تجربتي الميدانية في النشاط المسرحي المدرسي 1961 – 1967

تجربتي الميدانية في النشاط المسرحي المدرسي 1961 – 1967

عزيز عبد الصاحب
- سبع سنوات أين قضيتها أيها الرجل؟
- سأروي لكم حكايتها.
كان ذلك في عام 1961 م.. لا ادري ما الذي كان يدور برأس مدير المعارف أنذاك السيد (عبد المحسن توحله) حين رفض تعييني في مدينة الناصرية وارتأى تعييني بقضاء الشطرة التابع للواء المنتفك، وعين الفنان (حسين الهلالي) في الناصرية بدلا مني وهو أبن مدينة الشطرة وقد كان فناناً تشكيلياً تخرج معي بنفس السنة التي تخرجت فيها في معهد الفنون الجميلة..

اعترضت على السيد المدير وقلت له :
- يا استاذ توحله.. إن أهلي هنا في الناصرية.. وهم بحاجة إلي..
ثم ان الشطرة لا يوجد فيها مسرحا.
أجاب السيد توحله بحزم :
- إذهب اليها واعمل مسرحا.

أخذت أمر تعييني بيدي – والامر لله – وتوجهت الى الشطرة التي تبعد عن الناصرية ب 42 كيلو متر لأسجل مباشرتي في ثانويتها الغافية على نهر الغراف الصغير، فوجدت فيها مديرا يدعى مهدي الياسري.. ذا صوت ناعم.. مرتفع.. فرح بي أول الأمر ظانا أنني أحد المدرسين في اختصاص الفيزياء أو الكيمياء.. ولكنني قلت له :
- إنني سأعمل مسرحا هنا.
قال مداريا خيبته :
- مرحبا بك.. تعال معي.. نحن بحاجة إليك لتحريك ماء المدينة الساكن.
قادني إلى قاعة مستطيلة ذات بناء متين ونوافذ كثيرة مرتفعة.. تكون عادة مكانا للامتحانات الطلابية العامة، لكنها خالية من أثر للمسرح، وقد بناها كولبنكيان.
ثم تعرفت على المدرسيين الذين رحبوا بي ودعوني لتناول طعام الغداء في بيتهم الصغير المجاور للمدرسة فهم عزاب ومن مدن متفرقة، واقترحوا علي ان أعيش معهم في نفس البيت إذ لا يمكن الذهاب والإياب إلى الناصرية بسبب رداءة الطريق وتعب السفر و ارهاقه.. ووافقت توا أن اعيش واتقاسم تكاليف الإقامة معهم.. إنهم شباب مرحون.. مثقفون حقيقيون.. من بينهم شاعر رائع.. مغمور.. هو
(ناهض فليح الخياط) لم ينقطع عن الشعر ليومنا هذا، وهو اليوم يعيش بمدينة الحلة.
تعرفت فيمن تعرفت عليه رساما ونجارا بارعا يدعى الاستاذ (ماجد النجار).. يحب المسرح هو الاخر فأقترح علي أن يقتسم معي حصته المقررة لشراء مواد الرسم للمدرسة كرما منه ولطفا، إذ لا تخصيصات مالية للمسرح من وزارة المعارف أنذاك، وشرعنا بالعمل فورا.. أمسكنا بشريط القياس”الفيتة”حددنا به قياس فتحة المسرح وعمقه.. ثم ذهبنا للسوق سوية فاشترينا الخشب وألوان البوية والجنفاص والحبال.. وذهبت لبغداد فاشتريت القطيفة الحمراء القانية لتكون ستارة مسرحنا الجديد.. وكذلك البكرات و”الشكلات”التي تربط بها حبال ألستاره.
اما الإضاءة فأحضرت لها صفائح الزيت الفارغة وطرقناها عند (التنكجي) ثم ربطنا فيها المصابيح واقمناها عامودية على جانبي المسرح.. إضاءة فيضية متواضعة يكون فيها وجه الممثل واضحا..
اما ارضية المسرح فكانت من رحلات خشبية قديمة مما يجلس عليه الطلبة وقد غلفناها بطبقات عريضة من الخشب فكانت ارضية ثابتة.. متينة.. كان الخشب رخيصا ومتوفرا أنذاك.
ها هو البيت جاهز فمتى يؤمه العرسان؟ وتساءلت مع نفسي : ما الذي سأقدمه من على هذه الخشبة؟ فالكل ينتظر..
هل سأتورط بمسرحية من الادب العالمي في مدينة زراعية لم تعرف المسرح؟.. مستحيل لابد من مخاطبة الناس بلغتهم فما الذي سأختار؟ إنها حيرة فعلا..
