عزيز عبد الصاحب... مواقف وذكريات

عزيز عبد الصاحب... مواقف وذكريات

عبد الخالق كيطان
صعب علي أن أكتب في رثاء عزيز عبد الصاحب... مرت أيام بعد وفاته وأنا أتلفت حولي في هذه الغربة القاسية... كتبت في رأسي عشرات المقالات في الأيام الفائتة عن رحيله المفاجئ.. وفي كل مقال كانت يومياتي وإياه تفيض وتفيض.. هكذا أقررت في مستهل الكلام بصعوبة الكتابة عن هذا الرجل، الأب الكبير والصاحب الحنين...

ومن المؤكد هنا أن عزيزاً كان يدرك بقوة هذا السيل من الرثاءات التي ستنهال على روحه الطاهرة... فلقد كان صديق الجميع دون أن تبخس هذه الجملة صراحته في مواقف شتى..وكان الجميع، في الوسطين الثقافي والفني، يكبر فيه روحه العالية، ثقافته، وولعه بالمحبة.

أغرب، بل قل أجمل تلك اليوميات لحظة أصعدني على جسد الملك البابلي الوحيد في ما تبقى من آثار بابل... كانت ظهيرة قائظة جداً، وكنا مدعوين لحضور ندوة حول المسرح في العراق القديم أقامتها نقابة المسرحيين العراقيين في بابل أواسط التسعينيات، ندوة دعي لها العشرات من أهل الثقافة والمسرح وكان محل اقامتها في قاعة ندوات ملحقة بآثار بابل.. بعد بداية الندوة بفترة تهامست وأبي سعد، فقال لي لنخرج من هذه القاعة المغلقة إلى حيث الفضاء الواسع.. وخرجنا...
كانت المرة الأولى في حياتي التي أتفقد فيها تلك الآثار البابلية الرهيبة... وكان عزيز عبد الصاحب يقودني من يدي مثل أب وولد، ومثل دليل وسائح، أخذني أولاً إلى شارع الموكب، بل نزلنا في الشارع الذي ذكر في أمهات كتب التاريخ.. ومرت أصابعنا على الجدران العتيقة... تشممنا روائح لا توصف تنبعث من تلك الأحجار، حتى إذا ما وصلنا الأسد البابلي نظرت إليه مذعوراً... يا إلهي.. ما هذا؟؟؟ قال عبد الصاحب : هذا جدك الأسد!!!،... أطلت النظر إلى الأسد الذي ركب جسداً آدمياً فشعرت بعزيز وهو يحثني على ملامسته، والصعود إليه فلقد كان أعلى من المستوى الذي كنا نقف عليه.. ودفعني بعدها دفعاً للصعود إلى ظهر الأسد... آه... أنه أسد بابل!!!.
المكان كان موحشاً في تلك الظهيرة القائظة، وكنت وشيخي في رحلة العودة إلى الجذور الجميلة.
****
بعد سنوات على تلك الحادثة كان علي أن أضع رأسي في أحضان عزيز عبد الصاحب مؤمناً بقدرته الأبوية، الصوفية، على إبعاد وجع الرأس الذي كاد يفتك بي وبليلتنا الجميلة في عمان.. حدث أن وصل عبد الصاحب إلى عمان حيث أقيم، وكان خروجه من العراق نادراً لأسباب لا مجال لذكرها الآن ولكنها معروفة لأهل الحرفة.. اهتبلت الفرصة وجهزت ما يلزم لسهرة في منزلي الذي كان على أحد السطوح في العاصمة الأردنية.. لم أنس بالطبع أن أحضر معي سمكة كبيرة لشيها في آخر السهرة... ولكن وجع الرأس اللعين باغتني ولم تنفع معه علاجاتي التي أعرفها والتي أبتكرها للخلاص من ذلك الألم الهائل حتى قرر أبو سعد أن يأخذ رأسي بين يديه فيغني لي ساعة ويرتل قرآناً ساعة أخرى، وبين هذا وذاك استسلم الألم لصوته وذاب.. وأكملنا الليلة... لقد كنت، وما آزال مؤمناً به كشيخ طريقة فر من الزمان، هكذا تراه ببنطلون وقميص و(عليجته) التي ما فارقته ظهره (هل انتبهت لكون ظهره محنياً على الدوام؟؟؟)، ولأني كنت مؤمناً بذلك فلقد زال الصداع عن رأسي.. إنه رجل حكيم يداوي الناس بالقرآن الكريم، وببعض الشعر والغناء والكلم الطيب.
****
الأيام السبعة التي قضاها في عمان عندما جاء مشاركاً في مسرحية الفنان عزيز خيون(مسافر زاده الخيال) كانت تختلف عن أيام السنوات التي عشناها معاً في بغداد، وبابل وديالى وغيرها من المدن العراقية التي زرناها معاً للمشاركة في نشاط ثقافي أو مسرحي ما...
أيام عمان، إذن، كانت مختلفة: عزيز القادم من أحلك سنوات القمع والجوع والحصار في بغداد بوفد رسمي كان أحد أعضاؤه ضابط في المخابرات يراقب الصغيرة والكبيرة في تحركات الوفد الفني العراقي، وأنا الذي فررت قبلها بسنوات وعشت في العاصمة الأردنية قريباً من تنظيمات معروفة بمعارضتها لنظام الحكم الديكتاتوري في العراق... كنا نتابع عروض المهرجان، وجلساته الحوارية، وفي الوقت ذاته نفر بين أونة وأخرى لوسط البلد، ونتجول على المكتبات والشوارع ونتحسر معاً على بغداد. وأحسب أن أنضج ما خرجنا فيه تلك الأيام كان حواراً صحفياً طويلاً نشر حينها في جريدة الزمان اللندنية، حوار لا أعتقد أن مساحته الكبيرة في الجريدة كانت وحدها مثار فرحنا المشترك، بل ما تضمنه من كلام جديد وجميل...

