عزيز محمد : لم يكن انتمائي   الى «الحزب الشيوعي العراقي» بمعزل عن النهوض الكبير الذي شهده نشاط الحزب

عزيز محمد : لم يكن انتمائي الى «الحزب الشيوعي العراقي» بمعزل عن النهوض الكبير الذي شهده نشاط الحزب

حوار اجراه غسان شربل
عام 1997 نشرت مجلة الوسط التي تصدر في لندن حوارا موسعا مع عزيز محمد السكرتير السابق للحزب الشيوعي العراقي، وقد اجرى الحوار الصحفي المعروف غسان شربل ونشر على ثلاث حلقات، ولأهميته ننشر منه بعض المقتطفات التي تتعلق بحياة الراحل الكبير عزيز محمد

* أين ولدت وأين تعلمت؟
- ولدت لعائلة فلاحية في قرية قريبة من مدينة أربيل في كردستان العراق عام 1924. أدخلوني الكتّاب. وفيه تعلمت القراءة والكتابة. قرأت القرآن وتعلمت بعض قواعد اللغة العربية، مما أهلني للقبول في الصف الثالث الابتدائي عندما تقدمت للدراسة في المدارس الحكومية. وكان ذلك في النصف الأول من الثلاثينات.
لم تتح لي الظروف الاقتصادية الصعبة للعائلة فرصة مواصلة الدراسة أكثر من بضعة صفوف ولم يتجاوز تعليمي الدراسة الابتدائية. اشتغلت بعدها مستخدماً في دوائر الدولة، حتى استقالتي منها للانصراف للعمل الحزبي. لم أكمل دراستي ولم أعرف الجامعة. كانت جامعتي هي الحياة، خصوصاً السجن الذي أمضيت فيه عشر سنوات من 1948 إلى 1958 إذ خرجت منه إثر نجاح ثورة 14 تموز يوليو 1958.
انتدبت لعضوية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في تلك السنة. وانغمرت في العمل السياسي الحزبي. وفي 1964 انتخبت سكرتيراً للجنة المركزية للحزب، وبقيت في هذا المركز حتى المؤتمر الوطني الخامس للحزب في تشرين الأول اكتوبر 1993 حين طلبت اعفائي من مهماتي القيادية.
متزوج، ولي بنتان وولد واحد. نكون”عائلة”من خمسة أفراد. لكن هذا العائلة موزعة الآن في خمسة بلدان زوجتي في السويد وابنتي الكبرى في بريطانيا، والثانية في المانيا وولدي في هولندا وأنا في كردستان العراق.
* كيف وجدت طريقك الى السياسة، وبالذات الى الحزب الشيوعي العراقي حشع؟
- كما هو معروف ان الحزب الشيوعي العراقي تأسس عام 1934، غير أن التنظيمات الأولى للحزب وجريدته”كفاح الشعب”التي هي أول جريدة سرية في العراق، تلقت ضربات موجعة من قبل دوائر الأمن التي كان يشرف عليها ضباط انكليز لم تتح للحزب ان يتطور.
واقترنت اعادة بناء الحزب ونهوضه بعودة الرفيق يوسف سلمان فهد في نهاية الثلاثينات وبداية الأربعينات. في ذلك الوقت كنت لا أزال فتى يافعاً، وحتى خالي الذهن من السياسة عندما فاتحني بعض الشبان القوميين اليساريين بالعمل معهم في منظمة اسمها هيوا أي الأمل. ولم يمر وقت طويل حتى بدأت المانيا النازية الحرب ضد الاتحاد السوفياتي مع ضجيج دعائي بأنها ستلحق الهزيمة به، خلال أشهر معدودة ان لم يكن في أسابيع. وعندما ردت جحافل القوات الألمانية عن أبواب موسكو، وبخاصة بعد معركة ستالينغراد بدأت أنظارنا تتجه الى هذا البلد الذي أدهشنا بصموده، وبالدور الذي لعبه في الاجهاز على الوحش النازي. وأثر هذا تأثيراً سحرياً على أوساط واسعة من شبيبة الأمل هيوا ودفع بالكثيرين منهم، وأنا من بينهم نحو التنظيمات الماركسية. انتميت الى الحزب الشيوعي العراقي في شتاء 45 - 46 بعدما مررت بتشكيلات ماركسية أخرى مثل”جمعية الشعب”و»وحدة النضال”وحزب”شورش”الثورة.