اين هي المسرحية الواقعية المهذبة التي تحكي هموم هؤلاء الناس وافراحهم؟
دارت في ذهني هذه الاسئلة.. نعم.. مسرحية شعبية ذات لهجة محلية.. اين سأجد ذلك؟.. واخيرا حسم الامر الفنان (يوسف العاني).. اذ اخترت مسرحيتين من مسرحياته الشعبية هما :”فلوس الدوه”ومسرحية”ست دراهم”وقررت أن اقدم المسرحيتين في حفل واحد.. الاولى ستكون بمثابة الفصل الاول ثم استراحة لمدة ربع ساعة يليها مسرحية”ست دراهم”تكون بمثابة فصلا ثانيا وهي ذات طابع كوميدي اختم بها حفلنا المسرحي.
استنسخت المسرحيتين على ورق الكاربون ودخلت الصفوف اختار الممثلين فقررت ان تكون”فلوس الدوه”ذات الطابع العمالي الواقعي المأساوي من حصة الطلبة.. وأكون معهم ممثلا دور الاب.
اما المسرحية الاخرى فكانت من حصة المدرسين الذين انبروا للتمثيل.. ولما كانت المسرحيتان واقعيتان فلم تتعبنا تكاليف الملابس والازياء.. إذ جمعناها من بيوت الطلبة والمدرسين.. وكذلك الاثاث المسرحي فقد نقلوه من بيوتهم ايضا.. اما المنظر فكان من تنفيذ الفنان (ماجد النجار)، وتمتاز المسرحيتان بالروح النقدية اللاذعة، ففي مسرحية فلوس الدوة يكون الطبيب شخصا طيبا يأتي الى بيت المريض وحين يجده فقيرا لايأخذ منه أجرا، اما في مسرحية ست دراهم فالطبيب.. جشع ومتعال.. وهو في عيادته
وبدأ التمرين عصرا بعد الدوام الرسمي ولمدة ساعتين في اليوم.
وحين نضج العمل.. حددنا موعد ا لعرضه.. وذهبت لأطبع تذاكر الحفل ومنهاج ممثليه.. وقررت ان تكون الحفلة مختلطة.. عائلية.. النساء في جانب والرجال في الجانب الاخر وهي أول تجربة مختلطة للرجال والنساء تشهدها المدينة.
وجاءت نسوة المدينة اللواتي لم تكتفي الواحدة منهن بارتداء عباءتين انما وضعن”البوشيات”على وجوههن ودخلن القاعة.. كتلا سود.. صماء ولما استقر بهن الجلوس على الكراسي والتخوت التي جمعناها من مقاهي المدينة ورفعن البوشيات.. أطلت وجوههن البيضاء كالأقمار.. فأي سحر غريب مثير.. لهذا الحجاب.. وأي جمال جذاب تمتلكه نسوة المدينة.
واستعملنا الدقات التقليدية الثلاثة قبل فتح الستار.. وبدأ العرض.. ساد القاعة جو من الصمت والهدوء والانسجام.. وحين انتهت المسرحية بموت الابن عند وصول الدواء في اللحظة الأخيرة ضجت القاعة بالتصفيق.. وبكت النسوة المشاهدات ومكث الجمهور في القاعة لم يتحرك.. فالي أين سيخرج؟ ولما انتهت المسرحية الأولى وأسدل الستار استبدلنا المنظر بغرفة انتظار عند الطبيب وبدأ العرض المسرحي الأخر.. وبدأت شخصية”علوان ابو القلاي”تصول وتجول في المسرح ومثله أنذاك معلم الرياضيات”خالد عبد القادر النجار”وضجت القاعة بالضحك واسدل الستار.. اما النسوة المشاهدات فأعدن وضع البوشيات على وجوههن من جديد.. وخرج الجميع.. الا الممثلون ومخرجهم ليناقشوا ماقدموه.
أستمر العرض لمدة ثلاثة ايام بعدها وزعت الجوائز على العاملين.. كتب مسرحية.. وقصص.. قمصان واحذية لمن ساهم في التمثيل من الطلبة والمدرسيين.. اما وارد المسرحية فلا ادري اين ذهب به ذلك المدير الناعم الصوت ذو العينين الماكرتين.
من المؤسف ان هذا العمل المسرحي لم يوثق بصورة فوتوغرافية.. فمضى أدراج الرياح لكنه بقي في وجدان الناس الذين شاهدوه كأول تجربة مسرحية منظمة تطرق ابواب مدينتهم.. وبقيت المسرحيتان في ذاكرة المدينة ليومنا هذا.
