صفحات مطوية من ذكريات الجواهري

صفحات مطوية من ذكريات الجواهري

فوجئت في أحد الأيام بالشاعر الكبير محمد الهاشمي يرد علي قائلاً: «إلى نابغة النجف» وذلك بقصيدة مطلعها: «أيها البلبل غرد – وانظم الآلام شعرا» (…). قرأت قصيدة الهاشمي مرات ومرات وذهلت، أصحيح أنني الإنسان الذي استطاع أن يهز هذا الشاعر الكبير، فيرد علي شعرا على القافية نفسها؟
إذن، أنا إنسان مهم. الأرض لم تعد تحملني.. وبدأت الأحقاد تنمو في مجتمع النجف، ضد إنسان صاعد في بلد التناقضات، النجف، بلد الفقر المدقع والغنى الفاحش،

جنبا إلى جنب.باختصار، بدأت أعي لعبة الحياة، بدأت أحس أن بلدي مع أدب ومجمع دين ومجمع فقر. وخلاصة الموضوع كانت أن سيئاتها أكثر من حسناتها.

أول الدرب
لنعد إلى بداياتي الشعرية. لنعد إلى الوراء. على ما قبل ستين عاما أو أكثر فبعدما نشرت لي القصائد تحت توقيع «نابغة النجف» تشجعت كثيرا، وقد أعطتني تلك القصائد زخما وانطلاقا في بحور النظم. لذلك، أنا من أنصار تشجيع المبتدئين في عالم الشعر.
كما أن طموحي تعدى حدود العراق فصرت أرسل قصائدي إلى مجلة «العرفان”في صيدا (لبنان) وكان صاحبها أحمد عارف الزين. فصارت قصائدي تنشر، واحدة في بغداد وأخرى في لبنان.
وبدأت أشعاري تبدو وكأن ناظمها أكبر مني سنا. وبمعنى الكلمة أنها كانت تبدو لإنسان ناضج. ومثال على ذلك؛ ففي أول زيارة قمت بها لبغداد. كان من الطبيعي أن أزور الصحف التي تنشر قصائدي. وفوجئ أصحابها بصغر سني، خصوصا أنني في ذلك العهد، كان شكلي مضحكًا. إذ كان وزني لا يتعدى خمسة وثلاثين كليوغراما. وكنت يومها ارتدي الجلباب والعباءة العربية (الزي النجفي) وعمامة صغيرة. كنت مثل شبح. أنا نفسي لم أكن أعرف شكلي. إذ لم يخطر على بالي مطلقا أن أنظر إلى وجهي أو قامتي في المرآة.
وأستطيع القول إنني بلغت العشرين دون أن أرى وجهي في المرآة. وأول مرة شاهدت وجهي فيها كانت عندما تصورت في بغداد وفوجئت بصورتي.
ربما تسألينني متى صرت «أباوع» (انظر) المرآة؟ صارت نظراتي تلتقي المرآة يوم عرفت أن هناك شيئا اسمه الأناقة في حياة الإنسان أي بعد بلوغي عامي العشرين بفترة طويلة. وسبب ذلك أن بيوتات النجف لم تكن تضم بين أثاثها المرايا الكبيرة الموجودة حاليا في كل منزل بل كانت المرآة الصغيرة هي المنتشرة في العشرينيات. لذلك عندما رأيت صورتي فوجئت وكأنها لا تخصني، أو بالأحرى كأنها ليست وجه مهدي الجواهري. عندها تذكرت أن هناك مرآة ويجب أن أعتني بشكلي، ولو قليلا. كنت أبدو وكأنني شبح يدب على الأرض.وكنت في السابق أتعجب من بعض الأشخاص الذين يخرجون من منازلهم وكأنهم نساء متبرجات، أو كأنهم يستعدون للذهاب إلى المراقص.

