«الأبيض كان أسود» لناجح المعموري.. بلاغة الصورة البصرية وحرفيات الاختيار

«الأبيض كان أسود» لناجح المعموري.. بلاغة الصورة البصرية وحرفيات الاختيار

عبد الأمير خليل مراد
ناجح المعموري باحث وناقد عودنا على الاختلاف والمغايرة في دراسته للأساطير والحفر في الديانات والملاحم القديمة، بالإضافة الى قراءاته النقدية المتعددة للفنون الإبداعية الاخرى، كالقصة القصيرة والرواية والشعر، وجدليات الفكر الاجتماعي، وقد اصدر في هذه الموضوعات مؤلفات عدة، وهي مؤلفات -على تنوعها وغزارتها- تتيح للقارئ اكتشاف مساحات غنية بالآراء والأفكار الجديدة،

كإصداراته (موسى وأساطير الشرق) و (الأسطورة والتوراة) و (أقنعة التوراة) و (تأويل النص التوراتي) و(تقشير النص) و (الاطراس الأسطورية في الشعر الحديث) و (ملحمة كلكامش والتوراة)، وغيرها.
وفي كتابه (الأسود كان ابيض، دراسات في الفوتوغرافيا) الصادر عن دار تموز حديثا، يلج الباحث منطقة جديدة في الكتابة، منطقة لم يهتد الى متونها المشتغلون في ميدان النقد ورصد الإبداع الفني، لكونها منطقة - كما يظن بعضهم - لم تأت إلا على هامش الفنون، غير أن الأستاذ المعموري استطاع أن يمنحنا، أو يؤسس تصورات جمالية لقراءة الصورة البصرية، فالفوتوغراف بوصفه معطى إبداعيا وإنسانيا يعيد تركيب حياتنا من خلال اللقطة (الاختيار، العين، اليد) الرسام الفرنسي أوجين دلاكروا يقول : (إن العبقرية الفنية في مضمار التصوير هي موهبة الاختيار مع القدرة على التعميم)، ومن هنا تصبح الصورة الفوتوغرافية تاريخا يحاول أن يحجز الزمن، والإمساك بلحظاته الهاربة عبر الخطوط السود، أو المنحنيات البيض، فصورتنا اليوم ليست كصورتنا غدا بعد أن تترك حوافر الزمن أخاديدها المتغضنة على قسماتنا، وترى سوزان سونتاج (أننا حينما نشرع في عملية التصوير الفوتوغرافي، فإننا نأسر الشيء الذي نقوم بتصويره، يعني هذا أن المرء يضع نفسه في علاقة يقينية مع العالم الذي يبدو شبيها بالمعرفة).
الكتاب يحتوي خمسة مباحث استغرق فيها المؤلف تجارب ثلاثة فوتوغرافيين استقامت لهم الكاميرا- رغم اختلاف منطلقاتهم ورؤاهم - على تلمس أوجاعنا ومعاناتنا، ومعاينة واقعنا المتخم بالقنوط، وهم فؤاد شاكر وكفاح الأمين وناصر عساف، كما انه أهدى في عتبة افتتاح الكتاب هذه الدراسات الى روح الفوتوغرافي الراحل علي طالب اعترافا بمنجزه في فن التصوير.
ففي المبحث الأول (كل صورة تتذكر عاشقا اسمه فؤاد شاكر)، تناول الباحث عدة منطلقات في فوتوغراف فؤاد شاكر، حيث أشار الى موضوعة الطفولة بوصفها رسالة كاشفة عن البؤس الاجتماعي الذي تعيشه الطفولة في بلدنا، إذ نرى في صوره الطفولة المشردة والأمكنة الآيلة للاندثار، صورة الإنسان العراقي، وهي موضوعة دالة على حيوية الإنسان ومقاومته للزوال، فهناك زمن جديد/ حاضر، بريء في مواجهة زمن قديم، هذا الزمن ترك وشمه على الأمكنة من خلال الهدم والتآكل.
كما بين قدرة الفوتوغرافي فؤاد شاكر في خلق رمزياته من خلال تناظر المكان وموجوداته مع الشيخوخة التي يرمز إليها بالأشجار العالية التي يميزها الارتفاع غير أن هذه الأشجار قد أصبحت جرداء لكونها تواجه عصف الزمن الطويل.
