بعد ثلاثين عاماً من الثورة!

بعد ثلاثين عاماً من الثورة!

احتفلت مصر يوم الاحد بعيد الثورة! الثورة التي ثار عليها ابناؤها، وثاروا على زملائهم فيها، وثاروا على مبادئ الثورة نفسها!
كل هذا ولم يكد يمضي على الثورة الا واحد وثلاثون عاما. وقد احتفلت اكثـر من عشر هيئات بعيد الثورة، وألقى الثائرون القدماء في كل هيئة منها خطباً ينددون فيها بباقي الثوار القدماء في باقي الهيئات الاخرى وهكذا كان يوم الاحد الماضي هو يوم مأساة الثورة التي ثارت على نفسها!

كما يتكلم الزعماء!
وقد ذهب السعديون في الصباح الباكر الى ضريح سعد "أبو الثورة"، وبعدهم ذهب الوفديون.. ثم اعضاء الكتلة الوفدية.. كم.. ثم وقائمة ابناء سعد المختلفين على مبادئه، الثابتين على هذا الخلاف - ! – قائمة طويلة مليئة!
وعاد السعديون الى نادي سعد زغلول ليستمعوا الى الخطاب الضافي الذي ألقاه رئيسهم ابراهيم عبد الهادي باشا.. وكان شارع سليمان باشا يتجاوب بصدى الخطاب تردده الميكروفونات من داخل النادي حيث كان خطيب الثورة القديم قد خلع الرداء الدبيلوماسي ووقف يتحدث في صراحة وقوة الزعماء الشعبيين.

زعيم الوادي.. بكم!
وفي نفس الوقت كان النحاس باشا يخطب، وكانت خطبة رفعته نموذجاً من كل خطبه.. عطله الشبان وهو في طريقه الى الدخول فاعمل فيهم عصاه واصاب احدهم بجرح في يده!
ونبه رفعته مستمعيه قبل بدء الكلام بان خطبته تقع في ثلاث وعشرين صحيفة وتشبه رفعته بمحطة الاذاعة فقال انه قرر عمل استراحة في نصف الخطبة.
وقال بعض الخبثاء ان فترة الاستراحة كانت ابلغ فقرة في خطبة النحاس باشا.. وكان اروع ما في النادي السعدي واحدا من باعة الصور وضع امامه اكداسا من صور النحاس باشا واخذ يبيعها للوفديين المخلصين وينادي عليها: - زعيم الوادي بتعريفة.. رفعة الباشا بتعريفة!
والرجل بلا شك يريد بيع الصور فقط وليس اي شيء آخر كما قد يتبادر الى الاذهان من نص نداء البائع!
وخطب مكرم باشا في المساء وكان سرادق الكتلة متدفقا بالحماسة.
وخطب هيك باشا في نادي الاحرار الدستوريين.

أبو الأحرار
وكانت "آخر ساعة" قد تركت كل هذا الصخب جانباً، ودخلت غرفة نوم الرجل..
الرجل الوحيد الباقي من الثلاثة الذين صنعوا 12 نوفمبر وهو عبد العزيز فهمي باشا.
وكانت حالة معاليه في الغرفة خلقه هيكل باشا ودسوقي اباظة باشا واحمد علوية باشا.
وقال له هيكل باشا: لقد جئنا إليك يا ابا الاحرار نحييك!
وقال الشيخ الجليل:
- اسمع اترك التحية جانبا .. اني عاتب عليك.. منذ متى لم اراك؟
وقال هيكل باشا: من نوفمبر الماضي.
وصاح عبد العزيز باشا بلهجته التي تتدافع فيها الكلمات بسرعة طلقات المدافع الرشاشة:
- لقد شكوتك.. ولم اشكك الى غريب عنك.. بل شكوتك الى اهل دارك.. الى زوجتك وقلت لها: انني عاتب على هيكل فقالت لي ألا تغفر له.. لقد كان طول السنة او معظمها خارج القطر.. ثم قالت لي وعلى اي حال فان هذا لا يكفي ليكون عذراً.. وانا أتفق معك في العتب عليه..
وصمت الشيخ الجليل فترة تقل عن الثانية ثم قال:
- انها سيدة اصيلة.. ثم ابتسم وقال: وانت ايضا اصيل..
رحمه الله
واقترب مصور "آخر ساعة" يصور عبد العزيز فهمي باشا وصاح الشيخ الجليل: ان وهج التصوير ينصب عيني وسكت ثم استطرد بسرعة:
- اسمع اني أسمح لك بتصويري لو كنت انت الي اخترعت هذه الآلة التي تمسكها بيدك.. وبعد قليل بدأت عدسة آخر ساعة تختلس الصور للشيخ الجليل.. وبدأ عبد العزيز فهمي باشا يتحدث عن أول خلاف بعد الثورة.. الخلاف بين عدلي وسعد زغلول على رئاسة وفد المفاوضات.
وعندما كان اسم سعد يرد على لسان الشيخ الوقور كان يردفه دائما بعبارة الله يرحمه ويحسن اليه.

تحية لمن؟
وقال عبد العزيز فهمي باشا: ان احدى الصحف نشرت له دون ان يدري – رأياً عن منح المرأة حق الانتخاب.. وتدافعت الكلمات من فم الشيخ الجليل ثم قال اخيراً:
- وهكذا وقعوني في النسوان! وقال احد الحاضرين من الكبراء:
- على اي حال هذه وقعة طيبة! وصاح عبد العزيز فهمي باشا: لا يا سيدي موش لي انا!

ذاكرة قوية
وبدأ عبد العزيز فهمي باشا يروي ذكريات عن باريس ويذكر بالتفصيل موقع مستشفى دخله سنة 1913 على "ترومينوس سالازار" ثم روى حادثة وقعت اخيراً لصديقه يوسف نحاس بك في باريس وبدأ يروي تفاصيل وذكريات عن دقة يوسف نحاس بك.. وقال الشيخ الوقور:
لقد خرجت معه مرة نطوف بزراعته، واذا هو يطوف بارضه شجرة شجرة وغصنا غصنا ومن يومها لم اخرج معه ابدا..
وسمع معاليه احدهم يقول عنه انه "الزعيم".
فصاح فيه: يا خبر اسود بلاش الكلام ده..
واراد احدهم ان يقبّل يده وانتفض الشيخ الجليل من الهول وكرر قوله:
- يا خبر اسود.. اعمل معروف يا بني بلاش!

أطياف الماضي
وبعد نصف ساعة كان الشيخ العجوز، الوحيد الباقي من الثلاثة الذين صنعوا 14 نوفمبر وحيداً في غرفة مرضه يحملق في سقف الغرفة ويسرح ببصره.. من اطياف الماضي.

آخر ساعة /
تشرين الثاني- 1949