اكتشفت بغداد
بغداد كانت بالنسبة إلي عالمًا مجهولا. ذهبت إليها لاكتشاف هذا العالم الجديد. زيارتي إليها كانت أشبه بعربي ملهوف يزور باريس لأول مرة. ورغم بقائي يومين لا غير في بغداد بقيت أشهرا أتحدث إلى محيطي عن اكتشافاتي فيها.وبلا مبالغة، كنت أروي القصص كما كان يروي كولومبس اكتشافه لأميركا.
أنا «كولومبس النجفي”يروي مغامراته في بغداد. رسمت لهم صورة عن الأسواق الكبيرة، وما تحويه المحلات، وكيف أن البنات يمشين سافرات في الشوارع وكأنهن حوريات. يا سبحان الله! أكثر من 60 سنة مرت على هذه الأحداث لكن بعضها ما زال عالقا في ذهني.ما زلت أذكر أول مرة نزلت فيها إلى السوق، وكيف بهرتني الأشياء المعروضة في الواجهات. بعضها لم أكن أعرف ما هو.
وقفت أمام محل يعرض الحلوى وأشياء أخرى. أقسم بالله، أن الذي استوقفني لم يكن البضائع المعروضة، وإنما كان وجها جميلا لفتاة في عمر الورود، تتحدث مع صاحب الحانوت، ربما كان يغازلها، لا أدري!.
كل ما أعرفه أنني وقفت في مكاني مبهورا بجمالها رغم العباءة التي كنت أرتديها والعمامة التي كنت أعتمرها. هذا «الشبح النجفي”لم يستطع مغادرة المكان. يا سبحان الخالق. إلى الآن صورتها ما زالت مطبوعة في ذاكرتي. وكذلك نظرة صاحب الحانوت الذي بدا وكأنه يقول لي: «ماذا تريد أيها المتطفل؟ اذهب بعيدا ودعنا وشأننا». ومع ذلك بقيت مكاني.
أنا المتطفل المعدم، تسمرت قدماي داخل الحانوت. حاولت شراء أي شيء مقابل بقائي، فما استطعت أن أدفع أكثر من ثمن صورتين صغيرتين لبعض الممثلات اللواتي كانت صورهن معروضة.

مفارقة طريفة
شيخ ذو لحية وعباءة وعمامة يشتري صورا لممثلات كن مشهورات في ذلك الزمن! والأكثر من ذلك، أنني حملت هذه الصور إلى النجف وكأنني اشتريت هدية كبيرة. كما أنني لم أنس أن أحدث أهل عشيرتي عن العربات التي تسير في شوارع بغداد، وكيف أنني دخلت دور الصحف واستقبلت استقبالا كبيرا. وكانت ليالي طويلة قضيتها وأنا لا أملّ الحديث عن بغداد. كما أعطتني تلك الرحلة شحنة من الاندفاع، وكبر غروري بنفسي.

