طاهر الطناحي يقدم: غرام لطفي السيد

طاهر الطناحي يقدم: غرام لطفي السيد

كان يصطاف في لبنان وجلس يتمشى في فندق "بسول" ببيروت مع والده المرحوم "سيد باشا ابوعلي" وصديقه خليل سركيس، وكانت بالقرب منه فتاة لطيفة تجلس الى مائدة مجاورة، وهي تتحدث بالفرنسية حديثاً فصيحا مع قنصل فرنسا في مصر، وكانت تدافع عن المرأة الشرقية دفاعاً حارا. قويا، فسأل لطفي السيد صديقه: "من تكون هذه الفتاة المتحمسة للمرأة الشرقية؟". فأجابه: "انها ماري زيادة ابنة الصحافي المعروف الياس زيادة صاحب جريدة "المحروسة".

وكانت هذه "المحروسة" تصدر في مصر في ذلك الحين. وبعد أن انتهت "مي" من حديثها مع القنصل قدمها سركيس اليه.
كان ذلك منذ 51 سنة.. فقد حدث هذا اللقاء سنة 1911م. ولما رجع لطفي السيد من مصيفه، ورجعت الانسة "مي" اهدت اليه كتابها "ابتسامات ودموع". وهو رواية حب ترجمتها الى العربية عن اللغة الالمانية عنوانها : "غرام الماني". وكانت قد اصدرت باللغة الفرنسية كتابين قبلها. وكانت الفرنسية تغلب عليها، وتؤثر في اسلوبها العربي. وقد اخذت في ذلك الحين تنشر في جريدة والدها "المحروسة" مقالات بعنوان "يوميات فتاة"!
كان الاستاذ احمد لطفي السيد في ذلك الوقت في ربيع الحياة وعنفوان الشباب، وكانت الانسة "مي" في العشرين – او على الاصح – في الخامسة والعشرين، وكانت هذه الاديبة من ملاحة الطلعة، وخفة الروح، وسحر الحديث ما يجذب اليها النفوس، ولا سيما نفس الاديب، فاستهوت نفس اديبنا الكبير وشغلت قلبه وفكره، وأصبحت فتاة أدبه وكعبة رسائله العاطفية، وكانت مي تحترمه لعلمه وفضله، وتسر اليه بما تخفيه عن غيره من الاصدقاء والأقربين.
وقد امتدت هذه الصداقة بينهما طول حياة الانسة مي، ولكن السنواتالعشر الاولى – ما بين سنتي 1911 و 1921 – هي التي بلغت فيها هذه الصداقة، او هذا الحب الروحي العميق اعلى درجاته. فقد كتب فيها الاستاذ لطفي السيد الى فتاته النابغة عدة خطابات عاطفية تعتبر نموذجا ادبيا رفيعا من سائل العظماء في الحب!..
ولست أستطيع ان أدون هنا كل هذه الخطابات وحسبي ان اقدم للقراء مقتبسات من ثلاثة منها في هذا المقال:
الخطاب الاول:
في يوليو سنة 1913 سافر لطفي السيد الى الاسكندرية للاصطياف، وكان قبل سفره مثابرا على زيارتها كل اسبوع، وما كاد يمضي اسبوع واحد على فراقه لها في القاهرة حتى أشتاق الى رؤيتها، فبعث اليها بهذه الرسالة في 15 يوليو من هذا العام يقول فيها:
"سيدتي..
