طرائف ونوادر من الحياة الخاصة للاب انستاس الكرملي..هل كان الكرملي بخيلا؟ الكرملي يشتري مطبعة لمجلته.

طرائف ونوادر من الحياة الخاصة للاب انستاس الكرملي..هل كان الكرملي بخيلا؟ الكرملي يشتري مطبعة لمجلته.

عبد الكريم الفرج
وصف عدد من المؤرخين والباحثين الملامح الشخصية للكرملي فقد قال عنه نجدت فتحي صفوة ما يأتي:”رجل مهذب الطلعة، أسمر اللون، ذا لحية وقورة طغى مبيضها على سوادها، أصلع الرأس، واسع الجبهة، ضخم الهامة واليدين، له عينان هادئتان فيها بريق، وجهه واضح القسمات، وكان على الرغم من مركزه وعمره في حركة دائبة ونشاطٍ عجيب".

فيما ذكر لنا كوركيس عواد ما نصه:"كان الأب الكرملي طيب القلب، لطيف المعشر، نقي السريرة، متواضعاً، عاطفياً، ساذجاً في حياته، يضحك للنكتة من أعماق قلبه، ويعجب بالفكرة الجيدة، ويصغي لكل متحدث صغيراً كان أم كبيراً بنفس الاهتمام... لم يكن للمظاهر الخلابة مكاناً عنده، فلم يكن يحفل بكثير من الأمور التي يوليها العامة شطراً كبيراً من اهتمامهم، لقد كان راهباً كاملاً جمع بين فضيلتي التقوى والعلم".
أكثر من ذلك، فقد تتبع جورج جبوري المنهاج اليومي للكرملي بكل دقة وجاء ما نصه:"إنه كان ينهض من فراشه في الساعة الرابعة فجراً كل يوم ويدخل الكنيسة للصلاة وتقديم (الذبيحة الإلهية). ثم يدخل صومعته ليقرأ الصحف المحلية والأجنبية حتى الساعة السابعة صباحاً، ومن ثم يتناول طعام الفطور وبعد استراحة وجيزة يبدأ عمله المتواصل حتى سماعه صوت جرس الكنيسة مؤذناً وقت الظهر فيترك عمله ليجلس أمام الرهبان على مائدة الطعام ليتناول معهم طعام الغداء فيبقى عليها ساعة من الزمان يجول بين أوانيها ويصول كالأسد الجائع، ناسفاً كل ما عليها، حتى أنه في أكثر الأحيان كانت تخصص له”دجاجتان”واحدة يأكلها ظهراً والأخرى للعشاء، ويعقبها كمية لا بأس بها من الفواكه، ثم ينتهي مع المنتهين ليجتمع بهم في قاعة الاستراحة مدة ساعة يكون لحديثه ونكاته ونوادره خلالها حصة الأسد. وهكذا يعود بعدها للعمل حتى الساعة السابعة مساءً، وكثيراً ما أعتاد أن يجعل له وقت المساء فترة استراحة للمسير.. وكان يتناول في الساعة السابعة مع الرهبان أيضاً ثم يواصل بعده عمله حتى التاسعة أو العاشرة ثم ينام، وكان معدل عمله في اليوم ست عشرة ساعة".
كان رجلاً زاهداً مترفعاً عن كل وظائف الدولة ومناصبها لأنه كان يعدها عرضاً زائلاً، وهو أمرٌ له معانيه الفكرية قبل كل شيء، فالمفكر عليه أن يكون دوماً زاهداً كونه من صفوة المجتمع خصوصاً إذا كان الفكر من طينة الكرملي الذي كان”متسماً بأخلاق العلماء في البحث، لا يستكبر من سؤال علماء عصره أو أن يكتب إليهم يسألهم عن مسألة ما، ولم يتخلَّ عن ذلك على الرغم من شهرته وعلو شأنه، وكان يأخذ بيد الناشئة من المتأدبين والكتاب ويشجعهم ويوليهم شيئاً كثيراً من عطفه وعلمه، والعلم الذي هو نور الله في العقول زاده سمواً في النفس ورقة في الطبع، وجلالاً في السيرة، وكان صادقاً من أجل العلم ويهاجر في طلبه.
كل هذه الخصال الحميدة، جعلته وادع النفس، حلو المعشر، لطيف الإشارة، كثير التندر، لم يطق رؤية غلط في مقالة أو كتاب ما، وحتى لوحة إعلانات.

