ليف أولمن وإنغمار برغمان.. الشغف الشقي

ليف أولمن وإنغمار برغمان.. الشغف الشقي

ايمان حميدان
قد استطيع اختصار سبب وقوف الممثلة النروجية العالمية ليف أولمن (75 سنة) امام الكاميرا لتروي حياتها مع برغمان في فيلم وثائقي، بكلمة واحدة: انه الحب. الحب تجاه رجل عاشت معه حياة مليئة وغنية على مستويات عدة. لكن بعد 5 سنوات ترحل تاركة وراءها من احبت رغم بقاء رابط قوي بينهما ترك اثره على حياتيهما قبل وبعد الانفصال.

الفيلم يدخلنا الى تلك العلاقة بالذات علاقة شغف بين اثنين الممثلة ومن ثم المخرجة ليف أولمن والمخرج السويدي انغمار برغمان. وهو يقدم ببساطة وعمق أخاذين تلك العلاقة وسط تداخل حياة الاثنين الغنية بين اشكاليات الحب واضطرابات الشغف الذي رافق عملهما معا في افلام عدة قام برغمان باخراجها واعطى فيها ليف دور البطولة.
بحضور آسر وكلمات بسيطة وعميقة سردت أولمن قصة حياتها وعلاقتها مع برغمان الزوج والمخرج وذلك امام عدسة كاميرا الانكليزي من اصل هندي ديراج اكولكار،
Dheeraj Akolkar كاتب ومخرج فيلم «ليف وانغمار». لكن ان يقوم شخص معروف بسرد قصته امام الكاميرا هو ليس بأمر جديد، الا ان الجديد في هذا الفيلم محاولة ليف أولمن ان تغوص في ذاكرة مريرة ومؤلمة بروح متسامحة الى اقصى الحدود، وبحب لافت لم تضعفه تجربة معاناة شخصية بل صقلته. تعود الى فترة من حياتها الماضية التي قضتها مع انغمار برغمان مخرج افلامها وحبيبها، وتسرد نتفا من هنا وهناك، تلك التي عنت لها وتركت اثرا عميقا جدا في النفس. قد تكون قصصا موجعة أو حوادث صغيرة اقل ايلاما، او حتى لحظات حميمة شعرت معها ليف انها اسعد امرأة على الارض، لكن سردته بكرم انساني نادر. اضاف هذا الواقع المهم في كيفية التعامل مع الذاكرة ابعادا انسانية عميقة وذكية الى فيلم قد يبدو عاديا للمشاهد.
الفيلم الذي يبدو سردا بسيطا لعلاقة رجل وامرأة مر عليها اكثر من اربعة عقود، قد يثير لمن يهتم بموضوع الذاكرة جملة اسئلة عن كيفية التعامل مع ذاكرة العلاقات الحميمة المبتورة ولو بعد زمن. يثير سؤالا حول كيف تُروى ذاكرة علاقة مريرة؟ كيف نروي ذاكرتنا حول مسائل شخصية أو عامة حدثت في الماضي وأثرت علينا في الحاضر وعلى الناس الذين حولنا. عادت ليف الى حياتها بحب خاصة تلك الفترة المؤلمة التي عاشتها مع برغمان والتي اضطرتها الى الرحيل يوما دون ان تفهم لماذا، ودون ان يناقشا موضوع الرحيل. ليس سهلا ان ننظر الى الماضي المرير، وان نتوقف عن السماح له بإيلامنا، وان نرحل بعيدا. أن ننجح في ابقاء المرارة بعيدا عنا، وان نتذكر بعد زمن الماضي نفسه بحب وتسامح، هو مشروع بحد ذاته وهو الذي أعطى ما سردته أولمن في الفيلم قيمة ومعنى. انها النظرة الى تجربتنا والى الناس الذين تقاسمنا معهم حبا يوما ما، نظرة الى انفسنا والى العالم الذي حولنا. انها روح العدالة والتسامح التي طغت على حديث أولمن وخاصة حين تعود الى اللحظات المؤلمة من حياتها مع انغمار.
انها لا تحكي عن حياتها فحسب بل عن حياة اثنين تميزت تفاصيلها الغنية بالشغف والالم والفراق والانتاج الغزير الى حد ان بعض افلامهما قد تكون من اجمل ما اعطت الشاشة الذهبية في القرن العشرين. افلام لا تُنسى من برسونا الى صرخات وهمسات الى سوناتة الخريف الى العار. افلام عن اليأس، الموت، الوحدة، الخيانة، خيبة، الامل، اللاجدوى والجنون.
تحكي ليف أولمن قصتها مع انغمار برغمان ببساطة وشفافية وصدق. علاقة مضطربة شائكة صعبة تحاول تفسيرها بعد سنوات طويلة. شغف تحول الى وحشة واضطراب، توصل الى عنف صامت او كلامي ونفسي وشعور قاتل بالوحدة وعدم القدرة على الحلم.... اوصل ليف ان تترك البيت الذي بناه انغمار خصيصا لها على جزيرة صغيرة نائية في بحر البلطيق. تركت ليف المكان وراءها كما دخلته: بحقيبة... لكن زائد ابنة صغيرة هي لين أولمن، ثمرة حبهما.