النهوض الكبير
ولم يكن انتمائي وكثيرين من أقراني الى”الحزب الشيوعي العراقي”بمعزل عن النهوض الكبير الذي شهده نشاط الحزب وسمعته الجماهيرية، في مطلع الأربعينات خصوصاً سنوات 1943 وما بعدها. فقد شهدت هذه السنوات المجلس الحزبي الأول عام 1944 الذي أقر فيه الميثاق الوطني للحزب. وشهدت النضالات البطولية التي قادها الشيوعيون، الى جانب القوى التقدمية الأخرى، من أجل كسب الحريات النقابية وتشكيل النقابات التي كانت غالبيتها تحت قيادتهم. وكذلك معركة التنظيم الحزبي التي تكللت بإجازة خمسة أحزاب وطنية وديموقراطية وقومية وحرمان”حزب التحرر الوطني”من الاجازة، وهو الحزب الذي شكل الشيوعيون هيئته المؤسسة وفي مقدمهم حسين محمد الشبيبي عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي الذي نفذ فيه حكم الاعدام مع يوسف سلمان فهد وزكي بسيم عام 1949 في عهد وزارة نوري السعيد.
وفي هذه السنوات برز الدور الوطني للحزب إذ قاد نضالات العمال واضراباتهم في المؤسسات التي كانت تحت قيادة الانكليز حتى ذلك الوقت، وهي السكك الحديد والموانئ والأهم منها شركات النفط. وكان الحزب وراء اضراب عمال شركة النفط البريطانية في كركوك المشهور باضراب كاور باغي الذي انتهى بمجزرة ارتكبها الحكام دفاعاً عن مصالح الشركات النفطية في 12 تموز 1926. وسبق ذلك تنظيم تظاهرة 28 حزيران يونيو 1949 التي رفعت شعار الغاء معاهدة 1930 الاسترقاقية، والتي جرى تفريقها بالرصاص مما أدى الى استشهاد أحد المتظاهرين وجرح الكثيرين واعتقالهم.
ومن الملامح البارزة في نشاط الحزب، في تلك الفترة، تشكيل”عصبة مكافحة الصهيونية”التي ضمت الى جانب العرب جمهرة واسعة من الشباب اليهودي المعادي للصهيونية، وأصدرت جريدتها”العصبة”التي قامت بدور فعال في دعم نضال الشعب الفلسطيني وفضح الصهيونية باعتبارها ربيبة الاستعمار وخطراً جسيماً ليس على الشعب الفلسطيني فحسب بل على الأمة العربية كلها.
وهكذا ترون أنني لم أجد طريقي الى السياسة ثم الى الحزب من باب الايديولوجيا والفكر والفلسفة، بل من خلال الانبهار بقوة المثل الذي قدمته القوى الاشتراكية ممثلة في الاتحاد السوفياتي والانتصارات المذهلة التي أحرزتها على المانيا النازية. ومن خلال التعرف الى نضال الحزب الشيوعي العراقي الوطني والاجتماعي، ودفاعه عن الاستقلال والسيادة الوطنية ومطالبته بالحريات الديموقراطية للشعب ولضمان مصالح العمال والفلاحين وكل شغيلة اليد والفكر.
* كيف كانت علاقتكم بالوسط الثقافي؟
- كان انبثاق الحزب عام 1934 حصيلة لاندماج حركة الطبقة العاملة - الحديثة التكوين - بالمثقفين التقدميين من حملة الفكر الماركسي. وكان فهد باني الحزب عاملا ومثقفاً في آن. ولذا كان يقدر أهمية كسب الوسط الثقافي، وكان على علاقة جيدة بكثير من وجوه هذا الوسط البارزين. فالجواهري الكبير يروي في مذكراته كيف التقى فهد، وكيف كان يدفع بالمقالات التي يكتبها الى المطبعة حتى من دون قراءتها لثقته بأهمية ما يكتب. وكذلك يروي المرحوم يحيى فائق، وهو من المسرحيين الأوائل كيف حرضه فهد على تشكيل فرقة مسرحية لتقديم النتاج التقدمي الى الجماهير.