كان دؤوباً على المطالعة والتأليف، يندر أن يخلو كتاب أو جريدة يومية قرأها دون أن نجد عليها تعليقه، وكان الرسم الذي يجري عليه في المطالعة كلما قرأ عبارة بليغة نالت إعجابه، أو لفظاً فصيحاً استصوبه، وضع تحته خطاً أحمر. وإذا وجد غلطة لغوية أو نحوية، أو عبارة مغلوطة، أو ليس من العربية -وما كان أكثر ما كان يجد ذلك- وضع تحتها خطاً أزرق، وقد ذكر نجدت فتحي صفوت ما نصه:"إنه وصله في أحد الأيام صك على أحد المصارف، وفيه عبارة:"أدفعوا لأمر فلان.. أو لحامله مبلغ ثلاثون ديناراً الخ”فما كان منه إلا أن أخرج قلمه من جيب ردائه بغير شعور منه، ووضع تحت العدد (المرفوع) خطاً أزرق، ولما أخذ الصك إلى البنك تردد الموظف في صرف صك تغطيه مثل هذه الخطوط الزرقاء، وسأله عن المقصود بها"! فأجابه بما يقنعه. وقد سأل لماذا يشير إلى الغلط بالأزرق وقد أصطلح الناس على الإشارة إليه بالأحمر، فقال:"إن العرب تستحسن اللون الأحمر، ولا تقرنه بالقبح ولا بالسوء، فتراهم يعشقون حمرة الورد، ويتغزلون بحمرة الخد، ويلبسون الملابس الحمراء في الأفراح والأعياد، ولذلك فالأجدر أن يتخذ اللون الأحمر علاقة للإعجاب والاستحسان. أما الأزرق فهو اللون الذميم لدى العرب، فهم يقولون”البلاء الأزرق”وهو أيضاً لون عيون الأفرنج الذين حاربوهم وكانوا أعداء لهم طيلة حياتهم، فالأنسب أن يشار إلى الأخطاء به".
ومما يؤخذ على الكرملي أنه كان شديد التعصب للغة العربية حتى بلغ به القول:"إن لسان العرب فوق كل لسان، ولا تدانيها لسان آخر من ألسنة العالم جمالاً ولا تركيباً ولا أصولاً ولا... ولا..."، وكان عليه أن يتذكر دوماً ما قاله الله سبحانه وتعالى عندما ذكر في كتابه،”وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وعملاً بذلك فقد كرم الرسول (صلى الله عليه وسلم) رجالاً كانوا يتكلمون لغات غير اللغة العربية، مثل ما حصل عند سليمان الفارسي الذي أكرمه الرسول بقوله البليغ”سلمان منا آل البيت".
فيما ذكر لنا مصطفى جواد ما نصه:"كان الكرملي محباً للحق صريحاً به ولو أدته الصراحة إلى ضرر نفسه أو إغضاب أصدقائه، وكانت صراحته مشوبة أحياناً بالحدة والشدة ثقة منه بصدق قوله". كان صريحاً في القول والفعل، لا يرائي ولا يداهن، قد قرن بالصراحة سذاجة الزاهد الذي لم يتمرس بكفاح الحياة، يأنس إلى العمل المرهق المتواصل، ويكب على التدقيق والبحث، الأيام والشهور في التنقيب عن كلمة أستدق معناها أو خفي أصلها. عرف صلباً شديداً لا يخشى في ما يعتقد الصواب لومة لائم، كان يقسو أحياناً على خصومه ويسرف في تقريعهم، لقد كان يحاسب نفسه حساباً عسيراً قبل أن يحاسب سواه.

