سبعون عاماً من الحراك الهندسي المبدع لبناء العراق الحديث

سبعون عاماً من الحراك الهندسي المبدع لبناء العراق الحديث

عادل العرداوي
بفارغ الصبر والشوق كنا ننتظر صدور مذكرات استاذنا المهندس الاستشاري، ابن بغداد هشام حسن المدفعي.. لما تشكله تلك المذكرات والذكريات لهذا الرجل المخضرم من اهمية بالغة في تاريخ العراق الحديث لاعتبار المدفعي واحداً من بناة نهضته الحديثة. وفعلاً فقد صدرت المذكرات بكتاب ضخم ضمّ
700 صفحة من الحجم الكبير تم طبعه في مطبعة دار الأديب العراقية في العاصمة عمان

تحت عنوان / نحو عراق جديد..سبعون عاماً من البناء والإعمار / الذي احتوى على فصول عديدة مزودة بعشرات الصورة الوثائقية المهمة التي صوّرت تلك الفصول والأحداث التي عاشها صاحب المذكرات وخاض في غمراتها.. فقد بدا المدفعي أولاً بمرحلة التكوين الأولى خاصة اذا ماعرفنا أنه من مواليد 1928 حيث سلط الضوء في الفصل الأول للتعريف بأسرته ونسبه وولادته هو وإخوته وكذلك بوالده الشخصية الوطنية المرحوم حسن فهمي المدفعي، الذي تولى مناصب قيادية في الدولة العراقية منذ تأسيسها في عشرينات القرن الماضي سواء في بغداد أو محافظات ومدن البلاد الاخرى.. ثم أشار المدفعي الى انه تخرج من كلية الهندسة العراقية ببغداد في عام / 1950 إذ عد المدفعي مرحلة الخمسينات تلك إنما هي مرحلة بناء الذات بالنسبة له بعد تخرجه من الكلية واكتسابه للخبرة في ارجاء البلاد والتعرف على طبيعة مجتمعه العراقي ومع مجلس الإعمار والتدريب في بريطانيا والمشاركة في بناء المشاريع الكبرى هناك.
ويوضح المدفعي ملامح من مسيرته الهندسية والعملية في ستينات القرن الماضي وتحديداً اثناء فترة الجمهورية زمن الزعيم عبد الكريم قاسم خاصة بعد الغاء عقد مؤسسة دوكسياس اليونانية المتخصصة بانشاء المشاريع الاسكانية وتسلم مهمة المؤسسة المذكورة من قبل المهندسين العراقيين وفي مقدمتهم هشام المدفعي، وتسلمه مهام تكوين منظومة من المهندسين العراقيين وتدريبهم والاشراف على مشاريع الاسكان في ارجاء البلاد آنذاك، بهدف تشييد الف وحدة سكنية اضافة الى ادارة مشروع ابنية وزارة ومجلس التخطيط الحالية، اضافة لتسليطه الضوء على تكوين ابرز المكاتب الاستشارية الهندسية ومؤسسيها ومنها مكتب شقيقه المعماري المعروف الدكتور قحطان المدفعي، وبعدها مكتبه الهندسي الاستشاري دار العمارة. وأبرز المشاريع التي انجزها وأشرف عليها أو عمل فيها في انحاء العراق التي من بينها مشاريع مثيرة نفذت في سبعينات القرن الماضي، خاصة في مجالي التصميم والاشراف الموقعي، منها وحدات سكنية ومشاريع لإنتاج الدواجن والمخازن المبردة وتصميم الجسور ومحطات للسكك الحديد وبناية البريد المركزي والتصميم الأساس لمركز مدينة الموصل، وغيرها من المشاريع الصغيرة والكبيرة التي لايمكن الإحاطة بها الآن في هذا الاستعراض السريع.
ولعلّ الفصل الذي أثار انتباهي وشعرت بعد اطلاعي على تفاصيله، هو الفصل الخاص بعمل المهندس المدفعي خلال فترة ثمانينات القرن الماضي، في امانة بغداد حيث توفرت لي الفرصة أن اعمل عن قرب مع المدفعي. يومها كنت اعمل أنا في المكتب الاعلامي للأمانة، وكنت على اتصال شبه يومي معه خاصة اذا ماعرفنا، أن المدفعي تقلد مناصب قيادية في الأمانة لعل من ابرزها مدير عام دائرة الانشاءات، وكان من يدير ذلك الموقع آنذاك، يطلق عليه تسمية معاون أمين العاصمة لشؤون الانشاءات، وبعدها انيطت بالمدفعي مهمة الوكيل الفني لأمانة العاصمة أيام أمينها سمير محمد عبد الوهاب الشيخلي..
نعم عملت معه لفترة 7 سنوات متواصلة وقد لمست فيه ذلك الانسان المندفع والدقيق في تنفيذ ومتابعة الأعمال والمشاريع الهندسية والفنية التي كانت تحت مسؤوليته المباشرة، مشاريع عملاقة مثل تطوير شارع حيفا في منطقة الشواكة في قلب الكرخ، وعمارات شارع الجمهورية، ذات اللون الابيض التي لم تكتمل جراء ظروف الحرب العراقية الايرانية وتحويل موارد الدولة لدعم المجهود العسكري، على حساب توقف معظم مشاريع التنمية والاعمار، وكذلك انشاء نصيب الجندي المجهول في ساحة عمان بكرادة مريم، الذي صممه النحات العراقي الراحل خالد الرحال ونصب الشهيد في الرصافة الذي صممه النحات الراحل اسماعيل فتاح الترك، وجزيرة بغداد السياحية وسط نهر دجلة شمالي بغداد التي انشأتها الأمانة وسلمتها بعد ذلك الى هيئة السياحة لإدارتها، والمشروع الاسكاني المطلّ على كورنيش ابي نواس، وأيضاً تطوير مشاريع البنى التحتية الأساسية للماء الصافي والمجاري وقيامه بتمثيل بغداد والعراق في عشرات المحافل والمؤتمرات العالمية والعربية والإسلامية واجتماعات المنظمات المختلفة المعنية بالمدن العربية والاسلامية التي كانت بغداد من اعضائها المؤسسين، حيث يفخر المدفعي إبان تلك الفترة التي عمل فيها في امانة بغداد كانت له فرصة عمل مميزة مع اكبر الشركات العالمية في مجال البناء والهندسة، التي تعلم منها وانجز بكفاءة عالية تلك المشاريع التي اصبحت اليوم، من الشواخص الحضارية في العاصمة.
نعم كانت تعد مهاماً رئيسة ومتطورة واتاحت له الفرصة الاحتكاك مع مجاميع من الاستشاريين والمقاولين العالميين التي انتهت مع الأسف الشديد بثلاثين شهراً من السجن عام 1987 في سجن الاحكام الخاصة في أبو غريب جراء وشاية ظالمة عارية عن الصحة تماماً، مما اضطر الجهات المعنية الى اطلاق سراح المدفعي من السجن، بعد أن ثبت لها بطلان تلك الوشاية والتهمة الباطلة.. ولاشك أن هذه الحادثة الاليمة أثرت في نفسية ووجدان المدفعي، لكنها لم تمنعه من مواصلة مشواره الابداعي الصميم لخدمة وطنه العراق في مواقع أخرى.
لعلني في حلقة أخرى من هذا المقال، سأكمل استعراضي عن بقية فصول المدفعي وفي فرصة قريبة للتعريف بمنجز هذا العراقي الأصيل.