كان عزيز عبد الصاحب قد عاش في بغداد عيشة ضنكة، ولقد كتب لي عن ذلك في إحدى رسائله الورقية، ذاكراً فيها تسمية لا تخلو من فطنة، وسخرية بالطبع، حيث أسمى نفسه: السيد بشّة!!!، وعلى الفور كتبت مقالاً نشرته في الزمان أيضاً عن السيد بشّة العراقي أثار الكثير من ردود افعل على ما أذكر....
*****
ليس في نيتي أن أسرد وقائع يومياتي مع عبد الصاحب، فهي أكثر من أن تعد... ولكن ما سردته في السطور السابقة لم يكن يغادر ذاكرتي في كل الأوقات...
كان لعزيز عبد الصاحب طقوسه اليومية التي عرفتها جيداً، طقوس تبدأ مع وصوله إلى دائرة السينما والمسرح حيث اعتدنا أن نلتقي بشكل شبه يومي، أو منتدى المسرح، أو في زياراته المتتالية للشاعر الراحل قيس لفتة مراد، والذي كان يقيم في غرفة بالبتاويين قريبة من مقهى بسيط كان عرابه هو علي حسين، وكنت أرتاده رفقة: عبد الخالق المختار، حكيم جاسم، ناصر طه، هيثم عبد الرزاق، فلاح ابراهيم، رائد محسن، خالد علي، كريم محسن، حيدر منعثر، كاظم النصار وآخرون... كانت تلك الزيارات تمثل مناسبة في فهم الوفاء والحب الصادق الصافي... كان عبد الصاحب بعد أن يكمل زيارته، شبه اليومية، لقيس لفتة يعرج على المقهى فيشرب شاياً أو يدعوه علي لتناول الرز مع الفاصولياء في مطعم مجاور، هكذا يقضي معنا ساعات حتى قبيل غروب الشمس ليلحق بعدها بالباص الذي يوصله إلى بيته.. ولقد كان حينها كثير الحديث عن قيس لفتة مراد وعزلته التي أبعدته عن هدايا الشيطان التي كانت سائدة أنذاك، وعندما رحل الشاعر بكاه صاحبه بحرقة، ذلك الصاحب الذي كان بعيداً هو الآخر عن تلك الهدايا الملعونة، بعداً أهله ليحتل مكاناً بارزاً في قلوب محبيه وفي ذاكرة الثقافة العراقية...
ومن مشاهد تلك الأيام يبرز مشهد يوم الجمعة، اليوم الذي يجتمع فيه المثقفون والكتبيون العراقيون في شارع المتنبي الشهيد، ثم العروج على مقهى حسن عجمي لشرب استكانة شاي في ظهيرة بغدادية عصية على الوصف..
والندوات التي حضرناها معاً؟ والعروض المسرحية التي تهامسنا حولها أو تصارخنا؟ والنزاعات؟ والشتائم التي تعرضنا لها؟ ولجنة نقاد المسرح؟ والصحافة؟ قصائده اليتيمة التي نشرتها في جريدة الاعلام الأسبوعية عندما حررت صفحتها الثقافية لمدة أسبوعين فقط؟؟ مسرح الرشيد، والوطني؟ جريدة ألوان؟ دائرة السينما والمسرح؟ ألخ ألخ...
****
وعزيز عبد الصاحب كان يحب أن ينادى شاعراً، ولقد كان يفخر بأن كتاباً عن جيل الستينيات ذكره باعتباره أحد شعراء ذلك العقد.. وبالرغم من عشقه للشعر إلا أنه كان مقلاً.. ولم يعمل على تكريس شعريته في الوسط الاعلامي والثقافي العراقي مثلما فعل مع نشاطه المسرحي: ممثلاً ومؤلفاً وناقداً.. ولقد تعرفت إليه من باب المسرح لا من باب الشعر على سبيل المثال. له في المسرح العديد من النصوص التي قدمت من على خشبات مسارح العاصمة، وله مشاركات لا تحصى في التمثيل وأخرى في النقد والصحافة الفنية.. وبالطبع فلقد ذاعت اهتماماته الصوفية مما يمنحك فرصة لرسم شخصية عراقي قادم من أرض أور أول الحضارات إلى مدينة العلم بغداد، شخصية عراقية جمعت في ثناياها تنوع المعرفة وسماحتها أيضاً، فهو لم يكن مثقفاً صارماً متجهماً، ولم يكن ساهماً سابحاً في ملكوت الخيال، بل كان خلطة من رقة وصفاء وزهو وألم وحب... وجنون.
لا جرم بعد ذالك أن يظل بعيداً عن النجومية التي حظي بها (الشعارون)، الذين يتكاثرون كالطحلب في المشهد الثقافي والفني العراقي.
****
ويا عزيز عبد الصاحب... أيها الصادق مثل دمعة، النقي مثل قلب أب والحنين مثل شجرة.. كنت أمني نفسي بعودة للبلاد الحريق.. وها أنت تفاجئني بغيابك فأنتحب وحيداً هنا.. كم كنت أتمنى أن أكون معك في هذه السنوات التي كنا نتمناها حرة بلا موت ولا دمار؟ ها أنت تغادر وحيداً، لقد تركت وراءك حتى حقيبتك العتيقة التي ما فارقتك يوماً، ولقد كنت أشطرنا في فهم هذه الحقيقة، كيف لا وأنت المعلم؟

سلام عليك..
على تربة توسدتها
وعلى الملائكة التي تلقفتك.