلي الجديد ,بلغة خطاب محدثة , ناقشت اللعبة الجهنمية لطاغية مع شرائح اجتماعية مقهورة ,كان عزيز يرى في جلال مثل مايرى التابع الصوفي بمريده ,فتفتقت روحه للجمال المسرحي في عرض (مقامات ابي الورد)لعادل كاظم ,واخراج جلال ايضا, دخل الخشبة بسمة امير مغولي (ابن الصمصامة) يمشي بطريقة (الوزة) الواثقة من تصرفاتها الخرقاء! هذا الاسلوب الكاريكاتوري في الاداء , يختلف مثلا عن متطلبات جاسم العبودي منه في مسرحية (العادلون)لالبيركامو,وكذلك في عرض (حفلة سمر من اجل 5حزيران) لسعد الله ونوس,و(الاسوار) لخالد الشواف (لم يقدم دوره حزقيال بسبب سفر العبودي الى امريكا) تتميز تجربته مع محسن العزاوي ,فقد اخرج له كما ذكرنا اول مسرحية كتبها ومثل معه وجدي العاني ومجيد طخماخ وتالق مع العزاوي في تادية دور (الحارس) في مسرحية (نشيد الارض) لبدري حسون فريد, وعكس طرفا مما يعانيه الوافدون الى العاصمة من الريف ,وضياعهم بعيدا عن جذورهم الطبقية هناك.
وحقق ايضا حضورا في دور (صفي الدين الحلي) العالم الموسيقي والفقيه واللغوي الجليل في عرض(الغزاة), تاليف علي الشوك , واخراج العزاوي , دوره كان ثوريا مقاوما للغزاة كان هذا الاسلوب الاخراجي للعزاوي , جديدا على عزيز ,اذ تشكل الدينامية فحوى خطته الاخراجية,وتندفع مشاهده بطريقة واثبة متصاعدة بلعبة بصرية واضحة المعالم ومع قاسم محمد وجد اللذة والعمق والتحول , منذ ان اسند له دور (المعلم راقي) في عرض (سر الكنز) المقتبسة من (كنز الحمراء) فغير عزيز من طبيعة الاداء الصوتي والجسدي ليرسم دوره في فضاء العرض , ولم يكتف بالتجربة الادائية للدور, بل حاول التنظير للتجربة نقديا تحت عنوان (لاترسم عصفورا ناقصا) ونشرها في مجلة الاقلام , وهي ملاحظات انبثقت من خلال التمرين محاولا فيها تبيان دور الممثل في تطور العرض , وتغييرانسقته حذفا وتقديما او تاخيرا وصولا للاطر التجسيدية ,حظيت هذه المحاولة النقدية التجريبية باهتمام واسع من قبل الاوساط المسرحية والثقافية في العراق والعالم العربي مطلع الثمانينيات.
وحظي مع سامي عبد الحميد بفرصة ثمينة من العب الحر ,معه وجد حرية اعرض من سواه ,فعبد الحميد يعتمد اسلوبا خاصا في انشاء مشهده تبعا لمعطيات الاداء عند الممثل خلال التمارين , ولا يفرض الشخصيات على الممثلين قسرا.وهذا ماخبره في مسرحية (قرندل) تاليف طه سالم وقدمت عام(1971).
عزيز يرفض ازدواجية المواقف عند البشر ويردد دائما المثل الالماني :(لاتجلس بين كرسيين)هذه الثيمة حركت لديه قصيدة قديمة كتبها عن احد اصدقائه من المناضلين اليساريين , الذي بترت ساقه على اثر التعذيب (خالد الامين)وحولها الى نص درامى, يريد فيه توحد الانسان مع ذاته ,فالجارية تقول في المسرحية :لاتركب حصانين في وقت واحد , احدهما للامام ,والاخر للخلف , وهي تفحم سيدها بالايخلط العسل بما يشينه.
وتوفرت المسرحية على عوامل نجاحها نصا واخرجا ,ودعيت الى المغرب.
مع سعدون العبيدي مثل في مسرحية (I.p.c)و(زهرة الاقحوان)وهي مسرحية للاطفال لم يكن عزيز راغبا فيها, ولكنه تغير موقفه منها حينما وجد وقعها على الاطفال والعبيدي يمتاز بحسه التشكيلي , ودقته وصبره على انجاز تفاصيل العرض مهما استدقت, وكذلك اخرج العبيدي نصا لعزيز بعنوان (ابن ماجد)التي وفق في تقديمها فكريا وبصريا خطرت فكرة هذا النص , في البصرة فيما لمحت (عين) عزيز زورقا كتب عليه (ابن ماجد)!! فتداعت في وجدانه الصور والعبر ليرفض قتل الخبرة العربية من قبل الكولونيالية وليدين فاسكودي جاما ,القاتل , الذي قادته انانيته وديكتاتوريته للاستئثاربمنجزات ابن ماجد , عالم البحر , في ذلك الاوان.
ومع بدري حسون فريد مثل دور(سائس الخيل) الذي فضل العمى على رؤية حرائق بغداد في مسرحية (الحصار) لعادل كاظم وبرز دوره مع فتحي زين العابدين في (احلام العصافير)بموتيفات حكائية فولكلورية.
واشترك مع عزيز خيون في عرض (مسافر زاده الخيال)وهي معدة عن النص (العنبر رقم 6)لتشيخوف ,وبعد محطات عديده في التاليف مثل (رجال المسافات ,وشجرة العائلة , وليلة لخروج بشر حافيا,وابن ماجد,والباب العالي والجوهرة ,ورغيف على وجه الماء, وانطقي ياابنتي ,والرائحة, والعقد).
مازال عزيز حيا يرفرف عاليا في ذاكرتنا , يمد وصل تمثيله بين(وحيده) عرس الشامتة و(البيت الجديد) التي اخرجها عبد الوهاب الدايني ويقف حينها وهو في الهزيع الاخير مزهوا راقصا بمنجزاته في عرض (الشاعر والكلاب)المستنبط من ديوانه الوحيد(صحبة ليل طويل)من اخراج الشاب(سرمد علاء الدين).
تنازعت الراحل عزيز عبد الصاحب قوتان , قوة الكتابة والشعر , وقوة الحياة التي لم تقو على عكسها سوى مرآة المسرح المركزة.