اللقاء الاول
التقت أولمن بالمخرج الكبير ولم تتجاوز الخامسة والعشرين. لقاء شعرت معه انها غير قادرة على التنفس وانها تريد ان تبكي. كانت منبهرة بذلك الرجل الذي يكبرها بحوالي 20 سنة الا ان انبهارها قد تحول الى حب جارف عاشته بكل سعادة قبل ان تنتقل للعيش معه وقبل ان يتحول ذلك العيش ببطء صامت الى وحشة ووحدة وضيق وشعور ان حلمها في مكان آخر وانها ما هي الا تحقيق لحلمه هو. استطاع برغمان جمع اجزاء حلمه. حلم ببناء بيت على جزيرة فارو وهي جزيرة صغيرة على البحر البلطيقي. هناك صور ستة من افلامه التي لعبت ليف أولمن بطولتها... جمع المكان الذي اراد العيش فيه والمرأة التي اراد العيش معها. هذه احلامه. كانت هي جزءا من حلمه، لكن سرعان ما شعرت بالضيق في مكان لا يشكل جزءا من حلمها، ليس هذا فحسب، بل لا يتسع لحلمها ذلك ان وجود برغمان الطاغي التهم كل شيء! ذلك المكان الذي اختاره برغمان لحياتهما لم ترده ليف ولم تحبه بالطريقة نفسها. لم تحب معناه ولا معنى عزلته التي بدت بالنسبة لها سجنا وقيدا.
من اجل التذكر كان لا بد من العودة الى الجزيرة نفسها، حيث يستعاد الماضي بامكنته وروائحه والوانه. ارى ليف في سيارة تسير على شاطئ الجزيرة.... هناك تشير الى محل اقامتهما لمدة 5 سنوات هي وانغمار (1965 الى 1970). تاريخ يعود الى 5 عقود خلت، تعود ليف لتتذكر حياتها هنا في المكان العزلة حيث بنى برغمان بيتهما على جزيرة فارو في البحر البلطيقي وحيث عاشا 5 سنوات معا تصفها ليف أولمن انها تشبه الألم الذي اختارته. ليف بطلة برسونا وسوناتة الخريف وصراخ وهمسات ما زالت جميلة. امرأة جميلة تجاوزت السبعين تغطي وجهها وعنقها ويديها التجاعيد. عيناها تشعان بالبريق نفسه، بريق الحب والرغبة، الرغبة في الحرية والوحدة وفي ان تكون هي كل لحظة. عندها كثير من الذكريات على جزيرة فارو كذلك من الاصدقاء القاطنين في امكنة قريبة من الجزيرة. مثلت العديد من الافلام هناك كذلك أخرجت عددا مماثلا ايضا. زيارتها بهدف تصوير الفيلم الوثائقي ايقظ ذكرياتها ومشاعرها. التقت بانغمار هناك ايضا. ذلك اللقاء الذي غيّر كل حياتها.
صيفهما الاول في السويد بداية تعاونهما السينمائي في فيلم برسونا وكان الجو حارا جدا. لم يتكلما كثيرا. كانت تمشي حافية على الرمل. كانت علاقتهما في بدايتها. بدت سعيدة ذلك الصيف. هناك الشمس والرمل والقدمان العاريتان، هناك الرغبة ايضا. لم تشأ ان تسأل عن مستقبل العلاقة. قالت انها لم تعش صيفا مثل ذلك الصيف. كانت دائما تقرأ في اوقات الاستراحة بين فترات التصوير، وكان هو يهتم بكل شيء تقوم به. كان ينظر اليها دائما وهي تقرأ، وكانت تشعر بذلك. وعلمت انه يحبها. كانت تشعر ايضا بأنه غير طبيعي.
انه الشغف. كتب لها: انت في كل مكان. في الضوء، في باب الغرفة، على الكرسي. يؤلمني انك بعيدة. اريد الاتحاد بك، في انوثتك ونعومتك. بعد قراءة الرسالة أمام الكاميرا، علقت ليف «انغمار كان مثل الجحيم ورقيق الى حد الرومنطيقية في وقت واحد!». في البداية كانت حاجة كل واحد للآخر بمثابة جوع. صار كل شخص ضروريا للآخر. كل واحد رأى ثورة في الاخر. بدت العلاقة تحتوي كل شيء، من الشغف الى الجنس الى العمل الى الفن... الى انتماء كل واحد الى شريكه. ربما ذهبا بعيدا في ذلك. او ربما مهما حصل... سيتبدى بعد وقت وهم الانتماء.
كنا اطفالا... تقول، وكنت سعيدة لمدة طويلة وكان الاصدقاء حولنا. لكن عندما فهمت انه أصبحنا نحن فقط... وسنكون هو وانا معا وحدنا... خفت. «بالطبع هناك فرق بين ان نعيش شغف الحب وبين ان نرضخ لفكرة اننا سنعيش رأسا برأس معاً طيلة الحياة! خافت ليف وهربت الى النروج. لكنه لحق بها، زار اصدقاءها متوسطا ان تعود اليه. «من الضروري ان تكون ليف معي في حياتي» قال. اتوا معه الى شقتها، وقالوا لها «يجب ان تعودي معه. وعادت معه...».
تركت زوجها الاول كي تعيش مع برغمان. ارادت الامان والحماية والانتماء، اما هو فأراد أما... ذراع أم. لم تكن أما، ولم يكن قادرا على الحماية.
تقول ليف انها ما زالت تحتفظ برسائله. كتب لها في احداها: انت نجمتي الوحيدة!
ليف كانت ملهمة برغمان ونجمته الا انها لم تستطع تحمّل ان يكون هو «بيغماليونها»
كأن افلام برغمان انتقلت من الشاشة الى حياتهما معا.