على الرغم مما تمتع به من مزايا حسنة لم يسلم في بعض كتاباته وردوده من الاندفاع وراء العاطفة، وقد يبتعد عن المنهجية العلمية أحياناً فينتهي به الأمر إلى المخاشنة، كما أخذ عليه بعضهم عنفه في الجدل والنقاش العلمي والخروج عن حدود المناظرة، هذه الصفة لازمته طوال حياته لم يستطع التخلص منها. وكان شديد الانفعال والتوتر عند سماعه الخطأ، أو قراءته له، يرفض ذلك ويوبخ المخطئ توبيخاً مشيناً وهذه الصفة كثيراً ما جعلته ينزلق في مشاكل مع معاصريه الذين يدانونه في منزلته العلمية، وهو أمر طبيعي، فللحياة قوسيها وللبشر طباعهم.
حدثني جلال الحنفي البغدادي قائلاً:"إن الحياة الداخلية للكرملي ذات طابع متميز ولون خاص على الباحث الالتفاف إلى مظاهرها والتأمل في دواعيها والتفسير الصحيح لمدلولاتها، فقد كان –رحمه الله- بخلاف أقرانه من الرهبان ذا جسم قوي لا تحتاج إليه مهامه، وهو في قوة جسمه يحاكي مصارعاً من المصارعين لا رجلاً أنقطع لخدمة اللغة والبحث والتاريخ".
في السياق نفسه قال عبد القادر البراك :"حدثني الشاعر المخضرم عبد الرحمن البناء بأن المرحوم انستاس الكرملي كان يزاول ضرباً من الرياضة البدنية لا يقوى على ممارستها غير”البهلوان”وإلى ما حدثني به الصديق أرجعت قوة قابلية الكرملي إلى التهام الأكل بشراهة ونهم يضرب بها الأمثال".
ومن عادته، إنه كان يجيب على كل رسالة ترد إليه مهما كان المصدر المرسل له، وكان يرد على هذه الرسائل بأوراق معدة للإعلانات اليدوية عن كتبه وآثاره، ويعزو روفائيل بطي هذه الإجابات إلى بخل الكرملي، إلا إن مصطفى جواد يقول: إن ذلك من باب حرصه على رد سائليه بأقرب وقت. وممكن اعتبار الإثنين على صواب ولأنه اراد بذلك كما يقول المثل الشعبي (ضرب عصفورين بحجر) أي اراد ان يطلع سائليه على آخر ما صدر من كتبه وآثاره وأيضاً الرد بأقرب وقت ممكن.. وكذلك لندرة الورق في ذلك الحين.

عائلة انستاس فهي تنحدر من أسرة عربية ترجع بأصلها إلى قبيلة بني مراد العربية التي اشتهرت أخبارها في الجاهلية، وقد ذكر ذلك في أكثر من موضع ونورد هنا ما ذكره الكرملي في رسالة بعث بها إلى وزير خارجية اليمن إذ قال:"أما سبب حبي لليمن واليمانيين فهو إن أصلنا من مراد وقد لجأ جدنا الأكبر في صدر الإسلام إلى جبل لبنان فأقام فيه فأنسل وتناسل أولاده...ثم جاء والدي الى بغداد سنة 1845م، فأقام فيها وتزوج.. وهكذا يرى من عشائرنا و قبيلتنا في كثير من ديار الله حتى أوروبا وأمريكا وأفريقيا".
يروي الدكتور مصطفى جواد بأن الأب انستاس ذكر له ذات مرة”إني أحب أهل اليمن من العرب خاصة، لأن أصلي القديم من تلك الديار ولأن الإنسان بطبيعته يميل إلى أرومته".
ويورد إبراهيم الدروبي رواية أخرى جاء فيها: إن أصل أسرة الأب انستاس الكرملي في إيطاليا فنزحوا منها إلى لبنان واستوطنوا هناك مدة طويل ثم هاجروا إلى بغداد.. أما الأب انستاس فقد ولد في بغداد وتوفي فيها....
من الجدير بالذكر أن الدروبي لازم الأب واستنسخ له الكثير من الكتب والرسائل علماً أن هناك إشارة إلى ذلك في رسالة بين الدكتور نابليون وشقيقه الأب انستاس،إلا إنـــــــــــــــــه
ذكر فيها عن أسرته ليس لها علاقة بآل عواد إذ قال:"لو قام المرحوم والدنا من القبر وأعترف إنه من تلك العائلة (يقصد آل عواد) فلا أصدقه، لا بل أقنعه عكس ذلك.. فنحن لم نرَ المسيح بأعيننا لكن البراهين والبيانات تقنع الحجر الأصم".
ومثلما أشار نابليون إلى أصل أسرته الإيطالي، فإنه ذكر أيضاً أن أخواله يرجعون إلى أصل إيطالي، وأن جده لأمه سكن استانبول، ثم هجرها إلى بغداد وهو في سن السابعة.
ويؤكد عواد منصور، هو أبن عم الكرملي:"أن الدكتور نابليون تجنس بالجنسية الإيطالية، وروج إلى مسألة نسب أسرته الإيطالي، ذاك لكي يعفى من الضرائب، ومن الخدمة العسكرية، كما إن تجنسه يجعله في حماية القنصل الإيطالي"، وهو اعتراف قريب من الواقع إذا علمنا أن نابليون نفسه كان متذمراً من حكم العثمانيين، وتعسفهم واضطهادهم.
وفي السياق نفسه أشارت مصادر أخرى إلى نسب أسرة الأب انستاس، حيث يرجع إلى قبيلة بني مراد العربية، التي نزحت من جنوب الجزيرة العربية من اليمن، واستوطنت في لبنان، قرية بحر صاف، وأشتهر من بيوت هذه القبيلة بيت آل عواد.
كان الكرملي يؤكد ذلك ويفاخر به على الدوام عندما كان يردد:”إنني أغرمت بهذا اللسان الكريم منذ نعومة أظفاري، وكثيراً ما تمنيت أن أخدم هذه اللغة وأصحابها خدمة تنفعهم النفع الجم، وبذلت مهجتي في هذا السبيل، فأكتفيت من تلك الخدمة بحسن النية والإخلاص لا غير وهو ما يفرضه عليَّ حب وطني وقومي ولساني، فقمت بالواجب المحتوم عليَّ بقدر طاقتي".
الكرملي ومطبعة الأيتام للآباء الكرمليين في بغداد :
ذكر الأب الكرملي انه اشترى هذه المطبعة في منتصف عام 1921 عند سفره الى اوربا لهذا الغرض. غير انه لم يحصل على اجازة بتأسيس المطبعة الا في عام 1926، بسبب الأجراءات التي كانت تفرضها الحكومة العراقية آنذاك على تأسيس المطابع. سميت هذه المطبعة باسم (مطبعة الأيتام للآباء الكرمليين المرسلين في بغداد).
كانت مطبعة الأيتام تحت اشراف الأب انستاس، عمل فيها عدد من العمال الذين اوكلت اليهم مهمة ادارة شؤون المطبعة مقابل اجور يومية. قد طبعت هذه المطبعة اعداد مجلة”لغة العرب”بعد استئناف صدورها عام 1926، كما كانت تطبع فيها الكتب والمنشورات الأُخر الصادرة عن دير الآباء الكرمليين. مما ينبغي ذكره ان البلاط الملكي طبع في هذه المطبعة عدداً من الكتب والمنشورات التي تخص البلاط مقابل اجور دفعت الى ادارتها.