***
ما العمل الاخر الذي ساقدمه، انا لم اعتد الكسل والتسكع.. ان المسرح حياتي.. حريتي فأن لم استطع ان اقول كل شيء في العرض.. انني استطع ان اقول كل شيء في التمارين.. نعم.. ففي التمارين اكون في حضرة من احب من تلاميذي واصدقائي في التمارين اجد حريتي.. اتحدث على هواي.. معهم اتخلص من خوفي وقلقي.. وظلاماتي..
وبدأت ملامح وعي مسرحي جديد وطريقة في التمارين والتحليل لم يألفها الشباب من قبل.. تعرفت في تلك الفترة على طلبة نابهين من بينهم ضياء خضير الذي يهتم بالادب والرواية بالرغم من فرعه العلمي وكذلك الطالب عدنان شلاش وكان في الصف الثاني متوسط.. طالبا نابها مولعا بالمسرح فعمل معي في”فلوس الدوه”وقد مثل ولدي المريض الذي يموت عند نهاية العرض.
لابد من العمل لابد من جولة اخرى.. لان السكون هو الموت.. وفكرت لابد من مسرحية في الفصحى هذه المرة.
كانت حرب الجزائر مشتعلة أنذاك ضد المستوطنين الفرنسيين فأخترت عملا مسرحيا يخلد ثورتهم هو مسرحية”المقاتلون”لجيان.. وهو اديب كردي يكتب بالعربية.. مسرحية عميقة، فيها شهادة شعرية مؤثرة لشاعر فرنسي مجد الثورة الجزائرية.. لم يحضرني اسمه.. انما اتذكر بيتا من ابياته.. يحيي فيه المقاتلين الجزائريين.. قائلا :”انشد للاحياء الذين يحلمون وهم واقفون”.
واضح انني اخترت”المقاتلون”إنتصارا لثورة الجزائر أولا.. ولان المسرحية العنصر النسائي فيها هامشيا.
ثانيا فانا في مدينة صغيرة ترفض اعرافها الاجتماعية ان تظهر فيها أمرأة على المسرح.. انها محنة تعاني منها مدن المحافظات الى الان ربما الزمن كفيل بانهائها..
وفي رأيي ان المعول في حل هذه الازمة يقع على عاتق خريجات كلية الفنون الجميلة اللواتي جئن من المحافظات.. عليهن ان يراجعن انفسهن ويبادرن لممارسة فن التمثيل اسوة بزملائهن.. والا فستبقى الازمة قائمة بسبب الثقة المزعزعة بين العاملين المسرحيين انفسهم.
وحين بدأت التدريب على مسرحية ”المقاتلون” وقطعت شوطا كبيرا.. فوجئت بأمر نقلي من الشطرة الى الناصرية مشرفا للتمثيل لأحل محل الفنان محسن العزاوي الذي غادر الناصرية الى براغ لدراسة المسرح..، اما المقاتلون فقد عرضت دون ان احضر افتتاحها.
في الناصرية لاادري بأي عمل مسرحي بدأت.. ربما بأوبريت الربيع الذي وضع الحانه الفنان طالب القره غولي.. وقدم في كازينو المتنزه في الهواء الطلق حيث افتتحه متصرف لواء الناصرية أنذاك السيد معروف غريب والاستاذ شاكر الغرباوي رئيس البلدية.
إن القراءات الادبية المتنوعة في الشعر والمسرح والرواية والتصوف وعلم النفس تسير سوية مع العمل في المسرح.. لان العمل المسرحي من دون ثقافة متنوعة ومركزة يكون عملا سطحيا بلا مضامين ولا محتوى ولا هدف.
لذلك كان الكتاب ملازما لنا في حلنا وترحالنا.. في المقهى وفي المدرسة وفي المسرح.. وكانت مقهى أبو احمد ومقهى التجار ومقهى العروبة ملتقى للادباء والشعراء والفنانين.. وكانت تدور على طاولاتها أروع المناقشات الادبية والفكرية من دون تعصب او حماقات.. وفي حلقاتها يبدأ التخطيط واختيار النصوص.. لم لا.. انها فترة الستينات او قل هو جيل الستينات المبدع حين كانت تأتي المسرحية من القاهرة مكتوب عليها سعرها بثلاثة قروش أي ثلاثين فلسا..
فترة الشعر والمناقشات الفلسفية المحتدمة التي لاتنتهي، وهي موجة اجتاحت العالم اجمع وامتدت الى الوطن العربي.. موجة كانت فيها المقهى مركزا للثقافة والتمرد ففي مقهى التجار يجلس الشاعر قيس لفتة مراد متأبطا مخطوطته أكازو المسرحية التي اقتبسها من التراث البابلي.. قصة حب عاشها شاعر بابلي يتمرد فيها على الملك لان الملك يسلب منه حبيبته..فيأمر باغتياله.. وقبل موته ينطق بهذه الكلمات محرضا الناس :
- اعلموا يا ابناء بابل، أن هذا العالم قام على دعامتين :
الحب والموت.