وفي تقديري يصعب أن نؤرخ للشعر الحديث، والحر خصوصاً، والمسرح والسينما والفنون التشكيلية والنشاط الثقافي الابداعي عموماً بمعزل عن شكل من أشكال العلاقة مع الحزب الشيوعي. لا أقول ان الجميع كانوا أعضاء في الحزب، لكن الغالبية كانت تتأثر بفكره ونشاطه. بدر شاكر السياب ومحمود صبري وجواد سليم وغائب طعمة فرمان وسعدي يوسف وعبدالوهاب البياتي وعبدالرزاق الشيخ علي ومحمد صالح بحر العلوم ومحمد شرارة وشمران الياسري أبو كاطع وزينب ومظفر النواب ورشدي عامل وصادق الصائغ وغيرهم كثيرون.
مجلة”الثقافة الجديدة”التي أسسها عام 1953 المرحوم الدكتور صلاح خالص والطيب الذكر الدكتور صفاء الحافظ الذي خطف في شباط/ فبراير 1980 مع زميله الدكتور صباح الدرة ولا يعرف شيء عن مصيرهما حتى الآن وكلاهما عضو في الحزب كانت منبراً للفكر العلمي والثقافة التقدمية، وتمثل جبهة مهمة من جبهات الثقافة الوطنية التقدمية في العراق. ولذا أغلقت بعد صدور العدد الثالث. وظل العدد الرابع محجوزاً من عام 1954 حتى تموز 1958.

مدرسة السجن
* أمضيتم عشر سنوات في السجن واعتبرتموه جامعة، هل لكم ان تحدثونا عن بعض ذكرياتكم فيه؟
- نعم هو حقاً كذلك. حكمت بالسجن عشرين سنة في القضية نفسها التي حكم فيها على الرفاق فهد وزكي بسيم وحسين محمد الشبيبي بالاعدام ونفذ في 14 و15 شباط 1949. دخلت السجن وأنا لا أجيد العربية. ولم أكن قرأت شيئاً يذكر من الأدب العربي أو العالمي. غير أن السجن هو الذي مكنني من ذلك.
ففي 1947 عندما سجن الرفيق فهد وعدد كبير من كادر الحزب، كان الحكام يريدون ان يدمروا المناضلين بعزلهم عن الشعب والحركة الوطنية من جهة، وتركهم نهباً للعزلة والضجر من جهة ثانية. وحوّل الرفيق فهد السجن الى مدرسة. وعمل على ملء حياة السجين وجعلها مثمرة. فأنشئت صفوف لدراسة الاقتصاد السياسي وتاريخ الحركة الثورية العالمية واللغة العربية. وعهد التدريس فيها الى رفاق مثقفين متمكنين من أمثال حسين الشبيبي ومحمد حسين أبو العيس وغيرهما. بل أكثر من ذلك انشأنا صفاً لتدريس اللغة الانكليزية. وكنا نحرص على أن تكون لدينا مكتبة لشتى فروع المعرفة، ونبدع في اخفاء الكتب أيام اشتداد الارهاب ضدنا كسجناء سياسيين.
وفي السجن استطعت أن أقرأ طه حسين ونجيب محفوظ وغيرهما من أعلام الأدب العربي، والكثير الكثير من الروايات المترجمة من الأدب العالمي، خصوصاً الأدب الروسي والسوفياتي: مكسيم غوركي، تولستوي، تورجينيف، شولوخوف، رسول حمزاتوف، وكذلك ناظم حكمت. ونشطت حركة الترجمة في السجن، وكان في طليعة المترجمين الفقيد زكي خيري. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل كنا نصدر نشرات ثقافية ومجلات داخل السجن يحررها السجناء الذين أصبحوا في ما بعد كتاباً وصحافيين مرموقين تعلموا وصقلوا مواهبهم في السجن من أمثال عدنان البراك وعزيز سباهي.
وفي السجن التقيت عدداً من المثقفين الذين حكموا لمدد قصيرة سنة أو سنتين ومنهم المرحوم شاعر الشعب محمد صالح بحر العلوم، والفقيد القاص عبدالرزاق الشيخ علي الذي اختفى قبل ثورة تموز ولم يعثر له على أثر والمرحوم الأستاذ محمد شرارة وغيرهم ممن لا تسعفني ذاكرتي الكليلة بذكرهم.
