ابو سعود وحديث قديم وواقع يتدحرج

ابو سعود وحديث قديم وواقع يتدحرج

د. صبيح الجابر
اسم حزبه، حزب العمال والفلاحين وفقراء العراق جميعاً، كان قد ارتفع عالياً مقترناً باسم الشهيد سلام عادل منذ اندلاع ثورة 14 تموز المجيدة. وبعد كارثة شباط الاسود عام 1963 عاد الشيوعيون في سبعينات القرن الماضي نجوما غطت سماء العراق من شماله الى جنوبه، وكان اسمه يتألق بينهم. لكن غدر الفاشية عاد ثانية بأبشع صوره اواخر السبعينات ليوزع طغيانه على كل شبر من ارض العراق:

اعدم ونفى وهجّر وابعد كل من له علاقة بالشيوعية من خلال الملاحقات والاعتقالات وممارسة ابشع انواع التعذيب والقتل السافر.
انه القائد والمناضل الوطني والاممي البارز عزيز محمد.

في مطلع 1980 وصل ابو سعود الى عدن للقاء بكوادر الحزب وقواعده في عدن، ومع قادة الحزب الاشتراكي اليمني الشقيق، قادة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي كان قد وصل اليها مئات الشيوعيين والشيوعيات وعوائلهم. وقد كلفت انا ومدير تحرير جريدة”الثوري”وقتذاك الاخ ناجي بريك لزيارة الرفيق ابو سعود في محل اقامته للترحيب به نيابة عن هيئة تحرير الجريدة واجراء مقابلة صحفية للجريدة.
كان حديث الرفيق عزيز محمد دقيقا ومركزا، بعيدا عن الخطابية والتنظير والتهويل، كان واقعيا حد البساطة في قراءته للحاضر ورؤيته للمستقبل.
في سياق حديثه ذكر ان الظروف التي عاشها الحزب لم تتح له فرصة اللقاء المباشر بالجماهير الشعبية مباشرة او من خلال المنابر الاعلامية، ووسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة فضلا عن المساجد او الجوامع المتاحة للآخرين ومحرمة علينا..الخ. باستثناء ما يقارب الخمس سنوات بعد ثورة 14 تموز المجيدة عام 1958 حيث عمل الشيوعيون في العلن تنظيميا وتثقيفيا وكذلك ما يقارب الخمس سنوات في السبعينات بعد قيام”الجبهة الوطنية التقدمية».. اما ما تبقى من سنوات عمر الحزب فقد قضاها في السجون والمعتقلات والملاحقات والمنافي.
خلال الفترتين القصيرتين المذكورتين استطاع الشعب العراقي وفي طليعته الشيوعيون ان يخرج الى الفضاء الواسع ليعبر عما في داخله من حب وفرح للواقع الجديد الذي اشاعته ثورة تموز. واقع جديد وغريب، لكنه كان اشبه بالمنقذ، الذي تنتظره الجماعات الشعبية وكأنها تعرفه منذ الازل.. وقد تميز هذا الواقع بتصدر الشيوعيين مشهده الحياتي اليومي، فضلا عن قيادته وتوجيهه.. واقع استطاع ان يحرر 70 في المائة من ابناء الشعب العراقي من عبودية الاقطاع، الذي بدأ العودة منذ انقلاب شباط الاسود حتى صار اكثر سطوة سياسية من عهد الملكية.. عاد بلباس جديد وبعربة جديدة تسمى (انتخابات برلمانية) وهي ذات الانتخابات التي كانت تُجرى في العهد الملكي.
اما الفترة الثانية فهي فترة السبعينات التي لم تستنفد سنواتها الخمس. فقد ارعبت البعث الحاكم رغم ان الشيوعيين يعملون معهم في (جبهة وطنية) اذ ان هذه الفترة القصيرة تميزت بتمدد الحزب في ارجاء العراق بشكل اخاف البعثيين. كما ان العراق لم يشهد في تاريخه الحديث طفرة ثقافية ثانية بعد طفرة الخمسينات، كالطفرة الثقافية التي حصلت ايام تصدي الشيوعيين للواقع الثقافي الذي تصدرته”الفكر الجديد”و»طريق الشعب”و»الثقافة الجديدة”وما كان يصور من الكتب العلمية والفلسفية والفكرية والروايات ودواوين الشعر (الفصيح والشعبي) وتنوع المجلات وتعددها.. وكان ما يجري على الارض مصحوبا بحركة نقدية تنظيرية، نراه يتحرك على صفحات هذه المطبوعات من خلال الشعر، والشعر الشعبي، والمسرح، والفن التشكيلي، والموسيقى، والتلحين والغناء، والفكر والفلسفة، والعلوم والندوات والمحاضرات والمنافسة الشديدة في القراءات والكتابة والنشر وتداول المطبوعات في التجمعات والمقاهي وحتى في اماكن العمل، وتشجيع التعليم وملاحقة الامية في ملاذاتها الآمنة في الاهوار والارياف والقرى البعيدة وحتى في اماكن البدو الرحل.
هذا بعض ما قاله لنا الرفيق عزيز محمد في ذلك الحين.
اذن مرت في تاريخ الحزب فترتان علنيتان (رغم المضايقات) لم تتجاوز أية منهما الخمس سنوات، عمل الحزب في اجوائهما تحت سماء صافية، وكان الحزب يتصدر مشهد النضال السياسي والابداع الفكري والثقافي العام..
ولكن اليوم لو سالنا انفسنا بعد مرور اربعة عشرة عاماً، ونحن نعمل في العلن بعد التغيير في 2003 هل استطعنا ان نحقق اثرا بارزا في الواقع الاجتماعي العراقي شبيها بما حققناه سواء بعد ثورة 14 تموز المجيدة او في سبعينات القرن الماضي.
للانصاف نقول ان حجم العمل المنظم وحجم الجهد السياسي والفكري والثقافي المبذول خلال هذه الفترة يفوق اضعاف المرات ما بذل في السبعينات او ما بذل بعد ثورة 14 تموز. لكن الواقع العراقي الذي يشبه الارض القاحلة يبتلع كل ما يلقى عليه من اسباب الحياة والنماء. إذ ان حجم الخراب الفكري والثقافي والتعليمي والاقتصادي الذي تعرض له العراق في هذه السنين لا يمكن تصوره. فقد واصلت وسائل التطور والتقدم ونقل المعرفة انهيارها منذ اواخر السبعينات، لا سيما بعد اندلاع الحروب الدامية والقتل الجماعي والموت المنظم الذي ما زال يفتك بالعراقيين جيلا بعد جيل صاحبه انهيار منظم ايضا للبنى التحتية بالكامل. واقع لم نجد له مثيلا اينما ادرنا ابصارنا. لا سيما وان النظام السياسي الذي استبدلنا به النظام الفاشي المباد هو نظام تحاصص طائفي وزع الغنائم التي هي ملكية عامة الى اقربائه ومناصريه، وترك الدولة فقيرة عزلاء تستجدي قوتها من دول اخرى. نظام اعتمد على القوانين السابقة في ادارة شؤون الدولة ولم يطبق من القوانين الجديدة سوى ما يضمن له السلطة والمال والنفوذ.
وهل يعقل ان بغداد التي تشكل وطنا في محافظة لم يرمم فيها شارع واحد، وان نسبة الامية بين شبابها تبلغ 25 في المائة وانها وهي عاصمة الدنيا قبل مئات السنين تصبح اليوم غير صالحة للعيش البشري حسب التقييمات الدولية؟