فان لم تجدوا الحب يوما فتذكروا الموت
واعلموا ان كل رجل منكم هو أكازو.. أكازو.
ولأني أعشق فن التمثيل أكثر من الاخراج، كنت أشترك في تمثيل أغلب المسرحيات التي اخرجتها فها أنذا أمثل شخصية”أكازو”في المسرحية المذكورة، ومعي طلبتي أنذاك : فاضل خليل، وحميد الجمالي، وعبد المطلب السنيد، وحميد كاظم، وبهجت الجبوري، وحسين نعمة والمرحوم عبد الله حسن مصمم الاضاءة البارع والمرحوم حميد البنا، والمرحوم أخي عادل عبد الصاحب ويقظان ابراهيم وفؤاد جهاد وكاظم الركابي وأخرون كثيرون كانوا طلابا يتحركون كالشياطين يقدسون المسرح ويلتهمون المعرفة التهاما وعلى رأسهم المعلم الفنان ذي التاريخ المسرحي الطويل عبد الرزاق عبد سكر والممثل الكوميدي الرائع اسماعيل العضاض ومعنا المعلمة الفاضلة ساجدة حسن بلال التي اشتركت في اغلب اعمالي المسرحية والسيدة سلمى داود حين كانت طالبة في المتوسطة والاعدادية كانت تصعد المسرح وتمثل معنا وما إن تخرجت من كلية الفنون الجميلة – قسم المسرح وتزوجت الفنان بهجت الجبوري انقطعت عن التمثيل، ومن الاسماء اللامعة التي واصلت فن التمثيل الفنانة فوزية حسن التي عملت في أغلب اعمال المرحوم الفنان والكاتب المسرحي المبدع مهدي السماوي.. هذه الاسماء التي صحبتني في أغلب الاعمال التي قدمتها..
ولأن الذاكرة مزدحمة بالاحداث فلا ادري بم سأبدأ عن تجربتي في الناصرية فهل سأبدأ بالمسرحيات من حيث تسلسلها الزمني؟ ربما تفوتني دقة تواريخ تقديمها.. فيا للذاكرة المتعبة التي لاتستطيع ان تحفظ تواريخا قريبة.. فماذا فعلوا بنا حتى أتعبوا الذاكرة الى هذا الحد؟.. اذا سأتحدث عن الاعمال من غير تسلسلها الزمني و لأواصل الحديث عن مسرحية”أكازو”فلم اخترتها.. مثلا؟ وماذا يعني اختيار المخرج للمسرحية التي يخرجها؟
بصراحة أنا منحاز الى النص العراقي في الفصحى أو اللغة المحكية لأنني على يقين من أن المسرح عندنا لاتقوم له قائمة ما لم يتم الاهتمام والتشجيع والترويج للمسرحية المحلية سواء في الفصحى او العامية وينهض عندها المؤلف.
وإن عدمنا المسرحية المحلية الجيدة ولجأنا للأخذ من تراث المسرح العالمي، علينا ان لا نترك النص العالمي كما هو.. ينبغي ان نتدخل به فنوظبه لواقعنا وحياتنا.
وخلاصة القول.. علينا ان نجتهد عند الاقتباس من المسرح العالمي، لان المسرح العالمي له جدله الخاص به الاتي من زمانه ومكانه ولايمكن أخذه بكل مفرداته..
ومن هذا الفهم كان حماسنا كبيرا بمسرحية أكازو.. ومن حسن الحظ ان قيس لفتة مراد مازال حيا بين ظهرانينا، فاقترحنا عليه ان يمثل معنا في مسرحيته ففعل ذلك ومثل شخصية الملك البابلي.. أردنا بذلك احتواءه الى المسرح وكان لنا ما اردناه فقد كتب هذا الشاعر درامات عديدة وابريتا حاز اعجاب الناس بعنوان”جنات الوادي”وطبعت له اخيرا مسرحية”الضحك ممنوع في المدينة”عن دار الشؤون الثقافية.
جلسنا لقراءة النص وتحليله بعد طبعه على الالة الكاتبة.. حضر الجميع.. ممثلون ومصممون للاضاءة والمناظر والموسيقى.. تحدث المؤلف عن مسرحيته لم يترك شأنا من شؤونها إلا وتحدث عنه وطلبت من الفنان فخري رشيد الاهتمام بمناظر المسرحية وتماثيلها وأن تكون قريبة من معمار والوان وطرز الفن البابلي فاهتم الفنان بذلك وقدم تخطيطات على الورق مع ألوانه..