أول سيارة
وعلى سيرة السيارات، لا أنسى أول سيارة رأيتها في النجف. كان ذلك أثناء دراستي في «المدرسة العثمانية”ربما كنت في العاشرة من عمري آنذاك، فقد خرجنا من الصفوف لاستقبال جاويد باشا وزير المالية في الدولة العثمانية. وطبعا لا يمكن أن تزور العراق أي شخصية مهمة ما لم تحضر إلى النجف، وتقوم بزيارة مرقد الإمام علي – رضي الله عنه – يومها حضر جاويد باشا في سيارة ضخمة ظلت حديث الناس لفترة طويلة. سيارة تمشي وحدها؟ كانت تعتبر ظاهرة فلكية لا تصدق. وكأنها المركبة الفضائية الأولى.
كيف كنت أنظم قصائدي؟ في أول عهدي كنت أنظم، أحيانا، في المقهى الأرستقراطي الهادئ. يومئذ، كان باستطاعتي أن أدون بعض الأبيات كي لا تهرب مني القصيدة.
ذلك المقهى كان صاحبه ذا مزاج خاص، إذ كان يحب الشعر والأدب. ولم يكن المقهى باب رزقه بل إقامة من أجل مزاجه. وقد زينه بأحلى وأفخر أنواع السجاد العجمي. إذ كان صاحب المقهى تاجر سجاد ميسور الحال.
وكيف كنت أنظم خارج المنزل؟ فقد كنت أكتب أول كلمة في كل بيت وقافيته. حتى عندما ألقي قصائدي في الأماكن العامة لا أستعين بها مكتوبة بل أدون بعض كلماتها على ورقة صغيرة أو علبة السجائر أو أي شيء آخر. المهم، أنني منذ أكثر من أربعين عاما لم أعد أستطيع النظم سوى في المنزل.. ووحدي.
فأنا أقفل الباب على نفسي وأبدأ بالنظم بصوت عال، فأثبت البيت الأول على الورق، وبعدها يصبح ذهني كالمسجل: ما إن أبدأ بالكتابة حتى تكر الكلمات وكأنها مسجلة في ذاكرتي. ونظمي القصائد تجربة تتم بالصدى والصوت والنغم.
وعندما كان أطفالي صغارا، ويأتي هيجان الشعر في داخلي، كانت زوجتي تعرف أنني تبدلت، وأصبحت إنسانا آخر. لذا تمنع الأولاد من الدخول إلى الغرفة التي أنا فيها.
وساعة جنوني الشعري لا أعي شيئا مما يدور حولي.
ومنذ فترة زارتني شقيقتي في براغ، مذكرة إياي بحادثة مر عليها أكثر من خمسين سنة. يومها جاءت تزورنا بعد غيبة طويلة. وطبعا سألت عني زوجتي، فقالت لها الأخيرة إنني في الغرفة المجاورة.
واتجهت شقيقتي نحو باب غرفتي وفتحته لتحيتي وإلقاء السلام علي، وإذا بي أدفعها إلى خارج الغرفة وأقفل دونها الباب. ووقفت المسكينة في الخارج مذهولة لفترة.
أما سبب دفعي لها فلكونها قطعت علي حبل أفكاري، وأنا أنغم إحدى قصائدي التي بدأت تولد في تلك اللحظات.
جرس الإنذار
ولحظة النظم يدق جرس الإنذار في المنزل. فكل من في البيت حذر، يتكلم بهدوء ويتصرف بروية كيلا يعكر عليّ صفو تسلسل أفكاري والسجائر أدخنها بلا حساب. تصبح الغرفة وكأنها مدخنة. والشعر بالنسبة إلي هو نوع من الجنون.
تتساءلين عن أولادي، وهل هناك بينهم من ينظم الشعر؟
حتى لو كان أحدهم ينظم شعرا فإنه لا يجرؤ على عرضه، إذ يخاف أن يشتم أو يقال عنه «أين شعره من شعر والده؟». وأحد أولادي (نجاح) يقول لي: «نكبتنا أننا أبناء الجواهري. فمهما فعلنا لا يمكن أن نكون بمستوى الوالد. اسمك يطغى على كل شيء. حتى في الجلسات الخاصة لا نستطيع الكلام في حضورك». ونجاح يردد دائما على مسمعي قوله: إنه «معجب بي كجواهري، أي كصديق أكثر مني كوالد» ويعتبر «الشعر الكلاسيكي من الصعب فهمه» وهو متأثر بآرائي في الحياة. إذ يعتبرني أصور التناقضات لا بل أجمع بينها.
أحيانا أتجاذب أطراف الحديث مع ابني نجاح لكونه قريبا مني ومقيما في براغ. فيقول: «أنت تحيرني، فمن جهة نجدك لطيفا رقيقا معنا، ومن جهة أخرى نراك متحررا من كل قيد ومن كل تقاليد المجتمع. لم نفهم معنى الجواهري إلا بعد ما تزوجنا فصرنا نحس بك أنك إنسان كبير ومختلف عن الآخرين رغم أنني – نجاح – لا أفهم معنى أشعار والدي حين أقرأها».
********