مضى اسبوع كامل من يوم كنت عندكم، استأذن في السفر الى الاسكندرية، وما كان من عادتي ان اغيب عنك اكثر من اسبوع. اذا مضى كان يدفعني الشوق الى حديثك الحلو. وافكارك المتينة الممتعة، الى زيارتك، فلا غرو ان استعيض عن الزيارة غير المستطاعة بهذه الرسالة السهلة الكلفة.. كتابي يلقى اليك في صحة وسلامة وصبر على هذا الحر الذي ربما شبهه بعض اصحابنا الشعراء بشوق المحبين، يقص عليك ، اذكرك دائما كلما هبت نسمات البحر، وقابلت بينها وبين لوافح القاهرة، وكلما تجلى علينا البدر يضيء البر والبحر على السواء، ويملأ العيون قرة، والقلوب رضى. وكلما جلست على شط البحر أتمشى وسط اصحابي كما كانت حالي وقت ان رأيتك لاول مرة، وسمعنا حديثك واعجبت بك. اذكرك كلما خطر ببالي النظر في حال المرأة الشرقية ومستقبلها وعلى من تستطيع ان تعتمد في المساعدة على انتقالها الى الافق الذي نرجوه. وكلما قرأت من الشعر ومن النثر افكاراً تتناسب مع افكارك او تختلف عنها. اذكرك كلما هاج البحر، والفت عقلي الى مظهر الغضب في وجه الطبيعة الباسم، وآثار الغضب في نفوس بني آدم حتى في نفس فتاة ارحبهم صدراً واحسنهم خلقاً، والطفهم مجاملة، وارعاهم معاملة وارقهم قلبا – على ما كنت اظن...!
"هي ايضا – مع انها ملكة بين المعجبين بها و"همو كثر" قد حسبتها يوما من الايام احدى رعايا الغضب..".
وهنا نشير الى ان الانسة مي كانت مرهقة الحس سريعة الغضب او الدلال كما يعبر عنه الشعراء.. ثم جاء بعد ذلك:
"هي تملك القلوب بنظرها ولسانها وقلمها. روابط لا انفصام لها، وسلاسل لا قبل لاحد بفكاكها. ولكنها مع ذلك تدين الى الغضب وتجري عليها – كما تجري علينا نحن الخلائق – احكامه. وربما أرادت علينا في ان آثار اغضب عندنا لا تقيم بعد الاعتذار. اما هي فانها غضبي يلد لها غضبها في كل اطواره، كما يطيب لنا احتماله في كل مظاهره.
عبس في الوجه لا يقل في جماله عن الابتسامة الفاتنة، وإعراض كالدلال في الاقبال، وتوقد في العينين كانه في حلاوة لين النظر. فما اشبه نظرها الشزر بلحظها الرحيم في اللعب بقلب الحكيم. ثم قطع للرسائل وهجر جميل.
"اذكرك في كل وقت، ولا اجرأ ان اكتب اليك الا في ميعاد الزيارة، لكيلا اضطرك مكرهة بتقاليد الادب ان تردي علي بالكتابة كلما كتبت اليك. على اني اعرف كثيرا غيري لهم تراسل قد يضيق وقتك عن العطف عليهم اذا طلبت انا اكثر مما يخص كل فرد غيري. استغرك ان شد قلمي عن حد ما يرضيك، فانه يسترسل في الكتابة اليك على ما يوحيه ميلي، لا على ما يحدوه عقلي. انه ياخذ لنفسه قسراً منزلة الصديق وهو لا يعلم انه قد استحق هذه المنزلة.." ثم يقول:
".. فاغذري قلما حساسا، غيورا طماعا يجري الى ما يحب كالسيل المتدفق، لا يبالي صادف سهلا، او اصطدم في وعر، او حبس في جسر. انه لا يعنيه الا ما يحب من غير ان يفكر. ليس له عذر الا في صدق ، وكفى بالصدق عاذراً، وكفى بالصدق شفيعا.."!

الخطاب الثاني
وبعد ان قضى لطفي السيد في مصيف الاسكندرية نحو شهرين سافر الى بلدته "برقين"، فبعثت اليه الانسة مي بخطاب يتضمن عواطفها النبيلة، وقد سطرت فيه جانبا من افكارها الادبية والاجتماعية، فرد عليها بخطاب في اول سبتمبر سنة 1913 جاء فيه:
"لست في حاجة الى العنوان، لاني لا اريد ان يقرأ كتابي من عنوانه، ولست في حاجة الى ندائك من بعيد، او قريب، فانت من نفسي اقرب من ان تناديك.