وهناك فوتوغرافيات أخرى توقفت عند الإنسان بوصفه لحظة مغيبة، حيث تحدثت صورته (جلسة مراجعة النفس) عن رجل كهل استراح وسط عربة الحمل التقليدية الواقفة جنب سيارة حديثة، وهو يريد بذلك أن يخلق نوعا من المفارقة ما بين الكهولة المهيئة للأفول، وحداثة التكنولوجيا المرموز لها بالسيارة الحديثة، وبالتالي فان هذه الصورة تمثل بؤرة التضاد والتناقض الاجتماعي بين الإنسان المكدود والآخر المشبع بالرفاهية.
وفي صوره (الكبار يحملون الصغار) و (خربشات على الجدار) و (شرفات عالية) و (صباحات شتائية) هناك وحدات سردية، كما يرى المؤلف، محكومة بوحدة ثنائية مرتبطة بتنوع الفوتوغرافيات عند فؤاد شاكر، وهو يحتفي في الكثير من صوره بالجسد (بانتظار الغائب) والموروث الشعبي (المسبحة) وهي تغطي مساحة واسعة من حياتنا في الأزقة البسيطة وشوارعنا الخلفية وغيرها.
وفي المبحث الثاني (الفنان كفاح الأمين الموجود مطرود عن وجوده) يدرس المعموري (بغداديات) الفوتوغرافي في كفاح الأمين، وهي عدة صور لبغداد التي لها امتداداتها، وحضورها في الوجدان الإنساني، غير أن هذه الصور تحاول أن تختزل بغداد في الموت والاندثار في (الأرض الخراب) واحدة من صور الأمين التي تومئ الى الأمكنة والفضاءات التي زحفت عليها الدمارات والحروب.
ويقرر الباحث أن معرفة كفاح الأمين بتفاصيل المحيط وتجوهرها ضمن المكان البغدادي، هو الذي اقترح عليه عنوان هذه الصورة، الذي اختاره الشاعر ت. س. إليوت لإحدى قصائده وهي تنبئ عن موت الحضارة وتخشب الآلة، فالأمين يختصر كل ما حصل في فضاءات بغداد مكتفيا ببلاغة الصورة، معبرا عن موت المكان، لكن ذاكرته ماثلة، وباقية، الأماكن حية بعد موتها ومروياتها هي حياتها.
كما يرى المؤلف أن الأمين استطاع أن يختلس اللحظة المناسبة في التقاط صورة (الأرض الخراب)، إذ كان الفضاء واسعا مشحونا بالفراغ والوحشة المضاءة بالضوء المنتشر وسط المكان، حيث كانت الشمس بقوتها التي أنارت المكان، وتقلص الظل الكاشف للخراب الكلي مع انتشار علامات دالة على الانهيار والدمار، فالمصور في هذه الحالة هو جزء من الصورة، وهو احد كائناتها ومفرداتها: الخفية أو المعلنة. يقول اندريه جيد (إني اقبل في سرور أن يكون لي وجود محدد إذا أمكن أن تكون الكائنات التي اخلقها واستخلصها من نفسي وجودا).
يرى الباحث أن (بغداديات) كفاح الأمين من الرقم واحد الى الرقم أربعة تمنحنا جمالية وشعرية طافحة على واجهات البيوت، وحتى المكان المهدم يحفز المخيال لاستعادة الكمال الغائب،وهو شكل من أشكال اللامعقول أو الأسطورة أو تصورات حلمية توفر لنا فرصة واسعة لمحاولة استعادة المكان الذي كان وما ينطوي عليه من هيبة.
وبين المعموري أن العين مركز الفن الفوتوغرافي، وهي التي ترى وتختار وتقرر وتنظم الزوايا وتقترح المكان المراقب الفاعل والمنظم. يقول البيركامو (إن المصورين العظماء هم أولئك الذين يوهموننا بان عملية التثبيت لم تتم إلا منذ برهة وجيزة، وكأن جهاز الإرسال لم يتوقف إلا منذ لحظة، ولعل هذا هو السبب إن الشخصيات التي يقدمها أمثال هؤلاء إنما تثير في نفوسنا - بفضل معجزة الفن - الشعور بأننا أمام مخلوقات ما زالت حية، وان كانت لم تعد خاضعة لحكم الفناء).