اتهمت مطبعة الأيتام للآباء الكرمليين بعدم الألتزام بقانون المطابع، ففي 11 آب 1926 تلقت ادارة المطبعة كتاباً من مديرية المطبوعات طلب منها الألتزام بالقانون المذكور، وارسال نسختين من كل مطبوع الى وزارة الداخلية.على ما يبدو ان ادارة المطبعة لم تلتزم بالتعليمات الصادرة من المديرية المذكورة مما دفع بهذه المديرية الى توجيه انذار اليها بالأغلاق، في حالة عدم ارسال نسختين من كل مطبوع من مطبوعاتها الى وزارة المعارف ومتصرفية لواء بغداد فضلاً عن النسخ المطلوب ارسالها الى وزارة الداخلية. تحولت مطبعة الأيتام الى مطبعة تجارية بعد توقف مجلة”لغة العرب”عن الصدور، واصبح ابراهيم حمدي، الذي عمل فيها منضداً في السابق، مديراً للمطبعة.
بررت ادارة المجلة لجوءها الى طبع المجلة في عدة مطابع، لا سيما في المدة الواقعة بين سنة 1911-1914، بأن مطابع بغداد في تلك الحقبة لم تكن بمستوى فني جيد، وان حروفها تركية النمط ولا تقبل الحركات عليها، مما استوجب البحث عن مطبعة، تطبع فيها المجلة بصورة جيدة، وهو الأمر الذي اشارت اليه المجلة ما نصه :
(طالما تبرّم وسئم كل من طالع الصحف والمجلات التي لاتزال تطبع في مطابع بغداد لما ان جميع حروفها تركية النمط ولا تقبل شيئاً من الحركات في بعض المواضيــــع اللازم اشـكالها
وياءاتها غير منقطة وحين وقوعها في آخر الكلم لا تمتاز عن الألف المقصورة، وحجمها متعب للأنظار وطرازها لايقابل جمال الحروف العربية الحديثة واما الأغلاط المطبعية الفاشية في جميع منشوراتها فحدث عنها ولا حرج...)