فضاءالقص في نصوص (روشيرو)

فضاءالقص في نصوص (روشيرو)

جاسم عاصي
جنس (القصة القصيرة جداً) يُرجع معظمهم في كل الاحتمالات البحثية إلى (ناتالي ساروت/ انفعالات) ولكن نرى كثُرة الكتابات خالية من بذل الجُهد في التقصيّ، حيث تُضاف حقيقة تاريخية لإنصاف جهد الآخر. إذ أن، لها جذراً في أدب العراق القديم، وحصراً عند الحكيم (إحيقار) وقد كتب قصصه أو شذراته الفلسفية عن عالم الحيوان،

مقتربة نصوصه مما يُكتب اليوم من قصص لها مواصفات (التكثيف، الاختزال، الضربة، المفارقة) إلى غير هذا من المقاصد والآليات. وما يكتبه القاص (حسين رشيد) يقترب من بعض ما كتب الكاتب الآشوري وفي معظمها من كتابات (خالد حبيب الراوي) حيث يترك مساحة سردية ولغوية لتنفيذ المعنى من القص، وهذا يقترب أيضاً من جُهد (ساروت) أيضاً. ولعلّ أنماط القص شكلاً ومعنى، اختلف عند القصاصين عرباً وعراقيين من أمثال (محمد عيتاني، زكريا ثامر، محمود شُقير، إبراهيم أحمد، جليل القيسي، حنون مجد، أحمد خلف، حمدي مخلف الحديثي، جمال نوري، علاء مشذوب، فرات صالح، حمودي الكناني، حيدر عاشور) والإضافة من لَدُن القاص (حسين رشيد) في مجموعته (روشيرو).

العتبات
روشيرو.. عنوان انشغلت به كثيراً، كي أجد له جذراً. وحين فشلت في مسعاي؛ أعزيه إلى كوّنه عنواناً مركّباً من اسماء اجتزأ حروفها، حاول القاص أن يضعه ضمن منطقة السؤال. العتبة الثانية هي لوّحة الغلاف التي هي ناتج تأثر وانطباع الفنان (صدّام الجميلي) لما قرأه من نصوص. فحمّله صورة لأجساد ملتفة، تخفيً، وربما تلتف بغطاء الموّت، ما مبرر جعلها مقلوبة الهيأة، فذلك مرّده إلى الحيّف والمصادرة والاقصاء، الذي عمل من الإنسان رمزً زائداً في الوجود، بضاعة يمكن ركنها في أيّ زاوية من المكان المهمل، فالمهمل في زاوية الاهمال. في الاهداء إلى ولديه، تحميل الصغيريّن هماً سيتم فحصه في المستقبل بوصفه جزءاً من تاريخ خاص وعام. عتبة قول (أوغستو مونتيروسو) فيه مفارقة بين النص القصير والآخر الطويل، وأرى أن كليهما يتكئ على المخيّلة، ذلك لأنها سمة ملازقة لأصغر ثيمة في النص. أما التقديم بصيغة (روشيرو) فقد كانت توّصيفاً للعنوان حصراً، احتوى على جملة تخريجات منها؛ بعد توّصيف لحركة روشيرو في الوجود (ظبية بضّة) إزاء تعاقب الأزمنة، مما يصل بنا إلى (نهر أحمر، جبل أحمر، واد أحمر، سهل أحمر، دم مثل الماء) وتلك هي الفجيعة. ثم يوصل التوّصيف بآخر هو (حكاية من غير بداية ولانهاية، حكاية تنوب على كتابتها الرب والزمان) ثم أن روشيرو(نهاية موّت تاريخية، خيّمة مزقتها حراب ورماح وسِهام ونِبال وأكاذيب وفتوى) حتى يصل ولا ينتهي ذهنياً في التوّصيف (زغرودة نساء وعويلهنَّ في باحات السجون ودوائر الأمن. ويقطّع العنوان إلى (رو، شي، رو..) ولكل حرف اسم وحكاية ومفردة تطوف في ثنايا الأوراق المقبلة) وهي (الوطن).