ولا بد من ذكر نواح أخرى في حياة السجن كالرياضة التي كانت يومية يمارسها الجميع ما عدا المرضى بقرار من الرفيق المسؤول عن الجانب الصحي للرفاق من أمثال الرفاق ابراهيم ناجي الصيدلي والدكتور حسين الوردي الذي كان في الصف المنتهي في كلية الطب قبل سجنه، وغيرهما من شغيلة الطب الذين تدربوا على أيديهم. والى جانب الرياضة التمارين السويدية التي تشمل الجميع كانت لدينا في السجن فرق رياضية للكرة الطائرة. وكنا نعتني بالرياضة الذهنية أقصد الشطرنج الذي كنا نقوم بصنع آلاته من العجين لب الصمّون الذي نصنعه نحن في الفرن.
* هل كنتم كقياديين تمارسون العمل اليدوي؟
- نعم. الجميع يشاركون في العمل اليدوي: الطبخ، الفرن، غسل الملابس. وبرزت لدى السجناء مهارات عدة.
* هل لكم ان تحدثونا عن وضع الحزب قبل ثورة 14 تموز 1958 عموماً وفي الجيش خصوصاً، وعن علاقتكم بعبدالكريم قاسم؟
- كانت خسارتنا باعدام الرفاق يوسف سلمان فهد وزكي بسيم وحسين الشبيبي عام 1949 فادحة. فاضافة الى فقد هؤلاء القادة اللامعين الذين يجسدون خبرة غنية ويحتلون مكانة كبيرة في نفوسنا، كان الفريق الأعظم من كادر الحزب في السجن. كادر الصف الثاني أو الثالث ممن بقوا خارج السجن كانوا يبادرون الى تشكيل قيادات للحزب من دون اجتماعات أو انتخابات سرعان ما تتعرض للاعتقال. وكان أبرز هؤلاء بهاء الدين نوري الذي اعتقل في 1953 وحكم بالسجن المؤبد. وعلى رغم الظروف الارهابية القاسية استطاع الحزب ان يواصل عمله ويخرج الى الساحة كقوة مرموقة من قوى الحركة الوطنية العراقية. وساعدت على ذلك حركة مصدق وتأميم النفط في ايران اوائل الخمسينات وثورة يوليو في مصر عام 1952 وتصاعد حركة السلم العالمية وانتصارات حركة التحرر الوطني والحركة الثورية العمالية.
وكان الحزب هو قائد انتفاضة تشرين الثاني نوفمبر 1952 التي تزامنت مع انتفاضة آل ازيرج الفلاحية في الجنوب. وجرى قمع الانتفاضتين واعلان الأحكام العرفية واعتقال المئات من القادة الوطنيين والشخصيات السياسية والثقافية المرموقة والمناضلين من شتى الاتجاهات والأحزاب. وكان من بينهم المرحوم الجادرجي وعبدالرزاق الشيخلي ومحمد مهدي كبه وصديق شنشل وفائق السامرائي ومحمد مهدي الجواهري وعبدالمجيد الونداوي وحسين مردان... وغيرهم كثيرون.
وفي صيف 1953 تصاعد الارهاب وفيه حدثت مجزرتا سجن بغداد في حزيران يونيو 1953 وسجن الكوت في آب اغسطس 1953 حيث هوجم السجناء السياسيون العزل وأطلقت النار عليهم داخل السجن مما أودى بحياة العشرات وجرح الغالبية الساحقة منهم. وولّد كل هذا سخطاً جماهيرياً هائلاً ضد الطغمة الحاكمة، وجلب عطفاً واسعاً على الحزب، مكّنه من تعزيز صلاته بأوساط واسعة خصوصاً بين العمال والفلاحين والطلبة.

عهد نوري السعيد
وفي صيف 1954 أفلحت الحركة الوطنية في تكوين جبهة انتخابية من عدد من الأحزاب العلنية الوطني الديموقراطي والاستقلال والجبهة الشعبية المتحدة وشارك فيها الحزب عن طريق ممثلي بعض الفئات الاجتماعية كالعمال والطلبة والشبيبة لرفع”الحرج القانوني”عن الأحزاب العلنية ومنعاً لاتهامها بالتعاون مع”حزب غير قانوني».
