الجواهري: أنا بطبعي شخص متأزم دائم التوتر ولا أفهم كثيراً في السياسة

الجواهري: أنا بطبعي شخص متأزم دائم التوتر ولا أفهم كثيراً في السياسة

زهير الجزائري
بين بيتنا وبيت الجواهري في النجف لا أكثر من مائة خطوة في ذلك الزقاق الذي ينعطف في نهايته من محلة العمارة باتجاه محلة المشراق. في الطريق بين بيتنا الى بيت جدي في محلة المشراق أمر بالبيت القريب من الصحن. أقطع الزقاق الآن في خيالي وأنا ممسك بالفانوس لأنير خطوات الوالد متسمعاً خطواته بسخط الصبي الذي سرقت منه طفولته وتحتم عليه أن يحضر مجالس الكبار قبل أن يعرف أزقة اللعب.

أمر كل يوم بنفس الزقاق متتبعاً خطواته والدائرة التي ينيرها الفانوس بدون أن أرى الجواهري الذي يتحدث عنه والدي لأنه ترك المدينة منذ سنوات واستوطن بغداد تاركاً خلفه صورة زنديق خالف عادات المدينة وأعرافها وراح يشرب الخمر هناك بين الغواني. والدي وجيله من العلمانيين كانوا يتداولون أشعاره كمثال لتمردهم.

حين كبرت كان بلند الحيدري وديوانه (خفقة الطين) أقرب إليّ من الجواهري، كنت قد غادرت العمود بلا رجعة، ومع مجايلي في المدينةً كنّا ننظر للعمود على انه قيد حرية القصيدة لأكثر من الف وخمسمائة عام. لذلك غادرناه دون عودة. مع ذلك نعود الىالجواهري لنتداول قصائده المتمردة، وهنا يتداخل الثوري والعدمي فينا.

عام ١٩٧٠ وربما ١٩٦٩ رأيت الجواهري لأول مرة في قطار ليلي يتجه الى الجنوب. كان قد عاد تواً من منفاه في براغ وهو على حذّر من البعث الذي عاد للسلطة بقناع اكثر مقبولية. في القطار الذي يشق الليل باتجاه الجنوب كنّا (رياض قاسم ورشدي العامل وأنا) في غرفة واحدة. الغرفة المجاورة مغلقة على سر يعرفه رشدي العامل ويحوم حوله بفضول:
-كفى!
قالها رشدي العامل وهو منتشٍ بالصحبة ونجوم الليل والخمرة المبذولة في قطار يحمل كل هذا العدد من الشعراء. دفع الباب بيننا وبين الغرفة المجاورة فانكشف الشاعران، الجواهري ومصطفى جمال الدين. الجواهري عرف نفسه بالزنديق وكأس البراندي بجانبه ومصطفى جمال الدين على الكرسي المقابل بقميص النوم ملتف على نفسه بحذر، فالخمرة المحرمة عليه على مبعدة ذراعين. هل أشتهى الخطيئة مرة ام اكتفى بالتغزل بها شعراً كما فعل الشاعر الحبوبيً. ممازحا قرّب السيد مصطفى جمال الدين كأسه من أنف رشدي العامل ليبرئ نفسه من معاقرة المنكر. معاقرة الخمر والتغزل بها كان موضوع الحديث والمتكلمان هما الجواهري وجمال الدين. هل يحق لمن جرب الخمرة وحده أن يتغزل بها؟ وهل التغزل بها حرام مثل شربها؟ وهل جربها الحبوبي أم لا؟ رشدي ورياض ملحا النقاش بالهزل.. النقاش استمر حتى ساعة متأخرة من ليل يشقه القطار. بين فترة وأخرى تلمع أضوية ونيران بعيدة وقرى تناشدنا التمهل، لكن القطار يصرخ ويمضي...
في الفجر الباكر، وبينما الكل نيام، رأيت الجواهري مثل طفل، عالق بالنافذة يريد أن يرى الأهوار حين تكتسب شكل الطبيعة لحظة الخليقة الأولى. أطراف القصب يكتسي لوناً بنفسجايا، قبل أن يطلع أول ضوء وكأن الإله السومري أنليل قال : ليكن بين الماء الأعلى والماء الأسفل جلد! يدير الجواهري رأسه يمينا ويسارا غير قادر على أن يقرر، من أيهما يغرف الجمال من الماضي، أم من القادم؟المشاهد تمر أمامه والقطار يسير والجواهري متشبث بحافة النافذة تاركاً للريح أن تطير خصلات من شيباته. : معقول! كل هذا الجمال وتبقون نائمين؟!
قبيل الوصول الى محطة البصرة توقف القطار لسبب لا نعرفه. توقف طويلاً ونحن ومعنا من قيادات البعث عبد الله سلوم السامرائي وصلاح عمر علي. توقفنا ساعات لسبب مقلق لا نعرفه. زاد قلقنا حين رأينا المسؤولين قد جمعوا حقائبهم ونزلوا من القطار مع حماياتهم قلقين. بعد نزولهم مباشرة وصلنا الخبر : جماهير البصرة زحفت الى المحطة واجتاحت كل الحواجز لتستقبل الجواهري. المسؤولون نزلوا من القطار لأسباب أمنية ولكي لا تبدو هزالة السياسي أما عظمة الشاعر. القطار يلهث ويتقدم ببطء. حين أقتربنا من المحطة ومعنا حشد من الأدباء العرب سمعنا دوياً، ومن النوافذ ميزنا الهتاف : -جواهري أهلا بيك إحنه أهل البصرة نحييك.
حاول الجواهري لساعة وأكثر أن يخفف حماس الحشد وهو يحييه من النافذة، لكن لم ينفع الأمر. تقدم بقامته الطويلة نحو الباب، لكن الجمهور كان يلهث، يدفع حزام الشرطة بإصرار،و فجاة رأيناه محمولاً على الأكتاف والحشد يسير به :ألى أين؟.
أنذاك عرفنا لماذا تسلل رجال السلطة قبل وصول القطار. هربا من فضيحة.
الى جانبي في النافذة صافيناز كاظم وَعَبَد المعطي حجازي ومعهم الدهشة، فقد تعودنا على احتفاء كهذا بالقائد، أما أن يكون هذا الاحتفال بشاعر؟! زاد الجواهري إيماننا بالشعر.