كانت دراسة النص دراسة أكاديمية متأنية.. وليست عشوائية.. هكذا نفذنا ما درسناه حين كنا طلبة نجباء في معهد الفنون الجميلة تلك البناية الشاخصة أنذاك أمام البلاط الملكي العامر.
وعلى ذكر معهد الفنون الجميلة حين كنا نعود الى محافظاتنا في العطلة الصيفية ونحن مازلنا طلبة صغارا أنذاك لم نترك المسرح، انما كنا نسعى لاقامة حفلات مسرحية.. ففي عام 1959 مثلا حين عدنا أنا ومحسن العزاوي لمدينتنا، كتبت مسرحية”زنزانة رقم 17”عن تاريخ النضال السياسي في العراق وساهمت بتمثيلها وقام محسن العزاوي باخراجها وكان في الصف الثاني قسم المسرح.. كان محسن العزاوي أسبق مني بسنة في معهد الفنون الجميلة.. كان مسكونا بالحيوية والايقاع الجميل.
لا راحة لنا في العطلة الصيفية بالرغم من الحر الشديد.. اللاهب.. كانت راحتنا في العمل المتواصل الحثيث، اما نص المسرحية فقد ضاع مني فلا أحد يوثق لنا في مدننا الصغيرة.. لقد ادركت اخيرا ان الفنان في البلدان المتخلفة ينبغي ان يوثق لنفسه كي لايضيع تراثه.
وبالمناسبة ان الفنان (وجدي العاني) مثل في مسرحية”زنزانة رقم 17”قبل التحاقه طالبا بمعهد الفنون الجميلة واتذكر أنه مثل شخصية معاون الشرطة الذي يقوم في التحقيق معي وتعذيبي.
وكنا نتواصل في التمارين حتى ساعة متأخرة من الليل.. نحضر الطعام والشاي.. الطعام الذي كانت تعده والدتي وينقله أخي عادل عبد الصاحب الى المسرح.. كنا نجلس في فترة الطعام.. عائلة واحدة.. نأخذ قسطا من الراحة نقضيه في الغناء والرقص وكان الفنان حسين نعمة سيد هذه الاستراحات بلا منازع..
أفتتحت”أكازو”برعاية السيد سلطان أمين متصرف لواء المنتفك أنذاك وكانت حديث المدينة.
ومن جملة ما قدمناه انذاك مسرحية”ثورة على الاقطاع”أنا اسميتها بهذا الاسم ولا أدري ما الذي أطلق عليها كاتبها الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد حين كان معاونا لعميد معهد الفنون الجميلة أنذاك.. حين أراد انتاجها ضمن نشاطات المعهد السنوية ووزعت علينا نسخها إلا اننا تخرجنا والغي انتاجها ولكننا احتفظنا بنسخها.. ودارت الايام دورتها فأذا الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد معتقلا سياسيا.. ولحيثيات الرقابة القاسية أنذاك قدمتها باسم عبد الوهاب محمد وهو اسم مستعار وطلبت من منتجي العرض سنة 1963 ألا تعرض المسرحية على جمهور المدينة.. وقلت لهم أريد جمهورا من الفلاحين.. لان المسرحية تحمل هموماً فلاحية بحتة، تخص الهجرة من الريف الى المدينة.. وضد الاقطاع أنذاك فكان لي ما اردت.. وجاءت السيارات محملة بالفلاحين من القرى والارياف.. ودخلوا المسرح.. لأول مرة في حياتهم.. وحين أذن مؤذن المدينة لصلاة المغرب.. نهض الفلاحون من جلستهم وفرشوا الارض بعباءاتهم بين الكراسي وخارج القاعة واقاموا الصلاة.. كنت سعيدا بهذا الجو الروحي.. وكنا ننتظر انقضاء الصلاة لنباشر فتح الستار فلا بد ان يعودوا مبكرين لقراهم البعيدة.
وحين أسدل الستار ضجت القاعة بالتصفيق وطالبنا الفلاحون ان نعرض لهم المسرحية في قراهم.. لان المسرحية كانت انعكاسا دقيقا لمفردات حياتهم وعلاقتهم بالارض...
