الاستاذ هشام المدفعي

الاستاذ هشام المدفعي

علي نوري حسن
مهندس معماري ومخطط مدن
الاستاذ هشام المدفعي غني عن التعريف لكونه علم من اعلام الهندسة والتخطيط في العراق. وعاصر عدة عهود مليئة بالاحداث المختلفة منذ بداية الدولة العراقية في العهد الملكي فالجمهوري بكافة مكوناته وانماطه حتى السقوط عام 2003 وما بعدها.

وكان عضوا فاعلا ونشطا في المجال الهندسي والتخطيطي منذ تخرجه وحتى كتابة هذه المذكرات (2014-2016). والاستاذ المدفعي لا يحتاج الى التعريف او التقريض لانحداره من عائلة المدفعي العريقة والمعرفة لدى اكثر العراقيين والمثقفين داخل وخارج العراق. فوالده واعمامه خدموا الدولة العراقية على افضل ما يكون، واخوانه ممن يشار لهم بالبنان في مجالات العمارة والديكور،والهندسة، والموسيقى، والفنون. ومن الطبيعي لمن يعيش ضمن هذه البيئة ان يمتاز بمؤهلات وجودها في الاخرين.
تجربة الاستاذ هشام المدفعي في الحقل الهندسي متنوعة وغنية جدا، فقد تخرج عام (1950) من كلية الهندسة في بغداد، حين كان عدد المهندسين قليلا، ومارس الهندسة في شركات ودوائر الدولة (شركة النفط، مجلس الاعمار، امانة بغداد) كما مارسها في القطاع الخاص وابدع في كليهما من خلال عمله الدوؤب والمخلص.وقد كلف بالاشراف على مشاريع رائدة ومتفردة يشار لها بالبنان دوما. منها (قناة الجيش، بناية وزارة التخطيط، نصب الشهيد، ابنية شارع حيفا، نصب الجندي المجهول...)، وامتاز في جميعها بالاتصاف بهدوئه المعهود وبعد تفكيره في قراراته، وتقديم الحلول الذكية والعملية في مجالاتها المختلفة... بالاضافة لاتصافه بحسن الادارة العالي، وادارة الندوات العلمية والهندسية العامة، بشكل لافت للنظر.
نتيجة لممارساته العملية والنظرية الغنية والكثيرة في المجالين العام والخاص، فقد كانت حياة الاستاذ المدفعي حافلة بالنشاط الفعال والمنتج في مختلف الحقول الهندسية والمعرفية والثقافية والاجتماعية، ولثقافته العالية فقد اتقن كل ما كلف به او قام بانجازه. ولنشاطاته المتميزة فقد جلبت له المنافسة المشوبة بالحسد دوما وهذا ما يمكن تلمسه للمتصحف لمذكراته او من سمحت له الظروف بالاطلاع على مسوداتها. ليجد ان هناك مساحات غير قليلة وغير مريحة في مسيرة حياته مثل (حجز الاموال، الاعتقال، التهم الملفقة، الاحالة الى محكمة الثورة سيئة الصيت...).
المذكرات التي دونها الاستاذ المدفعي ممتعة لتنوع مواضيعها ومعلوماتها، متفردة في بعض المواضيع، قدمها باسلوب شائق وجذاب ومن دون رتوش او بهرجة، وعكست تنوع حياته في تنوع مواضيعها. فقد تنقل في المذكرات من حياته الخاصة وولادته ونشاته ووصف دقيق وامين لعائلته، وبعدها انتقاله للحياة المهنية متنقلا بين الهندسة في مدن ومحافظات مختلفة كالبصرة والسليمانية وكركوك.... ثم الانتقال الى مجلس الاعمار ومشاريع دوكسيادس والاسكان وسياساته، وقناة الجيش وتنفيذها،... ولقاءاته مع المرحوم عبد الكريم قاسم وطروحاته.
