الملا عثمان الموصلي... شوارد وطرائف مطوية

الملا عثمان الموصلي... شوارد وطرائف مطوية

رفعة عبد الرزاق محمد
لم تزل سيرة الفنان والموسيقار العراقي الرائد الملا عثمان الموصلي، تحتجن الكثير من الطرائف والحقائق التي لم يعرها الكتاب اهتماما الا عرضا. ونقف في هذه النبذة على بعض طرائف حياته الغنية بكل فريد وغريب وجميل. وقبل هذا اود بيان ان العديد من كتابنا الافاضل اولى الموصلي اهتمامه.

ولعل الاستاذ محمد بهجة الاثري، كان سباقا في هذا، فقد كتب مقالا وافيا في مجلة (لغة العرب) في سنتها الرابعة عام 1926، كما فصل عنه القول كتاب (اعلام الادب والفن) لادهم الجندي الصادر عام 1954. غير ان اهم ماصدر كان كتاب الدكتور عادل البكري عام 1966 بعنوان (عثمان الموصلي، الموسيقار الشاعر المتصوف)، واعيد طبعه في السنوات التالية، وقد اصبح مصدرا لاغنى عنه في هذا الامر.

ذكاؤه
مما سمعناه من المرحوم محمود صبحي الدفتري انه بينما كان يسير بمدخل سراي بغداد المجاور للقشلة، رأى من بعيد الملا عثمان الموصلي ومعه عبد الجبار خان زادة رئيسالكتاب في دائرة الاوقاف، فاشار عليه الا يخبر الملا عثمان بمجيئه. وكان الدفتري قد سمع ان الموصلي يعرف الاشخاص من تلمس ايديهم، وعندما مدّ الدفتري يده لمصافحة الملا عثمان، اخذ يتلمسها محاولا معرفة صاحبها كعادته، الا ان الدفتري بادره بقوله : ان هذه اليد لم يسبق ان تشرفت بمصافحتك ولكن لها حبا موروثا انتقل من السلف. وبقي ساكتا وبدأ بتحريك رأسه يمينا ويسارا كعادته، وماهي الا لحظات حتى قال :
اوراق اخلاصي اذا ما كتبت
تنشر في الافاق حسن الاسطر
كلها محفوظة في مهجتــــي
ومهجتي عند فؤاد الدفتـــــــري
وكان يشير الى ان محمود صبحي هو ابن فؤاد الدفتري.
ويذكر الاستاذ محمد بهجة الاثري : واما ذكاؤه وفطنته فحدث عن البحر ولا حرج، وكأني بمن لم يره يتردد في تصديق ما اذكره من غرائبه ونوادره : كان من شيوخه اذا سمع صوت انسان عرف اوصافه من حسن ودمامة وطول وقصر، وعرف كم سنة. واذا لمس يد رجل فارقه مدة من الزمن عرفه في الحال، واغرب من هذا وذاك انه كان يعرف الرجل من قرع نعليه. وكان يجيد الضرب ايما اجادة على العود والعزف بالات الطرب بانواعها واللعب بالدامة
الشطرنج وسائر الالعاب العجيبة. ومر يوما في طريق من طرق بغداد فسمع من احد البيوت صوت عود غير منتظم فعرف حالا ان وترا من اوتاره لم يحكم شده فوقف وطرق باب البيت وقال : يا ضارب العود احكم الوتر الفلاني وسماه باسمه. فقال الرجل : انا اردت ذلك بارك الله فيك.
وذكر المرحوم عبد اللطيف ثنيان ان الملا عثمان الموصلي دخل بيروت وكان فيها المرحوم صالح افندي السويدي فتقدم اليه وصافحه دون ان بنبس بكلمة فاخذ يده وبقي يتلمسها هنيهة وهو لا يعلم بوجوده في بيروت واذا به يقول : سويدي ما الذي جاء بك الى هنا؟، وذكر لي المرحوم رؤوف افندي ابن حسن افندي الشربتجي الموصلي انه دخل جامعا في الاستانة فوجد الشيخ عثمان جالسا للوعظ. فجلست في ناحية قريبا منه، ففطن ان الجالس ليس من المستمعين على العادة. قال فتطال علي وقال : بيك افندي بكم الساعة؟ فاجتهدت بتغيير صوتي وقلت بالتركية : العاشرة والنصف. ثم ختم درسه بعد لحة واحدة واخذ في الدعاء قائلا : اللهم صل وسلم على رسولك الرؤوف الحسن، وبعد تمامه قال : هل تحتاج بعدها الى التكتم عني؟!. ومررت معه ليلة في سوق، وبينما نحن نسير ونتحدث اذ ضربت بعصاي باب حانوت وقلت له : هذا حانوت صاحبك فلان. فقال : كلا بل حانوته الحانوت الاخر الذي بلصقه... وفتح مع شريك حانوتا في الاستانة للوراقة، فما جاءه احد يطلب كتابا بغياب شريكه الا ومد يده وسلمه اياه بصورة يعجز ذوو غالابصار عن مثلها.
وذكر الدكتور يوسف عز الدين ان المرحوم ناجي القشطيني حدثه انه رأى الموصلي مرة وكان صغيرا، ثم قابله بعد سنوات طويلة، فسلم عليه، فقال : يا ناجي اصبحت رجلا. وكتب الاستاذ محمد صديق الجليلي ان الاستاذ فاضل النوري حدثه بانه كان يسير في شارع الجسر القديم ببغداد سنة 1921، فقابله الملا عثمان الموصلي خارجا من سوق السراي، فاقترب منه وسلم عليه فاخذ يده بين يديه واخذ يدلكها، ثم قال : اهلا حفيدي شيخي وسيدي النوري. وذكر حادثة اخرى عن مصطفى ابن الشاعر احمد عزة باشا الفاروقي بانه كان يصلح الساعات باللمس اذا كان العطب صغيرا فيها. وذكر الاستاذ احمد محمد المختار مؤلف كتاب (علماء الموصل) بانه دعي مرة لتلاوة جزء من القرآن الكريم في حفل اجازة العالمين الاخوين محمد رشيد وسعد الدين ولدي الشيخ صالح الخطيب، وكان استاذهما طالبا لدى والدهما، فاذا بالشيخ عثمان الموصلي يقرأ من سورة الكهف قوله تعالى : ((واما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان ابوهما صالحا فأراد ربك ان يبلغا اشدهما ويستخرجا كنزهما))، فدهش الحاضرون، فقد كان ابو العالمين صالحا، وقد تعلما علم والدهما على طالبه وليس اجمل من العلم كنزا حفظه استاذهما عن ابيهما.
والواقع ان مكفوفي البصر ـ على الاغلب ـ عوضوا بقابليات ومواهب لاتجدها عند المبصرين، وبعض هذه المواهب غريبة في بابها وعجيبة في حقيقتها، ولعل القائل (الحقيقة اغرب من الخيال)، كان صادقا في قوله اذا ما طبقنا المقولة على ما نقل الينا من مواقف ذكية لبعض فاقدي البصر من العراقيين المتاخرين. على ان اغرب هؤلاء كان خليل البصير الذي تحدث عنه الشهرباني في كتابه (تذكرة الشعراء)، وقال انه يميز الدراهم المزيفة من الشم ومنذ صغره كان مغرما في تطيير الحمام وكان يصطاد الحمام الغريب الذي يدخل بين حماماته! ولهذا الموهوب حديث ماتع في مقال مقبل.
ومما يُستطرد هنا ان المؤرخ والشاعر خليل بن ايبك الصفدي، جمع الكثير من طرائف اصحاب البصيرة ونوادرهم، في كتابه الشهير (نكت الهميان في نكت العميان) الذي حققه ونشره احمد زكي باشا سنة 1911. ويعلل الصفدي ظاهرة الذكاء النادر والحافظة القوية عند العميان بقوله : قل ان وجد اعمى بليدا ولا يرى اعمى الا وهو ذكي والسبب الذي اراه في ذلك ان ذهن الاعمى وفكره يجتمع عليه ولا يعود الا متشبعا بما يراه..ونحن نرى الانسان اذا اراد ان يتذكر شيئا نسيه اغمض عينيه وفكر، فيقع على ما شهد من حافظته... ونذكر ايضا ان /للدكتور احمد الشرباصي كتاب باسم (في عالم المكفوفين).