العزلة
اجمل ما في الفيلم عودة ليف الى بيتهما المنعزل على الجزيرة حيث كانا يكتبان على الابواب والجدران قصة حبهما. بقي القليل من اثرهما زينته قلوب حمراء صغيرة كانت هي ايضا تزين رسائل انغمار لها. هذا البيت حولته ابنتهما، لين أولمن، الى مقر لاقامة الفنانين لمدة قصيرة يعملون أثناءها على فيلم او سيناريو او كتاب.
ولبناء البيت قصة. مرة ابتعدا في البحر واكتشفا مكانا في جزيرة، مكانا منعزلا وحيدا. حينها أمسك بيدها وقال: حلمت اننا متصلون بشكل مؤلم.
دخلا الى بيتهما الجديد. احد الاصدقاء جلب شمبانيا وهي كسرت القنينة احتفالا. مشيا على شاطئ البحر. بدت سعيدة تلك الليلة ولكن رغم ذلك أتتها فكرة غريبة مخيفة: هذا حلم وهي جزء من حلم الاخر، حلم شخص آخر.
تقول «تركت زوجي من اجل انغمار. حملت منه بابنتي قبل طلاقي. اصبح حلم السكن ثقيلا علي هنا. لم يشأ انغمار ان يزورني احد في بيتنا المنعزل. وفي السنة الثانية بنى جدارا حول البيت، وبدأ الوضع يبدو كأنه حلم، حلمه هو وليس حلمي أنا. لم يردني أن أذهب الى بلدي. عملنا فيلمين معا وكان نهار الاربعاء هو فرصتي. وكنت أخرج وألعب بالماء واشرب الويسكي. وكان هو يقف قرب السياج وينظر الى الساعة وينتظرني. هذا أصبح شيئا من السجن، والشتاء أسود والاشجار عارية دون لون. أمر محبط. بات يجلس في مكتبه لساعات، يستمع الى الموسيقى. اعلم انه وجد جزيرته وكنت أحاول ان احب حلمه. في الليل عندما لا ينام كنت أجلس قربه خائفة من تفكيره. أحيانا أخاف انني لست جزءا من الجزيرة وصار حلمي أن أعيش رغباته. احيانا كان يقول لي لا تتركيني ليف، لن اؤذيك، احبك. احيانا اشعر اننا تركنا حياتنا للشياطين ولكن كان هذا مرعبا».
لكن لحظات سعادة كثيرة عاشتها معه. أثناء الليل في الفراش، الاصغاء معاً الى أصوات المحيط، والطريقة التي يعانقها بها، ولم يكن هناك أي شيء يعكر صفو لحظاتهما، لا يقولان أي شيء. يصمتان مكتفيين. ثم أنجبا طفلة معا!
ولادة الطفلة غيّرت شيئا في ليف. الشعور الكبير بالامان، وانها باتت تعلم انها هي، أي ابنتها، ستكون معها في هذا العالم، تسمعان الموسيقى وتريان الصور معا. هي وابنتها معا. شعرت ان والد ابنتها بات عليه ان يعيش حياته قريبا منهما. الليلة التي عادت فيها من المستشفى الى البيت لعبت بخاتم الزواج. قرأت رسالته لها ولابنته. لن يحدق بها أي خطر بعد الآن... شعرت حينها.
تقول عن حياتها مع اثنين بدلا من شخص واحد: «في الجزيرة كنت عصبية سرعان ما أفقد صبري. كنت كممسحة للاثنين، أركض من الواحد الى الاخر دون ان اكون قادرة ان اعطي ولا ان آخذ. كنت وحيدة وهو ليس السبب ولا ابنتي. انها «أنا او نحن”وكيف نتعامل مع هذه الوحدة. هذا هو الفرق». اضافت.
في تلك المرحلة من حياتها وبعد ولادة ابنتها شعرت ان هناك شرا لا تستطيع تفسيره. شر مغر غير منطقي لا يخضع لأي قانون عالمي. لا شيء يخاف منه الانسان اكثر من هذا الشر.
بعد وقت قصير بدأت تواجه غيرته، عنفه دون حدود. أغلق كل الابواب، حتى الاصدقاء، حتى عائلتها، اصبحوا خطرا بالنسبة اليه على علاقتهما ودخلت ليف في عالم غيرته...
«كان هناك غضب بي، ولم اكن استطيع اخراجه. الان أشكر ربي انني كنت أعمل في السينما، عبر عملي كنت أُخرج العنف من داخلي في الافلام. كل غضبي خرج في السينما. هو ايضا كان يخرج غضبه علي كمخرج. أذى غيرته كان نفسيا أكثر منه جسديا لأنه كان يعرف كيف يقول الاشياء التي تبقى فيك الى الابد. مثلا في فيلم كان هناك نار قوية وكان يطلب مني ان اقترب اكثر من النار وخفت. غضب من خوفي. كنت أعلم في اعماقي انه ليس بغضب عادي لمخرج بل غضب رجل من امرأة. كنا نتشاجر واهرب منه واختبئ في الحمام وكان يكسر باب الحمام... ثم حين يهدأ يترك لي رسالة، «حبيبتي ليف اعتقد ان انغمار كان سيئا معك. اعتذر بالنيابة عنه».