وفي المبحث الثالث (الوهم النيتشوي في فوتوغرافيا كفاح الأمين)، تناول المؤلف صور كفاح الأمين المنشورة ضمن مجموعته القصصية (لمن هذه الحرب)، وهي صور تتمظهر فيها آراء الفيلسوف نيتشه وإن لم يقل صراحه بموت الرب أو موت الإنسان،غير انه قال بهروب الكائن / الإنسان الذي لم يترك دليلا على انطلوجيته سوى نعليه. كما أن كفاح الأمين قد أكد على الوهم النيتشوي في صورته (رقم 4) لحقيقة ما. ويلاحظ أن النيتشوية حاضرة في فوتوغرافيات كفاح الأمين من خلال الوهم / التشبيح، أي إظهار الأشباح في قاعة مظلمة، بحيث يكون شرط ولادة الحقيقة.ويرى المؤلف أن الأمين يحاول اسطرة الصورة من خلال تصوراته الذهنية عن أوهام المكان ولفت الانتباه عبر المتغيرات الحاصلة في الفوتوغراف ووظيفة التقنية في إظهار الرجل داخل الصورة ممسكا مشرب النركيلة الشبحي ومحور رأسه، بينما الرجل الآخر مشطور الوجه؛ نصفه ظاهر وهو يحدق بعين واحدة كي يعبر عن اضطراب الشخصية وقلقها وتوزعها.
وفي المبحث الرابع (الفنان ناصر عساف..الهور يودع صباحه حزينا).يشير الباحث الى عناية ناصر عساف بتوثيق الحياة في الاهوار وتفاصيلها، بوصفه شاهدا على مأساة الجفاف ونضوب الماء الباعث للحياة، حيث يلتقط صورا للطفولة المتخمة بالبؤس والانكسار. الزوارق معطلة وساكنة فوق اليابسة، وفتحات الأكواخ عريضة تطل على تنور اسود الفوهة، والغياب كامل في هذه الصورة.
ويؤكد الباحث أن ناصر عساف مهتم بتسجيلاته الفوتوغرافية بالمكان الذي يقدمه فارغا يهيمن عليه سكون يطبع عليه الاندثار والتوقف والتعطل الاجتماعي. إن الصورة هي وثيقة قابعة في دواخلنا، تقول سوزان سونتاج (إن تراكم الصور يعني تراكم العالم، فالأفلام السينمائية وبرامج التلفاز التي تنير الحوائط، تومض ثم تذهب، ولكن الصور الفوتوغرافية تتمتع بالثبات. ومن ثم تظل أخيلتها موضوعا مدركا بالحواس).
كما يفصح المؤلف عن تميز فوتوغرافيات ناصر عساف باستغراق عالم الاهوار وما فيها من عوالم سحرية وفضاءات مفتوحة على المجهول : الماء، الضوء، الحركة، والسكون، وكل ما ينتمي الى هذه العوالم المليئة بالأسرار. ناصر عساف ينتمي الى هذه البيئة نفسها، بيئة الاهوار وعوالمها البريئة، حيث الصياد يرمي بشباكه الملتوية بطيرانها، وكأنه يقذف معها انتظارا وترقبا، وطفلته ترنو نحو المجهول.
وفي المبحث الخامس (غروب صباحات الاهوار)، يشير المعموري الى صور عساف التي توثق ما لحق بالاهوار من تدمير وعسف، حيث يتخذ الدكتاتور قرارا مجنونا بتجفيفها ومصادرة ما فيها من حيوية، وكأن هذا الجفاف هو سلم الموت النازل على هذه الحياة.
وهناك مقابر للزوارق وأكوام من الزبل والأكياس التي عافها ناسها، والزوارق فقدت هيبتها بعد أن تحولت ضفائر القصب الى أخاديد جامدة ؛ لان الماء مطرود ولا خصوبة في المكان. إن لقطات ناصر عساف كما يرى الأستاذ ناجح المعموري لقطات قصدية، وليست اعتباطية، وهي سجل إبادة جغرافية كاملة وتعطيل حياة وهي تمثل أو تعبر عن إدانة للواقع المزري التي تعيشه هذه الاهوار.
وأخيرا يمكن القول إن هذا الكتاب يفضي في أهدافه وموجهاته الى تقديم رؤى وأفكار عن جماليات الفوتغراف العراقي، والكشف عن أسلوبياته وبلاغته المائزة، وقدرته في قراءة ماضينا ورصد حاضرنا والتعبير عما يدور من حولنا من بؤس وشقاء. وهو - على ندرة المهتمين بفن الفوتوغراف - يعد كتابا رائدا ومهما في هذا الميدان.