"جاءني كتابك، فشممته مليا، وقرأته هنيئاً مريئاً، واني ممتنع نهائيا عن ان اشرح لك العواطف التي تعاقبت على نفسي بتلاوة هذه الرسالة الفيحاء حقيقة بكل معنى الكلمة، وكل ما يأذن لي تهيبك ان ابوح به هو اني من الصباح الى هذا المساء وانا وحدي، فلم استطع ان امسك القلم، لا جيب عليه بصراحتي العادية، فما وجدت بدا من الركون الى اسلم الطرق، وهو ان احفظ لنفسي وصف الاغتباط الذي نالني من هذا الكتاب. حتى لا يسقط قلمي في جناية لا اخلص من عقابك عليها.."
ثم قال: "جاءني كتابك اليوم، وانا في الجنينة – خولي على غلامين فتاتين يعملون في الجنينة تحت نظري، لاني أكسل "من ان أعمل بيدي" – جاءني ولا اكذبك اني كنت في انتظاره، فقرأته، ثم قرأته، وذكرت تلك الليلة التي لها في حياتي تاريخ ومركز خاص، وذكرت اذ استمتع برؤيتك ، وتهولني قدرتك على هذا الشباب الغض!
وبعد ان يقول في هذا الخطاب ان كتابها شغلة عن الجنينة وعن العمال، اذ كانت هي اكبر مشاغلة، وكانت رسائلها اليه هي شغله الشاغل، يقول:
"ذلك هو شغلي طول النهار يا هانم، اخشى ان تكون عصاك او نفثاتك قد لعبت بعقلي ايضا، فاحكم على شوبنهاور ونيتشه حكمك القاسي عليهما. ولكني مع ذلك اقول ان شوبنهاور اخطأ خطا واحدا، هو انه لم يقدر ان سيكون من النساء فتاتنا "مي" ذلك هو الخطأ الاساسي الذي لو تدير فيه لما تمشى في مذهبه على ذلك النحو. فلا تقسي عليه في الحكم احاول يا "مي" سيدتي ان اهتدي بهديك واسير على ارشادك في ان اطرد همومي ولكني لا استطيع فان من همومي ايضا احلاما لذيذة كاحلامك، بل من همومي ما هو الذ من الحلم.. " ثم ينتقل الى وصف افكارها فيقول:
"اعترفي بأنك كنت في ساعة من ساعات تجلياتك، حين كتبت لي هذه الرسالة. ان فيها افكارا ومرامي ذات وزن كبير، وفيها مقاصد ومعان تكاد تطير من خفتهان او تذوب من رقتها. خصوصا نقطة الارشاد التي انا ضمين بانه لتكون كذلك من الخفة واسعد الاثر يجب ان تخطها يد سيدة بل يد سيدتي وحدها.."!!
ثم تغلب عليه خوالج نفسه، فيقول في خطابه:
".. اجناية مني ان اتحدث بهذه النعمة السابقة: الا ان للارواح ايضا غذاء يتنزل عليها من مكان اسمى من مكانها العادي، وهزة تأخذها حين تتقابل جاذبيتها، لعل ذلك هو سر السعادة الانسانية التي يلتمسها الناس، فلا يعرفون طريقها.. ان روحا تغترف قوتها من ذلك المعنى الرفيع لسعيدة لا محالة. قلب يخفق ، وعين تندبها دمعة الفرح الباردة، ونفس تتخلى ولو مؤقتا عن هذه الرتب ةالدنيئة – رتبة الزحف في حماة المنافع المادية – الى السبح في بحر الخيال، واستطعام اللذة المعنوية. ذلك اجمل ما في معاني الحياة الانسانية.
"اف لقيود الاصطلاح!. اني كاسرها، وملق بها عني لاقول ماذا؟.. لا شيء.. بل لاقول انه لا ذنب على ان صرحت باني اليوم سعيد. وربما كنته بعد اليوم.. هذا ما لا اعرفه..".
ثم يقول في آخر هذا الخطاب: ".. ولو علمت اني يسرني ان اظل اكتب لك اكتب، اكتب طول وقتي لما نفدت مادة انت ينبوعها العذب. وارجوك الا ترثى لحال ملكي المسكين الذي يحمل صلواتي، فان لي ملكا آخر من ملائكة الرحمة تغيطه الملائكة انا احبه؟!..".