أنا محمد مهدي الجواهري، الجالس أمامك، ماذا فعلت بنفسي؟ كان يتملكني هوس صحافي الظاهر أن مرده كان إلى الشعر والأدب وكتابة الكلمة.والصحافة أعتبرها من الأغلاط الكبيرة التي بدلت مجرى حياتي. إذ كان لاسم الصحيفة رنة تختلف عن كل شيء.
ماذا أريد؟ الصحافة. وتناسيت أنني عند الملك فيصل الأول، وأنه لا يمكن الخروج من باب التشريفات إلا إلى مرتبة نائب أو وزير أو وكيل وزارة.
وكلمة الملك فيصل الأول ما زالت ترن في أذني حتى الآن. فيوم تم تعييني (1927) قال لي: «ابني محمد، هذه الوظيفة هي جسر تعبر عليه إلى أعلى المراكز». حتى (الحمار) يفهم معنى ذلك.
قرأت منذ أيام، في إحدى مفكراتي القديمة، هذه العبارات التي خاطبني بها الملك فيصل الأول: «أنت، غدا، ستكون شاعر العراق». وللحقيقة والتاريخ لقد تحمل مني الملك فيصل ما لم يتحمله أحد غيره.
مشكلات مع الشعر
مشاكل كثيرة عانى منها الملك بسبب أشعاري. ومع ذلك كان يتحملني. فهناك قصائد لي أقامت الدنيا ولم تقعدها، أولاها كانت يوم نظمي قصيدة أنتقد فيها العلماء، علما بأن عائلتي تنتمي إلى هذه الفئة. فقد انتقدت فيهم الأنانية والبورجوازية التي تتحكم بهم وبالحاشية السيئة التي تحيطهم، متناسين الفقراء المساكين الذين يقضون جوعًا.
ورغم أنني كنت في مركز حساس ويجب أن أفكر في كل ما أكتبه لئلا أتخطى حدودي، فقد ضربت بكل هذه المقاييس عرض الحائط، ونظمت ما نظمت. وبدأت الاحتجاجات تصل إلى الملك فيصل الأول: «هذا الذي ينتقد العلماء، يعمل في حماك».
وللحقيقة والتاريخ. كنت متوقعا ذلك. وفي اليوم الثاني ناداني الملك قائلا: «ما هذه القصيدة التي نشرتها قبل أيام؟ هل فكرت بإحراجي قبل نشرها؟». فأجبته: العفو سيدي.. لا بد أنني أحرجتك. قال: «أتعلم أن مئات البرقيات والرسائل وصلتني احتجاجا عليك؟”فقلت له: نعم. كنت متوقعا ذلك. لكن، هكذا كان يجب أن أقول. وللحقيقة، لا أريد إحراجك أكثر. قال: «ما معنى ذلك؟». قلت: معنى ذلك..
وفهم الملك قصدي، فأجابني: «لا يا بني.. ليس إلى هذا الحد. عد إلى عملك».
وكانت هناك قصائد أخرى سببت له الإحراج. مثلا قصائدي الغزلية التي لم يسبق لها سابق في الأدب المكشوف. وهذا شيء غير مقبول، ليس في العراق وحده بل في الوطن العربي كله. بعضها لا ينشر اليوم، فكيف قبل نصف قرن تنظم وتنشر؟ تنشر أيام كانت العادات والتقاليد العشائرية سائدة.
يومها أثيرت الضجة حول قصيدة "جربيني" التي نشرت في جريدة "العراق"(1927).
لم أكن آنذاك مغفلا، أو متناسيا مركزي في الديوان الملكي. بل كنت متأكدا مما ستجره علي تلك القصيدة من مصائب. لكن الذي شجعني على نشرها هو رئيس الديوان الملكي رستم حيدر. إذ حضر في أحد الأيام وسألني عن جديدي في النظم فقلت. لا شيء. فأجاب: «لا أعتقد ذلك». عندها، قلت له: رستم بك عندي جديد. لكني أتهيب مقامك. فكان رده: «لا مقامات في الشعر.. اقرأ». وقرأت له نحو خمسة أبيات من «جربيني”فأعجب برقتها وبلاغتها. ونشرت القصيدة، وفي ذهني أنها ستثير ضجة. حتى الجرائد، كان بعضها مؤيدا وبعضها الآخر معارضا. ووصلت أصداء الحكاية إلى الديوان الملكي.
ومثلت في حضرة الملك فيصل الأول وأنا متأكد مما يريده مني. قال: «مرحبا.. أنشرت قصيدة جديدة في الصحف؟». ولحسن الحظ أن «جربيني”نشرت باسم مستعار هو «ابن سهل”إذ كنت يومها أنشر تحت هذا الاسم واسم آخر هو «طرفة».
وكان جوابي على الملك التالي: سيدي. لو سألني إنسان آخر لقلت لا. فالقصيدة منشورة باسم مستعار. أما أنت، فلا أستطيع إلا أن أصدقك الحقيقة.
كانت القصيدة أمامه. نظر إليها ثم التفت إلي وقال: «إنها رائعة. لكن أتعلم لماذا ناديتك؟ أخي الملك علي اتصل بي هاتفيا وقال: أتعلم ماذا فعل (ابنك محمد اليوم؟) فكل ما أطلبه منك الآن، هو الذهاب إليه والاعتذار منه».
وفي المساء اتجهت نحو قصر الملك علي، فاستقبلني هو مع مفتي بغداد يوسف العبد. تصوري موقفي وقصيدة «جربيني”بين الملك علي المتدين ورجل الدين مفتي بغداد.
التفت إلي الملك علي وقال: «الحمد لله أننا رأيناك». وكان ردي أنني أقدر ظروفه لذا لا أحب إزعاجه. قال: «وما الذي أتى بك الآن؟». قلت: جئت طالبًا الاعتذار منك رغم أنني بريء يا سيدي.. وكل ما كتبته لا يتعدى الكلام.. كلام شعراء، لا أكثر ولا أقل. وأنا ينطبق علي المثل الشائع: «عفة النفس وفسق الألسن». عندها قال لي: «الحقيقة أنني لست راضيا عنك. أنسيت أنك ابن الشيخ صاحب الجواهر؟ ابن المرجع الأعلى في الدين ينظم أمثال هذه القصائد؟». ودار حوار بيني وبينه قال في نهايته: «عذرتك على ألا تعود إلى ذلك ثانية». فقلت سمعًا وطاعة. لكن ما إن تخطيت العتبة حتى قلت في سري. سأعود وأعود وأعود إلى ذلك. وبالفعل كتبت عدة قصائد من المستوى نفسه. مثل «انيتا» و«أفروديت»، واكتمل النصاب عندما نظمت «النزغة!.. أو ليلة من ليالي الشباب”ومعناها الخروج عن المألوف.
هل تصدقين أن هذه القصائد نشرت منذ نصف قرن؟ علما بأن بعضها لا ينشر حتى في أواخر القرن العشرين.
بعد كل هذه القصائد، حضرت نفسي للرحيل في أي لحظة. والملك لم يسألني على الإطلاق عن هذه القصائد، رغم أنني تخطيت كل البروتوكولات. وبكل براءة وطفولة، تقدمت بطلب ترخيص جريدة من وزارة الداخلية، دون استئذان الملك فيصل الأول متناسيا أنني أعمل في الديوان الملكي.