والقصة مؤثرة فعلا.. فهي ميلودراما كثيرا ما حدثت في اريافنا وقرانا. وخلاصتها إن الفلاح ابو حمود يلاقي ضغوطا كبيرة من مالك الارض علوان فيأمره بالجلاء عن الارض ومغادرتها وان لايجتمع باصحابه من الفلاحين يرفض ابو حمود اوامرعلوان ولكثرة التهديد وقسوته يخاف الابن حمود فيقترح على ابيه ان يغادروا الى المدينة ليعمل هناك كناسا او عاملا في مقهى.. فيرفض ابو حمود الرحيل هو وعائلته التي تتكون من زوجته وابنته وولده – وهذا الحوار الذي أثبته هنا وقد علق بالذاكرة منذ ثلاثين عاما وبالحرف الواحد هو حوار مؤثر وهو دليل على بلاغة المؤلف الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد حيث يرد الاب على ولده قائلا :
- الكاع كاعنة ياابن الخايبة..
من ينغرز الفدان يوصله منها، اهيسة يغرز بضلوعي.
كلبي أطشه ويه الحب الاطشه بيها، اباريها مثل عين الرمده.
وتكلي كاع علوان منين جابها علوان؟ من ابو؟ من أمة؟
وفي نهاية المسرحية يستشهد الفلاح ابو حمود ويتفرق صحبه وتتمزق اسرته الصغيرة حيث يرحل الابن بامه واخته وهم يجهلون المصير.
لئن ظهر فاضل خليل صديقا لأكازو هو الان يمثل الاقطاعي علوان الذي يطارد الفلاح ابو حمود.
إن الادوار التي اسندها لطلابي تقوم على اساس التنوع كي لا ينساقوا لتمثيل شخصية واحدة.. ثابتة.. خشيتي من ان يكرروا انفسهم.. أذن.. لابد من التنوع لان الممثل في تعريفي له هو الماء.. اما الدور فهو الانية المستطرقة.. الماء الذي يأخذ شكل الاناء.. فيالمرونة الماء وطواعيته.. قال تعالى”وجعلنا من الماء كل شيء حي”فالتنوع أدوارك التي تمثلها ايها الممثل.
ولئن لعب اسماعيل العضاض شخصية السركال التابع للاقطاعي علوان هو اليوم يلعب سغاناريل في مسرحية موليير الطبيب على الرغم منه.
ومن المؤسف ان احدا منكم لم يشاهد هذه الموهبة الكبيرة في التمثيل. وانكم لم تتعرفوا حتى على اسمه اسماعيل العضاض الذي كان على رأس مسرح الجامعة في بغداد أنذاك بالعهد المباد.. هو اليوم مدرس متقاعد وقد أفتتح له دكان لبيع ادوات السيارات.. لأن الممثل حسب رأيه وظيفة بائسة لاتسمن ولاتغني من جوع.
وقد أخترنا بعد هذه المرة مسرحية لموليير”الطبيب على الرغم منه”لطرافة مواقفه ووضوح شخوصه. وللزيادة في التوسع والمعرفة كنا نقرأ ما يتوفر لدينا من ترجمة لهذا الكاتب العالمي للاحاطة بمسرحه وفنه، ولقد سبق لمسرح ثانوية الناصرية للبنين ان قدم لمولير مسرحية”البخيل”وقد لعب البخيل أنذاك الفنان كاظم المبارك والذي أختير فيما بعد لتمثيل فيلم من المسؤول.
عريقة هي العروض المسرحية في الناصرية، ففي الثلاثينات قدمت المدرسة المركزية مسرحية”مجنون ليلى”لشوقي حيث مثل عبد المجيد حسن شخصية قيس أما ليلى فمثلها محمد علي كريم الاحسائي، وكان شابا وسيما.
وكان من أهم الاحداث التي أثرت على سير الحركة المسرحية فيها هو زيادة بعض الفرق المسرحية العربية والبغدادية ففي عام 1935 قدم يوسف وهبي وبشارة واكيم وحقي الشبلي مسرحية”الرداء الابيض”وهي من تأليف يوسف بك وهبي ومثل فيها كل من جورج ابيض ويوسف وهبي وشاركهم في التمثيل من العراقيين حقي الشبلي، وشاهد أهالي الناصرية لأول مرة على خشبة المسرح وهي الفنانة فاطمة رشدي. وكان سعر التذكرة أنذاك عشرين فلسا وكان المبلغ وقتها مرتفعا جدا.
فلا غرابة حين يطالبني مثقفوا المدينة بتقديم عمل عالمي أخر، بعد ان تمتعوا بمشاهدة”الطبيب على رغم منه”لمولير فوقع أختياري هذه المرة على مسرحية
“فاوست”أو”مأساة الدكتور فوستس”للكاتب الانكليزي (كرستوفر مارلو) الذي عاصر شكسبير، وهو من فطناء الجامعة والذي قتل في حانة أثر شجار سخيف في ريعان الشباب.