الخطاب الثالث
وعلى الرغم مما في رسائل لطفي السيد الى الانسة مي من عاطفة مشبوبة، فانها تتخللها المعاني الانسانية والخواطر الفلسفية، ففي 29 ابريل سنة 1914 بعث اليها خطابا عاطفيا من "برقين" وكانت قد غضبت منه لانه يدعها ولا غيرها من النساء لحفلة تأبين المرحوم فتحي زغلول، ثم سافر الى بلدته وكان مرشحا لانتخاب الجمعية التشريعية، واقيمت له حفلة استقبال وقد جاء في هذا الخطاب:
"صديقي..
"سيقال اني مشغول بحفلة الاستقبال، ويعلم الله بماذا انا مشغول.. اكتب اليك تحت سلطان شعور اقرب ما يكون من مشاعر الحزن الصامت، حزن لا يعترف به لانه غير معروف المصدر، ولا محدد الجهات، ولكنه مع ذلك حزن.
"الطيور تقرد حولي من كل ناحية، وماهي الا حمامتان وعصافير شتى ادفعها عن الدخول في "اودني"، وهي لا تندفع ولا تخافني كانها علمت باني انا شجي بها.. تنتقل الحمامتان من فوق ستارة الى ستارة اخرى، كانما تقولان لي نحن اليفان سعيدان، وصديقان مجتمعان، فاين صديقك انت؟!.. والواقع ان العصافير الصغيرة ترى بيتنا افسح من ان يكون لنا وحدنا، فتريد ان تبني اعشاشها في الشبابيك، ونحن نطردها وما اقلنا كرما.. تحب الاثرة حتى مع هذه العصافير البريئة الصغيرة. ونحن مع ذلك ندعي من زمان اننا نحب الاشتراكية ونحب المساواة، ونتواصى ببر الضعفاء.
"انا لا اطرد العصافير اكراما لخاطر كناري الصغير، ولا اهيج الحمام اكراما لما اشتهر به من معنى الوفاء في الصداقة وحسن العشرة..".
وبعد ان يستطرد في هذا الخطاب الى وحشية الانسان في محاربة العصافير وطرد الطيور وأكله لها يقول:
".. هنيئا مريئا ايها الطاعم على حساب نظام الوجود، وضد مصلحة الفن كانه لا يسمع الا نداء بطنه الجائع، او كان هؤلاء لهم بطون وليس لهم آذان.
"اف لهذا الانسان، ولكنه لا يستحي وانا ايضا انسان، ومع ذلك استحي من ابداء الشوق المبرح الى لقائك. وارجوك الا يخدعك قولي، فتظنين اني فوق الانسان العادي. كلا، فلطالما اصليت صغار الطيور نارا حامية من بندقيتي، لا لأكل، بل لالعب بالنفوس البريئة التي هي مثلي لها حق في الحياة!
"من الحمق ان اطيل القول في هذه المعاني اليك، اليك انت التي قد لا تعلبين بالنفوس الصغيرة، ولكنك تلعبين بالنفس الكبيرة. اني حرمت قتل الطير من زمان غير قريب، فهل تحرمين على نفسك يا امي القاسية ان تسيئي لي باعراض ترينه هينا واراء عسير الحمل، فعال الاثر..".
وبهذه المناسبة اقول ان الانسة مي حرمت نفسها طول حياتها اكل الطيور رافة منها وشفقة.. اما خطابها عن حفلة تأبين فتحي زغلول، فسأنشره في مقال آخر!
هذه هي بعض الخطابات العاطفية التي كتبها الشاب احمد لطفي السيد الى اديبة الشرق الانسة مي منذ 51 سنة.. انشرها لاول مرة لان كاتبها لطفي السيد سيبلغ في 15 يناير الحالي العام التسعين من عمره المبارك!

طاهر الطناجي

الهلال/ كانون الثاني - 1962