الميّزات الخاصّة والعامّة
لكلّ نص خصائص، فكيّف إذا اجتمعت النصوص في كتاب متميّز في إخراجه وطبيعة قصه، كذلك في الحرص على أن تكون جملة الاستهلال قادرة على سحب القارئ إلى متنها. ففي ميّزاتها الخاصّة، نجد أنها نصوص متماسكة وحريصة على تراكيبها اللغوية، وتعاقب دربة السرد، فاللغة سهلة موصلة بلا تعقيد على حساب المعنى، ومتمكنة من اخفاء القصد بمباشرة مثيرة، فاللغة محايدة للمعنى، عرفت كيف تُدير لعبة القص بمهارة لغوية وسردية. يدعم كل هذا رؤى مستقرة وهي تفحص ما يدور في عالم القاص الذي هو جزء من المجموع في واقع مضطرب. من هذا جعل من نصوص الكتاب القصصي هي الأقرب من مدار الوجود العراقي الممزق. نظرته للواقع لم تكن مجزئة، بقدر ما كانت من بين مجموع الرؤى المستنبتة وراء هذا الفعل أو ذاك. لذا فنحن إزاء كثافة سردية، لا تُفرط بالبناء بكل مستلزماته على حساب آخر، فجُهد الكاتب انحصر على لمْ الأجزاء في تكثيف مركزي. لا يبتعد عن الماحوّل، سواء كان الحسّي أو الحركي، فالنصوص منغمسة في حركة الواقع. حاول السارد أن يُقدمها على أنها جزء من ظواهر التعطيل والمحو ولإزالة من الوجود بهذه الطريقة أو تلك، من خلال التأكيد على العجز الجنسي الذي شاع في النصوص، ونرى أنه دالة على ظاهرة أكبر تخص العجز العام في الوجود.إذاً نحن إزاء هم فلسفي مغلّف بصوّر واقعية متعددة، ظاهرها (الجنس، الفقر، المحو، الموّت).وطبيعي يرتبط هذا بجملة الانتاج المتنوّع في الحياة. فالقاص لا يُسمي الأشياء بأسمائها، لا ينعتها مباشرة بصيغة التأنيب وإظهار الخطأ من أجل إحقاق الصحيح، فهو قاص ذو رؤية لحراك منظور ومعاش، يُحقق صدمة وردة فعل، يتوّجب أن تكون رؤية تخص ذات المبنى في الحياة عبر مبنى النص، لأن كليهما يتمتعان باستقلالية وجود، فالنص والوجود مبدآن وقراران فرديان.وما يشفع للقاص وهو يُمارس فعل القص ؛ إنه يتمسك بوحدة الموّضوع ولا يُفرّط بها (اسلوباً، تتابع، مركز، لغة) فقد تحكم في بعض القصص قوة النظرة التهكمية والسخرية اللاذعة. وهي سخرية مغلفة بنمط ايديولوجي مرن. وقد شف عن ذلك ما عتمته النصوص في اتكائها على صلابة موّقف، وأعني به منطلق الكتابة، التي يتوّجب لها أن تعتمد على قاعدة فكرية مرنة وذات تشوّف رؤيوي واضح. كذلك عمل المخيّال دوراً في صياغة تفاصيل وصياغة شفرات النصوص، فبدونه يصبح النص عارياً بلا غلاف بلاغي. لقد تميّزت بعض النصوص من منطلق ابتدأته، وهو لتوّفر على مفارقة نقدية للواقع، وتقديم درس قصصي مدهش.