وفاز عشرة من مرشحي هذه الجبهة في الانتخابات من بين حوالي 140 نائباً هم كل أعضاء مجلس النواب البرلمان. ومع ذلك ارتعبت الفئة الحاكمة من هذا الفوز، فجاءت بنوري السعيد ليؤلف الوزارة ويلغي البرلمان ويعلن الأحكام العرفية ويلغي الأحزاب العلنية كلها ومئات الصحف والمجلات، ويسقط الجنسية عن المناضلين الوطنيين من أمثال الشهيدين كامل قزانجي وتوفيق منير، ويصدر قانون تحريم العمل من أجل السلام العالمي، وتنظيم الشبيبة، وما شاكل ذلك... هكذا بنص القانون، فصار يعرف بقانون”ما شاكل ذلك”للسخرية. وفصل المئات من الطلبة والمدرسين والمعلمين وأساتذة الجامعات وجندوا في دورات الضباط الاحتياط. كل ذلك تمهيداً لاقامة حلف بغداد الذي ضم العراق وتركيا وايران وباكستان وبريطانيا برعاية الولايات المتحدة الأميركية، المعادي لحركة التحرر الوطني العربية التي شهدت نهوضاً كبيراً إثر ثورة يوليو 1952 بقيادة الزعيم القومي العربي الكبير جمال عبدالناصر.
صمود الحركة الوطنية بوجه الهجمة الارهابية التي قادها نوري السعيد وتزايد السخط الشعبي، وتطورات الوضع على الصعيد العربي جعلت الجيش يتململ، وبادر كثيرون من ضباطه الوطنيين، القوميون منهم والديموقراطيون في مراحل وفترات مختلفة الى تشكيل خلايا للعمل السياسي داخل الجيش باسم الضباط الأحرار وبأسماء أخرى منها منظمة الجنود والضباط الثوريين التي كان حزبنا وراء تشكيلها، والتي أصدرت جريدة سرية باسم”حرية الوطن”وضمت عدداً لا بأس به من الضباط وضباط الصف المعادين للنظام والأحلاف العسكرية الاستعمارية.
وعلى الصعيد الحزبي شهد العمل جهداً دؤوباً لتوحيد الحركة الشيوعية التي شهدت انشقاقاً عام 1953 أسفر عن قيام منظمة”راية الشغيلة”وكانت توجد منظمة ضمت بقايا حزب الشعب يقودها المرحوم عزيز شريف، الشخصية التقدمية المعروفة.
الجهد الدؤوب الذي بذله الحزب بقيادة الشهيد سلام عادل حسين أحمد الرضي أثمر في صيف 1956 وحدة كل المنظمات الشيوعية، ورفع رصيد الحزب ومكنه من أن ينطلق بقوة أكبر لاقامة جبهة الاتحاد الوطني. فالمرحوم الجادرجي مثلاً كان يجيب رفاقنا الذين يفاتحونه بضرورة اقامة جبهة وطنية بقوله:”توحدوا أنتم أولاً ثم اطلبوا اقامة جبهة مع الآخرين». وكان محقاً في ذلك.
في أعقاب الوحدة التي تحققت على صعيد الحركة الشيوعية العراقية انعقد المجلس الحزبي الثاني في خريف 1956، وتبنى تقريراً سياسياً مهماً ساعد الحزب على الانطلاق في جميع مجالات العمل الفكري والسياسي التنظيمي، خصوصاً في مجال اقامة”جبهة الاتحاد الوطني”التي انبثقت في اذار مارس 1957 بعد بضعة أشهر على انفضاض المجلس الحزبي.
ولعل من أهم العوامل التي ساعدت على قيام”جبهة الاتحاد الوطني”التي شكلت القاعدة السياسية لثورة 14 تموز 1958 وشجع قيامها الضباط على خطوتهم الجريئة، أقول ان من أهم العوامل لذلك، الى جانب ما ذكرته، الانتفاضة التي شهدتها البلاد تضامناً مع مصر الشقيقة ضد العدوان الثلاثي الغاشم خريف 1956 وما واجهته الجماهير من قمع دموي في عشرات المدن الكبرى والقصبات، ومن بينها مدينة الحي الباسلة التي أعدم فيها رفيقان من رفاقنا هما علي الشيخ حمود وعطا مهدي الدباس، والتي هبت تعلن تضامنها مع مصر، وضمت في صفوفها مناضلين من شتى الاتجاهات السياسية المعادية للامبريالية.