كيف تولد القصيدة؟
أريد ان اعرف يا أبا فرات ولديك الكثير من قصائد الاستجابة لموقف سياسي- كيف يتطابق الموقف والقصيدة. أيبدأ الموقف أولاً أم يتكوّن خلال القصيدة؟
هناك أكثر من موقف واحد. احياناً كما قلت لك اتلقى اشارة ويحدث تهيؤ وليس تنزّل. وأقول لك، بيني وبينك، اني لا اعتبر نفسي سياسياً بالمعنى المُتعارف عليه، ولا افهم كثيراً في السياسة. ما أعرفه هو التعامل مع الناس، وفي هذا النطاق بالذات، وبأمكانك ان تـُدخل ما تشاء من المفردات تحت هذا الباب. بهذه البساطة افهم السياسة. وهذه البساطة وهذه الحدود، مخلوقة لي كما انا مخلوق لها. يُضاف اليها حضور الرؤيا والصورة التي تكمن في صميم الاحداث وما يراه الناس. ولكن عندما يحدث وضع يتطلب موقفاً يبدأ في داخلي تهيؤ له، وللحدث الذي يرافقه والمطلوب ان يعبّر عنه. وبعبارة اصح واصرح تهيؤ لانتهاز واستغلال الموقف. حقاً اني اريد في هذه الحالة ان اقول للناس. ولكن، واعتبر نفسي من صلب الناس، قبل ذلك اريد ان يكون الموقف جزءاً مني انا الجواهري، وافكر بان ما اقوله يكون جزءاً من دمي. وهنا تسبقني الفكرة الاولية، اي المنطلق. فاذا انطلقت فتعوذ بالله! تجر الفكرة الفكرة كما الوحي. وقد يستغرق البيت الذي يسبق الموقف مني نصف ساعة قبل ان امسك القلم، او قبل ان اقول البيت الاول الذي هو عندي عنوان الفكرة. ولكن بقية القصيدة ستستغرق نصف ساعة أو ساعة ونصف في اكثر تقدير.