استقراء النصوص
لا شك أن النصوص في الكتاب تميّزت بالتنوّع، كذلك بمستوى الأداء القصصي، فالبعض منه قد وقع في المباشرة وكثرة الإنشاء، والخطاب الحماسي في إظهار ونقد ظواهر الوجود العراقي، والبعض الآخر حافظ على أداء وظيفته مع ابقاء حق الدهشة الفنية، والبناء المحكم، والإشارة إلى ما يرمي إليه القصد. ففي قصة (هدى) تكون الفتاة بمواجهة الواقع اليومي في ترتيب دكان الأب، ثم تقصد بائع الصحف لتنتقي صحيفتها، لا لشيء سوى قراءة عمود تُثيرها طريقة كتابته، حيث يمر عليها رجل مستقلاً سيارته، تحدثه عن محتوى عمود اليوم. هكذا يجري الحدث في صباح كل يوّم، وعي مقابل فضول الدهشة من اهتمام فتاة تعمل وتُثابر على الدوم المدرسي. البهجة تعم الاثنين عند كل لقاء. الدهشة في النص تتركز في صورة الرجل الذي أشارت الصحيفة، إلى أنه كتب آخر عمود كتبه تحت عنوان”هدى”هذه المفارقة خلقت ضربة قصصية مدهشة من جانبين، معرفتها بكاتب العمود، ورحيله لحظة معرفته، لأن القصة التقطت المشهد الأكثر حساسية وتأثيراً. وفي قصة (رحيل) استطاع القاص أن يُعالج التطرف المذهبي بصورة لم يثر من خلالها زوّبعة قصصية، فكل ما ينم عنه السرد محض كشف هادئ لبؤرة السلبية التي يتحلى بها أب للطفل الذي هو بحاجة إلى دم. فالمفارقة في كوّن الأب يرفض تبرع الرجل من دمه للطفل بحجة كوّنه كافراً يعاقر الخمرة. الدهشة تكمن في موّت الطفل.هذا الأداء يُثير الدهشة القصصية المبنية على مفارقة الاعتقاد المذهبي المتطرف. بينما في قصة (أسماء) تكمن الدهشة من واقع مستلب ومتسلط، يؤثر في اختيار أسماء للمواليد الجُدد. فأسلوب القص كان في منتهى البساطة، لكن القوّة في القص تكمن في جملة الأقفال القائلة (أرغموا على تسمية كل مواليد ذلك اليوّم في المستشفى انتصار ونصر (وهما اسمى ولديّ مسؤول حكومي ولدا لحظة ولادة لطفلة (نوسه).في قصة (خاصرة) عالج بتكثيف في الأسلوب عملية الاختطاف الذي رسمه الارهاب كحالة هي جزء من طبيعة الاحتلال في خلق الفوّضى في البلد. اقترن اختطاف الابن في ليلة عرسه. المفارقة مبنية على تراجيدية ما يحدث يومياً من أحداث، هي جزء من مدوّنة البلد. وتتناول قصة (نسيان) المفارقة بين صنع البهجة في حياة الآخرين، وهنا في دار الأيتام من قبل صاحب فرن لصنع كيك أعياد الميلاد. حيث ظهر إثر سؤال للرجل عن سبب عدم قيامه حفلاً لعيد ميلاده. فتبيّن أنه عاش في الملجأ ولم يعرف لميلاده تأريخاً، ولا لأبويه وجوداً. وهي مفارقة أكدت ما زرعته عقدة فقدان الوجود الروحي عند الفرّان بديلاً ايجابياً لعقدته.
إن الإشارة إلى تميّز هذه القصص وغيرها، لا يعني التقليل من قيمة بقيتها في المجموعة، فلكل نص منها له أسلوب أدائه، مما أكد لنا أن القاص يكتب نصوصه وهو مسترخٍ، حيث يُتيح له هذا الاسترخاء فضاء التعامل مع حدثه، ونماذجه الإنسانية من جهة، والاهتمام ببناء النص، سرداً ولغة ودلالة. أعتقد أن قصص (حسين رشيد) أسست لنمطها الأدائي، وأكدت أيضاً على نمط أسلوبه الذي بالتأكيد سوف يُرفده بتوجهات، لا نقول أنها مغايرة، بل تؤكد مبدأ تحوّل الكتابة السردية عبر تغيّر الزمن وتغيّرات الواقع.