عزيز عبد الصاحب و «صحبة ليل طويل»

عزيز عبد الصاحب و «صحبة ليل طويل»

ناهض الخياط
صدرت في بغداد (2013) المجموعة الشعرية ”صحبة ليل طويل” للشاعر عزيز عبد الصاحب، التي تكفّل نجله الفنان المسرحي سعد عزيز عبد الصاحب بإصدارها.

وقد تصدرت المجموعة مقدمة الناقد علي حسن فواز الذي أحاط بفحوى نصوصها المشع من مكامنها، واختزاله بعنوان المقدمة”الشاعر الذي رأى»، ليلوّح بَعدها بخصائص شعريته:”النص يتحول تحت هذه السكنى إلى نص شخصي، نص استيهامي،

يكتظ بحوار عميق بين المعنى\ الفكرة، والصوت\ النداء الداخلي، إذ يسوح الشاعر إلى ما ورائهما بحثا عن معان غائبة، أو رؤى أكثر تماهيا مع لذة الشاعر وهو يبادل وجوده الفيزيقي باللغة \ اللغة الوجود، واللغة الحلول».

وهكذا صحب الشاعر ليله الطويل بخمسين نصا متقابلة بإيقاع بنى النثر والتفعيلة والعمود، تتفاوت بامتداداتها لتصل في أقصرها إلى سطر واحد، وتأخذ أحيانا بنية المقطع القصير كقصيدته (نهار):
أرأيت
نهار واجد أضرّ بك إلى هذا الحد فكيف إذا تخللتك النهارات
وحوصرتَ بهذه الوجوه الصفيقة
عد إلى زاويتك
إستترْ!
ومثل ذلك أيضا قصيدته”حب»:
- ما الذي تريده هذه المرأة؟
- إنها تحبك
- هل تلتقي بها؟
- كلا
- لماذا؟
- لأنني أحبها!
ويتضح لنا في هذه الحوارية الشعرية اقتران المسرح بالشعر في داخله. كما تجلى هذا الاقتران في قصيدته:”سياحة».
يستوحي الشاعر عزيز عبد الصاحب مضامينه من ثقافته المفتوحة بوعيها على التراث، وتجاربه الصادقة في علاقته مع الناس في الشارع، في عمله المدرسي والمسرحي، مع أصدقائه، أو خصومه، وأعدائه: رؤساء وعيونا وجلاوزة ومنتفعين، وقد عبّر الشاعر عن رفضه لهم، بما تتيح له بلاغة الشعر من سواتر الاختباء، وها هو في قصيدته”خلف السور”يناجي ِشقيقه”عدنان”الذي توفي على أثر تعذيبه وسجنه بعد انقلاب شباط الأسود عام 1963:
يا فارس المدينة الحبيب
شمسك لن تغيب ْ
منذ اختفت جبهتك السمراء خلف السور
تلوّث البلور
سدّ لصوص الليل في وجوهنا العبور
لقد ظهرت هذه المجموعة”صحبة ليل طويل”في 2.13، بعد سنوات من رحيله، لتعزز معرفتنا به، وعن قدراته في طليعة المبدعين الكبار: كاتبا وناقدا مسرحيا، ثم شاعرا، وحبه للشعر الذي شغف به, وتمنى لنفسه أن يكون شاعرا، فكان:
طرت من الفرح
شاعرا باعتراف”إليوت»
ولكن بالحلم!
قصيدته”أضغاث»
منذ الصغر، وأنا أطيل التحديق إلى السماء ما صرت فلكيا.. صرت شاعرا
قصيدته”القمر»
لقد وجد الفنان”عزيز عبد الصاحب”في هذا الاقتران بين عالميه: المسرح والشعر، ما يشغله
بقوة عن مدارات أحزانه، وما يعانيه من قلبه المرهف الطفولي في صحته ومرضه، وهو الذي يحمل بين حناياه حبه الكبير الذي أطلق جناحيه من قيود الانتماءات الضيقة بأشكالها المختلفة، ليجد فضاء حرا لأفكاره النقية الملتزمة بالدفاع عن حرية الإنسان وكرامته، فجلب له هذا الانتماء تهمة الاصطفاف مع اليسار، وقد تمثل ذلك في لمحات متوارية في بعض قصائده، ومنها قصيدته”بلادي»:
ويا قبضة رائعة
تصك جباه الطغاة
خذيني إليك خذيني
صباحا وحبا وقمحا
خذيني جرحا
إذا هبت العاصفة
ومن قصيدته”صلاة الأفق»:
أنا أحيا للدم الفوار في صدري لسير اللحظات
خسئت أحرفكم يا من تعبون كؤوس الزيف فوق الصفحات.
إن شعره الثوري يشكل خطابا عاما إزاء الضديد، كما تشكل قصائده المتمردة الأخرى خطابا مثاليا
مطلقا يحاكي به التأمل الصوفي لربه، للخلاص من مرضه، وما يضيق به صدره في خصوصياته، وتأملاته الوجودية الحائرة:.
يا بشرالحافي
هاك إنائي
ضع ملحا ًخبزا ًفيه ِ
ردّ عليّ ردائي
فأنا بردان!
قصيدته:
«أنا طفل لا يبكي”إلى خالد.
لقد لجأ الشاعر إلى الصوفي”بشر الحافي”لعله يجد في مناجاته متنفسا لروحه عبر ضباب ليله الطويل. وتثير هذه القصيدة تساؤلا عن العلاقة بين هذا الصوفي المعروف و المهدى إليه، وهو كما أعرف، صديقه الشاعر الشاب الوسيم”خالد الأمين”الذي استشهد تحت التعذيب على أيدي جلاوزة الجلاد”ناظم كزار»، أحد أركان النظام الفاشي الهمجي لآنقلاب شباط الأسود 1963.
والذي أراه أن الشاعر عزيز عبد الصاحب كان يؤمن أن جوهر العبادة الحقيقية تتمثل في الأيمان المطلق بالحب والخير والجمال، والتضحية التامة دون خوف، أو طمع وجزاء. وهكذا حدد لنا برؤاه الفكرية، في تجاورها، واختلاطها معا، مضامين شعريته ببنى قصيدة النثر، والتفعيلة، والعمود.
لقد ترك لنا الشاعر الراحل عزيز عبد الصاحب منجزا رحبا مؤثرا في الفن المسرحي: ممثلا
قديرا مميزا، وكاتبا مسرحيا شاملا، وشاعرا، يستحق بها أن ننحت اسمه في لوحة الخلود.