سلام على حاقد ثائر
على لاحب من دم سائر

طبيعي يأتي بعدها:
سلام على مثقل بالحديد

اقولها وادري انني وضعت الحديد في يدي على رغم ان احداً غير قاسم، لم يضع الحديد في يدي، لا ادري كيف، ولكني عرفت اني يجب ان اقول ذلك، واقولها بقوة لان الناس تريد ذلك. وحتى لو لم يرد الناس ذلك فقد اردته انا. واذا اراد الناس فتلك حسنة اضافية. وهنا يأتي عنصر التحدي الذي قلت عنه. كانت الحرب كما قلت سجالا بين الموقف والموقف والطبقة ولم يكن النصر هدفي، ولم أبال بالهزيمة، اعتبرت هذه الحرب قدري وعليّ ان اخوضها حتى النهاية. هنا لابد لي من الحديث عن قصيدتي في مؤتمر المحامين، فقد كنت عائداً من باريس ووصلت الى بغداد في ((يوم المشانق)). وعلمت بالخبر الاليم وانا في طريقي من المطار الى البيت. وكانت الشوارع حزينة صامتة. حتى الناس في المقاهي صامتون. وملأت المرارة والغضب نفسي فرأيت ان صرخة لبغداد لا بد وان تنطلق في هذه المناسبة، ومن داخلي جاءت الاشارة بأنه يُراد مني شيء لا يمكن ان يكون، لا في مفهومه ولا منطوقه ولا زمانه. فالمشانق منصوبة، ومع ذلك شعرت بأنه يُراد مني ما لا يُراد اصلاً. وقدّرت ان عقوبة ما افعله لن تقل ابداً عن خمس سنوات من السجن حسب القوانين العرفية السائدة ومع ذلك اعددت نفسي للنزال فبدأت ببيع المطبعة بسعمئة دينار. وكان هذا المبلغ للبيت واحتفظت بستين ديناراً وقلت لاهلي ان يحضروا انفسهم للذهاب الى النجف. وفصلت بدلة جديدة لـ ((اكشخ))”أتباهى”استعداداً للمناسبة، وعندما أكملت القصيدة قرأتها امام أم نجاح (زوجته) ووصلت ((حشدوا عليّ المغريات)) قالت أم نجاح ((عوافي!)) وتعني عند النساء العربيات ((ليكن ما يكن!))...
في مثل هذه الحالات تتوقع القصيدة في داخلك وكأنها مقروءة على حشد؟
تماماً.. (هواية)) فرق بين ان اقول ((انا حتفهم الج البيوت عليهم”، وأخذها الى الجريدة، حتى ((لو تسوي)) ضجة (ثاني يوم)) وبين ان اقف في المحفل واقولها وسط الناس، واصابعي في عيون من اعنيهم من الحاكمين.
في كل هذه الحالات كنت في حاجة الى استفزاز خارجي لكتابة القصيدة.....
انا بطبعي شخص متأزم دائم التوتر. ولهذا كنت مثار تعب لعائلتي، دائما يقولون لي : ستقتل نفسك بهذه العصبية الدائمة.. حركة الاصابع المتوترة اكمل تعبير على هذا التأزم الدائم. وقد كنت منذ طفولتي مـــــــعروفاً بفورة الروح وكان اقراني يناكدونني ((مهدي عصبي، يفور فورة ويستوي)) وحتى الآن تلازمني هذه الفورة والاستواء ويصادف ان يلتقي هذا التأزم مع الاحداث التي تؤزم بلادي. او ان ازمتي الداخلية تغذي تأزم الناس بالقصائد. فكل من عاش هذه الفترة يعرف جيداً ما كان لهذه القصائد من زعزعة وإثارة لجماهير كانت في حاجة الى من يزعزعها ويحركها وينفث عنها. في احيان اخرى استفز بحدث يمسّني شخصياً كما حدث مرة حين ذهبت الى تشييع نيابة عن البلاط وعدت خاسراً متألماً من نفسي؛ لماذا ذهبت؟ وكان الألم يغذي داخلي قصيدة، والمفروض ان تنفجر في صلب القصة التي حدثت، كما هو المألوف : ((قالت وقلت خاطبتها جاوبتني)) ولكن ابداً لم يكن شيء من هذا، ولا كلمة واحدة عن الموضوع، بل ولا حرف فالابداع كان اسمى رغم الغضب العارم. وبدأت بانطلاقة داخلية وكأنني ساغادر دجلة. اتغزل به كأنما اودعه متألماً :
سلام على هضبات العراق وشطيه والجرف والمنحنى

*مقطع من مقابلة طويلة
مع الجواهري في دمشق