الرحيل ثم الصداقة
الحادث الذي دفع ليف أولمن للرحيل كان اثناء تصوير فيلم العار. «درجة الحرارة كانت 30 تحت الصفر» تقول ليف، «وكان علينا ان ننام في المركب ولم يكن علينا ان نلبس، كان غاضبا مني لأنني اردت ان ألبس ملابس ثقيلة بسبب البرد...». انظر الى صوره اثناء تصوير الفيلم”- تقول ليف ضاحكة - «كم كان لابسا هو من البرد...!! كان قاسيا علي تلك المرة. كرهته وقررت ان اتركه. ربما لم يعرف ماذا فعل بي. قال انه مشهد جيد وعدنا الى البيت ولم اتكلم ابدا عن الموضوع.
شعرت ليف انها النهاية وانها اتت اليه وهو في طريقه الى مكان آخر. «حاولتُ انقاذ علاقتنا لمدة 4 سنوات ولكن اكتشفت انه دون جدوى ومن غير الجيد ان نبقى معا نحن الاثنين».
عندما اتى الفراق، تجاهلاه، لم يتكلما عنه، كأنه ليس موجودا، ليس واقعا. تصرفا كأن رحيلها هو زيارة الى النروج. لم تأخذ اغراض ابنتها معها. تركتها، لأنه لو اخذتها يصبح عليهما مواجهة الحقيقة.
«الان عندما اتذكر شعوره بعدم الامان، اشعر بحب واتجاوز دائما عنفه وعدم عدالته. لم اعد عمياء نحو أغلاطه ووضعه ولكن فهمي واحترامي له كبيران. عندما يكتب يغلق الباب على نفسه. هذا كله ساعدني ان اتطور. كنت التحق بالاخرين لأنني كنت محتاجة للامان مع الاخرين. كنت خائفة. وعندما بدأ شعره يشيب اكتشفت فجأة انه هذا هو الحب. والان صرت اقوى وصرت اشتاق لذلك الرجل في مكتبه. اردت ان اتقاسم معه معرفتي الجديدة وقوتي ولكن فات الاوان. لم أعد اجد هذا الرجل. المهم ان تترك كل شيء وراءك. ان تنسى ولا تربي مرارة في داخلك. ولا تقول ماذا لو فعلت هذا بدلا عن ذلك... او لماذا لم افعل... خسرت انغمار لكن ما زلت املك نفسي وقريبة من نفسي. خسرت انغمار لكن ما زال لدينا صداقتنا رغم غيابه. بكل القوة التي لدي بنيت جسرا بيننا. كتب لي بعد الفراق: «ليف ارى ان هذا الفراق كان ضروريا والا كنا احرقنا بعضنا. أنا في ألم دائم، نفسي وجسدي.
احبك يا صديقتي الصغيرة».

عن جريدة الاتحاد المغربية