إصدار صحيفة
بعد فترة، حضر وزير الداخلية إلى الديوان الملكي لمقابلة الملك. وما إن اقترب مني حتى قال لي: «كيف تطلب ترخيص جريدة وأنت ما زلت موظفا في الديوان الملكي؟ ألا تعرف أن امتياز صحيفة لا يعطى إلا لشخص مستقل ولا يعمل في أي دائرة رسمية؟» عندها قررت الاستقالة.
ودخلت على الملك أستأذنه بذلك. وقال لي بلهجة بدوية صرفة: «صديقك ما يقولك بهذا» أي أن صديقك الصدوق لا ينصحك بذلك. ثم تابع حديثة قائلا: «ابني محمد، أتترك الديوان إلى الصحافة؟ نوري السعيد نصحك بذلك؟». قلت: لا سيدي.
وكان الملك قد أدرك أن هذا الواقف أمامه، محمد مهدي الجواهري، لا يمكن بقاؤه في هذا المكان مع كل ما يملك من إمكانيات أدبية وشعرية. وعرف أن مستقبلي يجب أن يبنى خارج التشريفات.
ثم تابع الملك حواره معي فقال: «هناك أول بعثة عراقية سترسل قريبا إلى باريس. فلماذا لا تكون أنت في عدادها. ومعلوم لديك أن باريس هي عالم الأدب والفن. وأنت شاعر لك مستقبل. وستتقاضى راتبا أثناء سفرك في البعثة. كما أن راتبك هنا لن ينقطع وسيبقى للعائلة. اسمع نصيحتي. ولدى عودتك ستجد أن الصحافة ما زالت موجودة في انتظارك».
ومن باب الخجل قلت له أن يمهلني فترة للتفكير. لكن في اليوم الثاني قدمت استقالتي لرئيس الديوان الملكي صفوت باشا العوى. وبقيت استقالتي معلقة مدة طويلة قبل أن تقبل.
اليوم، عرفت فداحة غلطتي. أنا شاعر «جربيني”و«النزغة”و«أفروديت» أرفض الذهاب إلى باريس رغم أن مكاني الطبيعي كان يجب أن يكون هناك. وحتى الآن، أحسد كل من يتكلم الفرنسية، هذه اللغة الناعمة الغنية في عالم الأدب والشعر، وعندي هوس فيها. وقد قرأت كتبًا فرنسية كثيرة، ولكن للأسف لا أستطيع التحدث بها.
خلاصة الموضوع، أنه بعد الاستقالة حصلت على ترخيص الجريدة وكان اسمها «الفرات”في نفس الأسبوع الذي ولد فيه ابني البكر فرات. وتاريخ أول عدد كان الثامن من مايو (أيار) 1930.
صحيح أن فترة صدورها لم تطل أكثر من شهر، لكنها كانت تعتبر وثائق تاريخية. إذ كان يكتب فيها جعفر باشا العسكري أحد رؤساء الوزارة السابقين في العراق ردا على مزاحم الباججي. والأخير أيضا رئيس وزراء سابق، وهو حي حتى الآن ويعيش في سويسرا.
أما عدم استمرار «الفرات”فكان لأسباب يطول شرحها. وباختصار: فمع صدور الجريدة كانت المرة الأولى التي يتولى فيها رئاسة الوزارة نوري السعيد. وبالطبع كان لكل زعيم أشخاص يؤيدونه من طليعة الشباب المثقف. مثلا ياسين الهاشمي كان له جماعة من التقدميين يحتضنهم. وكذلك نوري السعيد. وقد نظمت له قصيدة تحت اسم «لتكن حازمة.. إنها وزارة المفاوضات”ولم يكن القصد منها مدح نوري السعيد، إنما حثه على العمل من أجل وطننا العراق.
وكان نوري السعيد مقربًا من الملك فيصل كثيرا. وما إن صدرت جريدتي حتى تبناها. لكن الجمهور اعتبرها جريدة الملك لكوني كنت في الديوان الملكي وباعتبار أن نوري السعيد يعد الرجل الأول بالنسبة إلى الملك فيصل الأول. ولعله كان كاتم أسرار الملك.

