عبد الملك نوري ومهنية القص

عبد الملك نوري ومهنية القص

جهاد مجيد
عثر القاص فؤاد التكرلي مصادفة وهو يعد مجموعة صديقه عبد الملك نوري ( ذيول الخريف ) بين أوراقه قصة لهذا الأخير لم تنشر من قبل بعنوان ( معاناة ) فأستأذنه التكرلي بنشرها فوافق .وعند قراءة القصة تتكشف لنا " معاناتان "

الأولى معاناة إبطالها والثانية معاناة كاتبها ، ويلمس التكرلي جانبا من هذه المعاناة فيقول ( إنها محاولة لرصد تطور عملية الخلق لدى الكاتب .. كيف تبدأ أو تتقدم ثم تتردد وتعاود التقدم حتى تكمل أو تبقى ناقصة ، وهي محاولة فذة لأنها تعبر بقوة عن القلق المأساوي الذي يسيطر" يسيطر دائما "على نفس عبد الملك وهو يعاني أزمة الكتابة القصصية ، ومن هنا الأهمية القصوى لهذا النص ) .
هذا تأشير جانب من المعاناة يتعلق بالبعد الداخلي لعملية الخلق ، أما الجانب الأخر الذي نسعى إلى تأكيده هنا فهو البعد الخارجي ، بعد يتعلق باجرائيات الكتابة ، بمهنيتها وتمكن الكاتب منها احترافا .
في البدء يستهل الكاتب القصة بمشهد البيت والأب والابن والخال ، اندفاعة الابن بلهفة نحو الأب ..الخ ثم نتلقف أجزاء المشهد السردي شيئا فشيئا ، وفجأة تعترضنا إنثيالات ذهنية الكاتب وتفكيره الحرفي في كتابة القصة ( هذه هي البداية ) هكذا أفضل أن تكون ، لان الأب في حالة ترقب مستمر، ثم يعود لإتمام مشهد الاستهلال ( ما هي إلا لحظة حتى تراكضت على ارض المجاز غمامة صغيرة بيضاء على قدمين صغيرتين واتجهت مسرعة نحوه ...
بابا ... بابا صاح الطفل ...الخ )
وهذه ( الخ ) من عند كاتب القصة وهي مرسومة بمختصرها الإملائي التداولي ( الخ ) ، إمعانا في تصوير لحظته الحرفية مع لحظته الإبداعية ويكررها ..كان البيت الذي دخل إليه الطفل .. الخ ثم التفكير المهني المحض يقطع سرد الأقصوصة ( الترتيب الزمني للقصة اخذ بالتكون الآن .. اظنها طريقة جيدة وطريفة هذه التي اتبعها أول مرة في كتابة الأقصوصة ، إنني أريدها أن تكون أقصوصة صغيرة جدا ، قد لا تتجاوز أربع أو خمس صحائف ، وأريد أن اكتبها في جلستين أو ثلاث ، كيما ابرهن لنفسي ولأصدقائي على إن هذه الطريقة في الكتابة مجدية وسريعة ) .
هنا تبدأ قصة أخرى ، قصة تصور مسعى كاتب يريد أن يقرر إجراءات عمله ، وحرفيته المهنية تأكيدا لسيطرته على عناصر العمل ومواده الخام ومراحل صيرورته ، تأكيدا لحرفية أستاذ في الكتابة ، بعيدا عن تشعبات وتشظيات امكانات المبتدئين أو الهواة ، قد تصلح هذه المحاولة لعبد الملك نوري لان تكون فصلا في كتاب ( كبار الكتاب كيف يكتبون ) للأستاذ كاظم سعد الدين الذي كشف لنا فيه عن طرائق مختلفة يزاولها الكتاب الكبار عند الكتابة ، نقول قد تصلح لو أن عبد الملك نوري أراد أن يمنحها وثائقية هذا الغرض ..ولكن ما يبعدها عن ذلك إنها محاولة ابداعية في كتابة قصة بطريقة كتابية من نوع خاص .. أو طريقة جديدة كما يقول كاتبها ، فتتمازج فيها أجزاء القصة الأولى مع أجزاء الحرفة القصصية ... أي مع القصة الثانية التي وضح ، هي الأخرى ، بطلها وغرضها ومسارها ... أحيانا ينفك هذا التمازج ، وتنفرد أجزاء القصة الأولى بالظهور ( نظر الأب متسائلا إلى الخال " بينما كانت القدمان الصغيرتان تصعدان الدرج في طبطبة سريعة " الخ .