قاسم والحزب الشيوعي
كما ان سلوك الحكام هذا استثار بشكل أكبر الضباط الوطنيين في صفوف الجيش فاتسعت حركة الضباط الأحرار لتضم المئات وعشرات الخلايا. وكانت خلية الزعيم عبدالكريم قاسم من بين أنشط الخلايا، ومن أكثرها انفتاحاً على جميع القوى السياسية وعلى حزبنا بالذات.
وكان حلقة الوصل التي اعتمدها عبدالكريم قاسم بالحزب المرحوم رشيد مطلك المعروف بميوله الوطنية والديموقراطية. اذ كان يتصل، بالأساس، بالرفيق سلام عادل الذي كان بدوره يستعين أحياناً بالرفيقين عامر عبدالله وكمال عمر نظمي.
ومن الطريف في هذا السياق ان كلمة السر التي يرمز بها الزعيم عبدالكريم قاسم الى الحزب في هذه الصلات هي”العمالة». والعمالة - بتشديد اللام - هم شغيلة البناء. ولربما عكـست جانباً مما يفكر فيه المرحوم قاسم ورغبته في الاستفادة من الحزب كشغيلة بناء عمالة من دون التمتع بثمار هذا البناء، كما حصل لاحقاً. فالمرء مخبوء تحت لسانه كما يقال. ذلك ان الوزارة الأولى التي أعقبت انتصار الرابع عشر من تموز 1958 ضمت ممثلين لكل أحزاب جبهة الاتحاد الوطني، عدا الحزب الشيوعي العراقي.
وهكذا ترون ان علاقتنا بالزعيم عبدالكريم قاسم كانت وثيقة قبل الثورة، وكنا نعرف موعدها. ومن أجل ذلك بــادر حــزبنا فــي 12 تموز 1958 الى اصدار توجيه داخلي لكوادره المتقدمة يخبرها فيه بتوقع أحداث مهمة، ويوصيها بطريقة التحرك في هذه الأحداث، وابراز الوجه الوطني التقدمي للحدث وعدم تجييره الى أية جهة خارجية وتجنب التمجيد الشخصي... الخ.
لم يكن حزبنا قبل الثورة يضم أعداداً كبيرة من المناضلين. كان في الحقيقة حزب كوادر متمرسة. إذ لم يكن عدد الأعضاء يتجاوز ألفاً. غير أنهم على صلة وثيقة بالجماهير عبر أشكال عدة من التنظيمات والاتحادات والنقابات والجمعيات وشتى أشكال التنظيم الجماهيري التي فرضها الحزب والحركة الوطنية في فترات مختلفة عن طريق تعبئة واسعة للفئات الاجتماعية المعنية. وظهر أثر ذلك واضحاً إثر نجاح الثورة. وشهدت الشهور الأولى منها تعاظماً في العضوية اذ تقدم للترشيح لعضوية الحزب حوالي 40 ألف مواطن.
وكان لعلاقتنا الطيبة مع عبدالكـريم قاسـم اثر في ذلك اذ اعتقد كثيرون بأنه عضو في حزبنا. كما ان خصومه كانوا يـستهـدفون احراجـه بهذه”التهمة». ولم يكتفوا بذلك بل أعطوه اسـماً سـرياً مزعوماً هو”مطر». لـكن الأمر لم يكن كذلك. بل كان يتعلق بتحالف غير مكتوب: كنا نريد عراقاً ديموقراطياً يرتبط بالجمهورية العربية المتحدة في اتحاد فيديرالي، وليس وحدة اندماجية، كما كان يريد بعض الاخوة القوميين. الأمر الذي فجّر صراعاً غير مبرر أضر بمسيرة الثورة وفجر الخلافات الحادة بين أبنائها، لم يستفد منه غير أيتام العهد المباد من اقطاعيين ورجعيين وعملاء لشركات النفط والدوائر الامبريالية التي ظلت تحوك المؤامرات للاجهاز على الثورة ومعاقبة شعبنا الثائر وارجـاع الحصان الهائج الى الحظيرة.