يتنقل في مذكراته لياخذنا الى انقلاب 1963 ثم الى مشروع تنفيذ بناية وزارة التخطيط والمشروع التجريبي للدواجن، والابنية الصناعية وغيرها، ليعكس الفرشة الواسعة لممارساته المهنية والهندسية وغزارة تجربته الريادية التي مر بها وما يرافقها من هزات سياسية وحياة قلقة مع هذا العطاء الفني، وليذكر مشاكل تجربة المثقف العراقي في حجز الاموال والملاحقات غير المبررة وسيطرة الشارع للتحكم في الامور البسيطة والكبيرة على حد سواء. تليها ممارسات هندسية في امانة بغداد والاصطدام بروتينها ومجلسها ولتقوده مثل تلك الامور الى تقديم استقالته مبتعدا عن تلك التجربة والاجواء ليمارس في مكتبه الخاص الهندسة والتخطيط والتكليف باعداد مخطط الاسكان العام مع شركة بولسيرفس البولندية. حيث تمثل اوسع تجربة علمية وتخطيطية لحل ازمة السكن التي لازمت التاريخ العراقي المعاصر وكافة اطيافه وكيفية توفير السكن الملائم للمواطنين. التجربة التي بدأت بمسح شامل جدا لتحديد الاقاليم المناخية والجغرافية والعمرانية والسكنية بشقيها الحضري والريفي. وقد اعتبرت تلك الدراسة من اهم واوسع الدراسات السكنية في العراق وتحديد الانماط السكنية والمعايير الفضائية والمساحية بالاضافة الى المخططات والاشكال التوضيحية والبيانية.
الاستاذ المدفعي مثل العراق في مؤتمرات دولية هامة منها مؤتمر الامم المتحدة للمستوطنات البشرية (هبتات) ومؤتمر منظمة العواصم والمدن العربية والتي كانت امانة العاصمة احد مؤسسيها، ومؤتمر العواصم والمدن الاسلامية وكان في جميعها فاعلاومهماً.
لقد خصص الاستاذ المدفعي في الفصل الخامس عشر من مذكراته لتجربة قاسية خاضها وهي الاحالة الى محكمة الثورة والاعتقال والحكم عليه بالاعدام ظلما.... تلاها الاستثناء ثم العفو واطلاق سراحه الفوري. لينقل بالقارئ الى الفصل التالي والذي كرس لتجربة بعيدة كل البعد عن تخصصه المهني وهي معاناةفي حرب الخليج وسفره الى السليمانية، فالعودة الى بغداد لتبدا معانات الحصار الاقتصادي الطويل (1992-2003) وما رافقها من معاناة للشعب في الحصول على لقمة العيش.
ساهم الاستاذ المدفعي في اعمار العراق بعد السقوط (2003) ودخول القوات الامريكية, وعانى كما عانى كل العراقيين من ظهور الطائفية البشعة، ولم يثنه ذلك من المشاركة في رسم السياسات والممارسات الضرورية الجديدة مع منظمات مهمة مثل (التجمع الديمقراطي في لندن، جامعة ميلانو، هيئة الاتصالات والاعلام، اللجنة العليا للمستوطنات البشرية، المنتدى العالمي (في برشلونة)، البنك الدولي.. وغيرها من الامور التي ارست ورسمت السياسات الجديدة للعراق. وقد دعى الى احياء مجلس الاعمار والانفتاح لتنفيذ مشاريع كبرى. كما ساهم من خلال عمله المكتبي الخاص في في الاعمال التخطيطية والتنموية والانشائية واعداد دراسات للتصاميم الاساسية لمدن مهمة مثل (الخالص، الزبيدية، شيخ سعد، المحاويل، الموفقية، واسط، الشحيمية...) ودراسات اقليمية وهيكلية لمحافظات (المثنى، بابل، الانبار، صلاح الدين، كربلاء...) وكذلك تصاميم حضرية تفصيلية كدراسة مركز الموصل، ومركز مدينة الكوفة...
لقد زاملت الاستاذ المدفعي وعملت معه في الدراسات التخطيطية لمدة زادت على العشرسنوات بدءاً من اعداد قانون جديد للتخطيط العمراني وانتهاءا بتصاميم وتفاصيل المدن او هيكليات المحافظات فوجدته انسانا دقيقا في نظرته لكافة الامور العامة والخاصة، بعيد النظرة وواسع الافق، واداري من الدرجة الاولى، ذو نظرة ثاقبة للامور المطروحة، واستفدت كثيرا من تلك التجربة والعمل برفقته وتعلمت منه كيفية معالجة الامور المعقدة والمستعصية. وكان خير مرشد وموجه لنا في كافة الامور كما اعتبرت تلك الفترة من اغنى التجارب في حياتنا العملية واشعر بسعادة دوما للعمل معه والاستفادة من تجاربه غير الناضبة واسلوبه المتميز في العمل المبدع.