. هذه ( الخ ) من عندي لا من القاص هذه المرة .. ثم تقطعها أفكار بطل القصة الثانية ، كاتب القصة الأولى ( لماذا أبالي الان بقواعد اللغة ! فأكتب خطرا جسيما ثم أمحوها وارفع الكلمتين ، لست أريد أن اعيق جريان تفكيري بشيء ، المهم هو أن أبقى واعيا تسلسل القصة وخطوطها الأساسية ، بعض الوعي ، واترك قلمي يسيل بما يريد ) تتبلور معاناة الكاتب وتطغى على المعاناة في القصة الأولى، فحين يدخن ينصرف تفكيره عن القصة ( لم أفكر في الأقصوصة بل فكرت في سبب تمردي على هذا النوع من الكتابة ، الواقع أني اعتدت طريقة أخرى ، مجهدة جدا ، طريقة الشطب وتمزيق مسودات كثيرة ، وإعادة الكتابة حتى تتكون نتيجة كل ذلك بضعة سطور كاملة لا تحتاج إلى تنقيح ) . هنا تتجلى رغبة الكاتب في التمكن من الحرفية ، والمهارة المهنية ، والوصول السريع والتلقائي في مزاولتهما ..
وهذه الرغبة ليست مطلبا غريبا ، بل مطلب سعى إليه آخرون كما يكشف لنا كتاب كاظم سعد الدين ( كبار الكتاب كيف يكتبون ) طرق كتابية متعددة هذه واحدة من بينها ، يقول اوكونور شارحا الحاجة إلى السرعة في إنجاز العمل ( ضع الأسود على الأبيض حسب نصيحة موبسان ، وهو ما أفعله دائما ، ولا يهمني نوع الكتابة ابدا ، أكتب أي شيء يملأ المخطط العام للقصة ثم ابدأ النظر في ذلك ) .
ويقول وليم شتيرن ( يبدو أني أحس بحاجة عصبية إلى إكمال كل فقرة وكل جملة وأنا سائر في عملي ) .
بينما تقول دوروثي باركر ( إن العمل يستغرق ستة أشهر لكتابة قصة واحدة ، أفكر بها أولا ثم أكتبها جملة جملة ، بلا مسودة أولى ، لا أستطيع أن أكتب خمس كلمات ، ولكن أبدل سبعا ) .
أما ترومان كابوت فيقول ( إني دائما امتلك اللعبة الخادعة ، إن اللعبة الكاملة للقصة ، ببدايتها ووسطها ونهايتها ، تحدث في فكري في وقت واحد أي أراها في ومضة واحدة ) .
ونعود إلى محاولة عبد الملك إيجاد طريقة كتابية جديدة ، كما يعود هو وببراعة وبتساؤل مشروع وذكي إلى مسرح القصة الأولى ( والان ماذا جد في القصة ؟ ) ثم يبدأ بمعالجة وتجهيز أجزائها ( اعتقد يجب أن يبدأ المطر كيما تكون هناك حجة لذهاب الخال بسرعة .. الخ ) وبذلك يداخل عناصر القصتين بعضها ببعض ، فالتفكير بتهيئة ومعالجة أجزاء القصة الأولى يجسد فعل البطل " الكاتب " بطل القصة الثانية ، ويكشف عن تواصله في مشهده الكتابي ... هنا تندمج القصتان مرة أخرى ، وتظلان في افتراق واندماج ، وتظل تتجلى رغبة الكاتب في أن يسيطر على موضوعة القصة الأولى ومسعاه في طريقته الكتابية الجديدة في القصة الثانية .. والتي تتدرج في التنامي القصصي كأية قصة .. هذا ما يترشح من سؤاله ( أن اعتياد طريقة جديدة ليس بالأمر السهل ) ويقترب من الاخفاق ، وهذا تدرج نحو النتيجة أو النهاية ( أنني أحس بالتعب الان ولا تكاد تمر كلمة واحدة أو صورة واحدة في رأسي ، أظن إنها العادة القديمة أيضا ) .
ولكن هل نجح عبد الملك في مسعاه ... الجواب نتلقاه منه ( إن الحلم الذي راودني لكتابة هذه الأقصوصة في جلسة أو جلستين قد تبخر اليوم ، ولم يترك سوى حسرة أليمة في صدري ، إنني تعس ، تعس جدا ، هذا الصباح ، وأفضل أن أنسى هذه الأقصوصة اللعينة وكل ما يتعلق بها )