كانت نسخ المسرحية متوفرة في السوق.. كل أتى بنسخته.. وبدأنا نقرأ.. كان ثمة شاب بيننا يمتلك صوتا قويا واعتدادا بالنفس هو عادل فليح الخياط أسندت له دور
“فاوست”وبالمقابل ثمة شاب أخر مماحك.. كثير المقالب هو المرحوم حميد البنا.. أعلن عن رغبته في ان يمثل الشيطان (مفستوفوليس) فوافقت على اختياره وبدأنا العمل.. أسندت دور البابا لأخي المرحوم (عادل عبد الصاحب).. أراد مارلو ان يسخر من البابا سخرية مرة بحيث أضحك الناس عليه وهذا ما فعلناه أما العنصر النسائي في المسرحية هذه فلم يكن مهماً سواء أبقيت عليه أم حذفته.. ساد التمرين جو من المناقشات الفكرية والنفسية والتحليل.. وعلى رأس المناقشين كان حميد البنا.. هذا الشاب الذي مر في المسرح العراقي ولم يشعر به أحد وكأنه لم يمر.. كان الجميع يعتبرونه شخصا مشاكسا لاشأن له بالمسرح فكان يعاني الاحباط أزاء هذا الاحساس فبدلا من ان ينتصر لنفسه كان يذهب لاقرب بار ليغرق في الشراب.. ولكثرة سكره.. خرج ذات صباح من بغداد ليذهب الى الناصرية.. فقضى الطريق على مراحل.. فوصل الى أحدى المدن الصغيرة التي على الطريق.. فوقف وسط الشارع العام فدهمته سيارة سريعة فأنهت حياته.. لم يرثه احد.. مر ولم يشعر به احد.. كان يكتب قصائد نثر لم يحتفظ بها أحد... رحم الله حميد البنا الذي لم يؤذ أحدا سوى نفسه..
لكنه لعب ”مفستوفوليس” في مسرحية ”فاوست” لمارلو بشكل لا نظير له ربما هو الدور المهم الاول والاخير في حياته القصيرة. واسدل الستار على فاوست.
لئن استقبل مثقفو المدينة ومسرحيوها الدكتور فاوستس استقبالا حسنا.. ألا انها لم تجد وقعا عند جمهور الناس البسطاء.. الحقيقة انا لايهمني جمهور النخبة كثيرا قدر اهتمامي بالجمهور الواسع العريض.. لقد حزنت لهذه القطيعة بين الفصحى وبين الناس..
وبدأت رحلة البحث من جديد عن النص المحلي في اللغة المحكية.. فوقع اختياري هذه المرة على مسرحية”المدمن”لتوفيق البصري.. عمل شعبي.. اخلاقي احبه الناس واقتنعوا به، فازدحمت صالة العرض حيث وجد الناس انفسهم فيما يجري من احداث وحوار وهموم فاغلبهم يشربون والحمد لله.
اما المكان فكان بارا من الدرجة العاشرة حيث يزدحم السكارى والمدمنين، مثل المدمن عبد الرزاق عبد سكر وبالمناسبة ان عبد الرزاق عبد سكر من المدمنين الذين لم يفارقوا الكأس ليومنا هذا ولم يهجروه، فأحسن الاداء أذ عكس تجربته الذاتية على العمل، ونفذ ما رسمه ستانسلافسكي من الاستعانة بذاكرة الانفعالات النفسية، وما دمت لا افرط بين الجمهورين، جمهور المثقفين وجمهور الناس الاعتياديين، من باعة وعمال وكسبة وفلاحين، فقد كنت أوازن بينهما في ما طرحته من مسرحيات، فمرة مسرحية شعبية غارقة في شعبيتها واخرى بالفصحى تكون حكايتها واضحة مؤثرة.
أخترت هذه المرة فصلا مسرحيا طويلا مما اعده الفنان الراحل حقي الشبلي لطلابه أنذاك وهو بعنوان”محمد رفعت”او”الواجب”ويسمونها ايضا”بزوغ
السلام”.. صراع بين أب جنرال تركي وبين ولده ضابط الجيش الذي هو تحت امرته، يأمره الوالد ان يمضي في تنفيذ أحدى العمليات الحربية، ولكن الابن يرفض ذلك القرار، كونه غير مدروس، وفيه ضرر كبير على الناس.
يستدعي الجنرال ولده الضابط الشاب ويأمره بتنفيذ الواجب الا ان الضابط يرفض الاستجابة للامر ويحتدم الصراع بينه وبين والده فيشهر الاب مسدسه ويطلق عليه الرصاص فيسقط الابن قتيلا مضرجا بدمه.. ينحني الجنرال على ولده باكيا.. ويسدل الستار.