جريدة «الأفندي»
أثناء تلك الفترة، كانت هناك جريدة «الأفندي» ممسوخة، هزلية ووظيفتها شتم الناس بطريقة مبتذلة وغير لائقة، فاعتبرت جريدتي حجر عثرة في طريقها. وللأمانة والتاريخ أقول إن أصحابها كانوا من بقايا عصابة ساطع الحصري في ذلك الوقت. وكانت كلما صدرت «الأفندي» وجدت فيها بعض الانتقادات الموجهة ضدي وموقعة باسم «حبزبوز”إلى أن طفح الكيل ولم أعد أحتمل، فكتبت مقالا ضد ساطع الحصري وعصابته لم أترك فيه سترا مغطى، فسبب كارثة رهيبة. وحتى الآن أعتبر المقال أحد أخطائي الرهيبة، إذ كان باستطاعتي يومها جعل نوري السعيد يمنع صدور «الأفندي» لكني فضلت الإجابة عبر «الفرات».
وقامت الدنيا ولم تقعد، واستغلت المقالة ضدي. وبدل أن أصطاد تلك العصابة اصطادتني، إذ بدأت الجرائد الموجودة تكيل إلي التهم يوميا.
وفي اليوم الثاني لنشري المقال، صدر قرار من مجمع الوزراء بإقفال جريدتي لأجل غير مسمى. إنه أحد أخطائي. يومها كتبت بلا حساب مقالا بعنوان «يا وزارة المعارف.. يا وزارة الحبابزة والقزامزة». وصحوت بعدما انقلبت الدنيا كلها ضدي.
بعد هذه الضجة التي أثارتها مقالتي، ذهبت إلى الملك فيصل الأول لأشكو له هذه الحملات التي تدار ضدي، وما إن رآني حتى استقبلني قائلا: «ابني محمد!.. ماذا تريد؟”أجبته: لا شيء سوى حكمك العادل. عندها التفت إلي، فأحسست الشماتة في عينيه.
ورغم كل محاسن الملك، كان يحقد كالبعير. قال: «أتتذكر الماضي، وماذا قلت لك؟ اليوم، المحكمة هي الفصل في قضيتك».
أما نوري السعيد، فقد كانت تركيبته من نوع آخر. إذ حاول أن يفعل شيئا من أجلي لكنه لم يستطع.وحاولت أن أجرب حظي مع رستم حيدر رئيس الديوان الملكي. وقد كان يصدقني القول ومعجبا بي كشاعر. فاستقبلني بالترحاب ثم بادرني قائلا: «أنت تعرف هؤلاء الأشخاص (يقصد الملك) وكيف يتعاملون. وأن لديهم قوائم سوداء. فإذا استطعت الخلاص من هذه الورطة خلال ثلاث سنوات، فأنت الرابح».وهكذا كان، بقيت ثلاث سنوات لا أستطيع حتى التنفس، بعدها عينت في نفس وظيفتي الأولى، أي عدت إلى التدريس في المدارس الابتدائية.
هكذا نفذ في حكم الانتقام. فقد قال الملك فيصل الأول: «ليعد إلى وظيفته الأساسية”أي مدرس ابتدائي. وكنت مجبرا على العودة، بعد تعطيل ثلاث سنوات، من أجل لقمة الأولاد.

من مذكرات الاستاذ الجواهري التي نشرتها الصحفية هدى المر في مجلة المجلة اللندنية سنة 1982