اصداراته
عكف الشيخ عثمان الموصلي على اصدار عدد من الاصدارات الخاصة به او لغيره. وككثير من الكتاب لم يولوا الامر اهتماما، فكتبه الخاصة به هي مجموعاته الشعرية، وهي (الابكار الحسان في مدح سيد الاكوان) طبع ببغداد عام 1332(1914)و(سعادة الدارين) وهو مجموعة شعرية ونثرية طبعت في مصر عام 1316 ثم اعاد طبعها في اسطنبول بعد سنتين، و(المراثي الموصلية) وهو يضم قصائده في رثاء عدد من الشخصيات المصرية، وقد طبع في مصر عام 1316. اما الكتب التي سعى الى نشرها، وهي لغيره،اعجابا بها، فهي :
1ـ التوجع الاكبربحادثة الازهر
2ـ الترياق الفاروقي وهو ديوان عبد الباقي العمري
3ـ الطراز المذهب في الادب لابي الثناء الالوسي
4ـ الاجوبة العراقية عن الاسئلة الايرانية لابي الثناء الالوسي
5ـ خل الرموز زكشف الكنوز للشيخ علي الدده
وذكرت بعض الكتب ان له كتبا اخرى غير المطبوع، مثل كتاب (نباتي) ذكره ادهم الجندي في كتابه (اعلام الادب والفن)، وذكراسماعيل باشا لبغدادي في (ايضاح المكنون) ان للموصلي كتاب باسم (بديع النظام على سجع الحمام).

مجلته في مصر
في عام 1896، واثناء وجوده في مصر في رحلته الثانية لها ومكث فيها نحو خمس سنوات، اصدر مجلة ادبية باسم (المعارف)، وهي جديرة بالبحث والتحقيق. وفيما يلي بعض مانشرته المجلات العربية عنه.
المعارف، ورد علينا العدد اول من مجلة معنونة بهذا الاسم لصاحبها ومحررها الفاضل ملا عثمان افندي الموصلي وهي علمية سياسية تاريخية ادبية اخبارية فيما نعهد في حضرة محررها المشار اليه من غزارة الادب والبراعة في صناعة الانشاء وما يضمره لها التقدم بين الصحف العربية فنحث المتأدبين من ابناء هذه اللغة على الاشتراك فيها ونتمنى لها ماهي اهل له من الرواج والانتشار.
عن مجلة البيان العدد الرابع السنة الاولى الصادر في اول يونيو 1897. لصاحبها الشيخ ابراهيم اليازجي والدكتور بشارة زلزل الصفحة 186.
المعارف، تلقينا العدد الاول والثاني والثالث من هذه المجلة العلمية السياسية التاريخية الادبية الاخبارية لصاحبها ومحررها الكاتب الشاعر منلا افندي عثمان الموصلي وهي فصيحة العبارة حسنة السيك وقيمة الاشتراك بها عن سنة كاملة 40 قرشا في داخل القطر و50 في خارجه فننشط منشئها الفاضل ونسأله لمجلته الثبات والعمر الطويل.عن مجلة الهلال/ السنة الخامسة 1896 ص 838.