كانت المسرحية فصلا مثيرا بالرغم من قصره، الا أنه كان فصلا عميق التأثير لدى المتلقي، فليس مهما ان تكون حكايتك طويلة او قصيرة انما المهم هو كيف تكون مؤثرا.. ومقبولا.
مثل شخصية الابن الضابط الفنان فخري رشيد ومثل شخصية الاب الاستاذ صلاح الجنابي وهو استاذ الجغرافيا.
في نهاية عام 1967 وحين كانت القضية الفلسطينية ملتهبة، وقد صكت اسماعنا كثرة الشعارات وضجيج المنظمات.. جاء لي الفنان كاظم ابراهيم وهو فنان تشكيلي وقال لي إقرأ هذه المسرحية انا كاتبها وهي عن فلسطين وهي بلا شعارات ولا ضجيج. قرأت المسرحية.. وفعلا أعجبتني.. كانت مسرحية بعنوان”اسياد الدم”وفيها تشخيص لموشي دايان وزير الحرب الاسرائيلي أنذاك، وتاريخ الجريمة في حياته.. اذ يطرح المؤلف جذور الشر داخل شخصيته.. وكيف بدأت السادية عند هذا الارهابي الصهيوني الدموي القادم من بولندا.. وكيف تراكمت الجريمة في ذاته حتى أصبحت أمرا عاديا يوميا وجزء من شخصيته.. وهو موضوع نفسي دقيق اذ يلتقي الشيطان بموشي دايان ويعقد صفقة معه ويكون فيها دايان مطية الشيطان.
هذا هو موضوع المسرحية وواضح هو تأثير مسرحية”فاوست”على المؤلف الناشيء كاظم ابراهيم، وبدأنا التمارين فأسندت دور موشي دايان للفنان بهجت الجبوري أما الشيطان فمثله كاظم ابراهيم، وقدمت المسرحية على ستائر سوداء ومدرج أعلى وسط المسرح ونجح العرض الذي كانت تسوده روح التأمل لا الشعارات.
في أغلب الاعمال التي قدمتها لم اهتم بالمناظر والاثاث كما يفعل الاخرون.. كنت أكتفي بالستائر والمتممات المسرحية الموحية.. فليس مهما ان تكون لنا خشبة مسرح مستوفية الشروط التقنية كافة.
الاهم من ذلك ان تكون عندنا مسرحية محكمة البناء وممثلون يستطيعون التعبير ومشاهد يشهد لك أو عليك. (المسرحية + الممثل + الجمهور) المعادلة الاساسية لهذه اللعبة فأنت تستطيع أن تقدم عملك المسرحي في مقهى أو فندق أو معمل أو حقل أو أي مكان يجتمع فيه الناس ويكون مناسبا.
السؤال هو، ما اللذي ستقدمه لجمهورك فيصغون اليك وتسحرهم بأدائك وحقيقتك، وقبل هذا كله أن المسرحيين العراقيين سيظلون ينحتون في الصخر ما لم توفر لهم اسباب انتشار مسرحهم.. وأولها ان يقر هذا الفن في المناهج المدرسية الاولى.. اسوة بالفنون التشكيلية.. فما وجدت مثل المسرح فنا يطلق السنة الناشئة من عقالها ويحرر انفسهم ويبعث في نفوسهم الشجاعة والقدرة على المواجهة والابداع.
فلا أدري لم لا يعتمد هذا الفن الاصيل في مدارس الدولة محالة منهجية تدريسية؟ ولا أدري لم لا تقبل خريجوا معهد الفنون الجميلة في كلية الفنون لمن يرغب ان يواصل دراسته الفنية.. في جميع فروعها ومن دون شروط؟ أسئلة لابد من الاجابة عليها.
ختاما.. كانت مسرحية”اسياد الدم”لكاظم ابراهيم اخر اعمالي التي ودعت فيها مدينة الناصرية والتحقت بالفرقة القومية للتمثيل في بغداد بدعوة من الفنان الكبير حقي الشبلي ولذلك حكاية أحب ان ارويها لكم :.
كنت انظف المكان قبل العرض بساعات.. بيدي مكنستي.. أكنس المسرح واذا بالفنان الراحل حقي الشبلي يفاجئني :
- ماذا تفعل ياعزيز.
قلت – أكنس المسرح.
صاح مستنكرا – اين المنظفين اذا.
اجبته بهدوء – ياسيدي الجليل أنا المخرج وأنا الممثل وأنا المنظف، مشرف التمثيل في هذه المدن يجب ان يفعل ذلك كله دون استنكاف.
أطرق الرجل وقال :
- تأتي معي الى بغداد، لقد أخترتك لتأسيس الفرقة القومية للتمثيل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.