هكذاعرفت الملا عثمان الموصلي

هكذاعرفت الملا عثمان الموصلي

سالم حسين الأمير
موسيقار راحل
كيف تعرّفت وعزفّت ونشرت الحان وإعمال الموسيقار والشاعر المتصوف الملا عثمان الموصلي؟ الذي اعرف عنه وعن حياته وأظن إن اسمه لم يذكر أمامي رغم اختلاطي اليومي بحكم عملي كملحن ومؤلف موسيقي وعازف لآلة القانون.

صادف أن أهداني عام 1973 احد أصدقائي من المعجبين بعزفي والحاني وهو السيد المستشار القانوني خيري العمري كتاباً بعنوان (أعلام الأدب والفن) للكاتب والأديب العربي السوري السيد أدهم الجندي، وتصفحت هذا الكتاب بشوق ولهفة لما لي من ذكريات جميلة في دمشق ولياليها الساحرة وأصدقاء من رواد الفن والطرب والشعر والادب اذكر منهم على سبيل المثال المطرب الخفيف الدم والمحبوب لا في سوريا فحسب بل في العراق أيضاً، حيث أقام في بغداد فترة طويلة كان فيها موضع إعجاب وتقدير ذلك هو الفنان القدير والمطرب والملحن الجميل السيد رفيق شكري والفنان القدير أيضاً الاستاذ تيسير عقل وجميع الفنانين العاملين في إذاعة دمشق العامرة.
كذلك كان لي شرف التعرف على السياسي والأديب المتفنن والشاعر الاستاذ فخري البارودي وغيره من الأدباء والشعراء الذين تزدهر بهم شواطئ بردى والسويداء، وحلب الشهباء، وحمص وحما واللاذقية والجولان وغيرها من المدن السورية الجميلة بناسها والمبتسمة بغيطانها وبساتينها.

قرأت كتاب أعلام الأدب والفن مراراً بعد أن وقع نظري على صفحات كثيرة من هذا الكتاب الموسوعي يتحدث فيها المؤلف الاستاذ الجندي عن موسيقار وشاعر صوفي مولوي (الجبة والطربوش) وعن حياته وتنقلاته بين الموصل وبغداد واستانبول ودمشق وحلب والقاهرة وغيرها من الأقطار العربية وتركيا ومكانته الكبيرة في مجالسها بين أدبائها وشعرائها وفنانيها ومبدعيها حتى وصلت شهرته إلى الباب العالي فاحتضنه السلطان عبد الحميد ومنحه التحدث باسمه خطيباً وسفيراً.
عجبت لهذا البصير العبقري كيف جمع البلاغة والنباهة والمقدرة في الخطابة وقول الشعر والعزف على أكثر من آلة، كالعود والقانون والناي والطبلة وقوة التحويل والتجوال في الأنغام والألحان واستقطب إعجاب عباقرة الفن والموسيقى والغناء، أمثال الموسيقار الكبير الشيخ سيد درويش والمطرب الكبير عبدو الحمولي وكبير الموشحين الفنان كامل الخلعي ودرويش الحريري ومحمد عثمان والشيخ محمود المقرئ للقرآن الكريم في مصر وفي القطر الذي عاش فيه متنقلاً بين دمشق وحلب الشهباء وأصدقاؤه في أعلام الفن أمثال الفنان الكبير أبو خليل القباني وعمر البطش والشيخ علي الدرويش وغيرهم من جهابذة البيان والشعر والألحان.
وشاءت الصدف الجميلة أن أكون جاراً للطبيب الدكتور عادل البكري كان حينها نائباً لرئيس مدينة الطب في بغداد وكنا نتبادل الزيارات بعد عودته من المسائية وعند زيارته لي طرحت عليه هذا السؤال وأطلعته على الكتاب (أعلام الأدب والفن)، فقلت له علمت انك كتبت وحققت بعض الكتب القديمة مثل كتاب نصف العيش وغيرها لماذا لم تكتب عن هذا العبقري الملا عثمان الموصلي وأنت من أبناء مدينته الموصل؟، فابتسم ابتسامة فيها نوع من الاستغراب فقال انتظرني خمس دقائق لأجيبك على هذا السؤال وغادرني إلى داره القريبة من داري فجاءني بكتاب كبير وقال لي تفضل هذه نسخة مهداة لسيادتك وإذا بعنوان الكتاب الموسوم الملا عثمان الموصلي الموسيقار والشاعر المتصوف، تأليف الدكتور عادل البكري وإذا بي أتصفح كتاباً شاملاً عن حياة هذا العملاق البصير الذي جمع الشعر والموسيقى والفقه والبلاغة والشخصية المحبوبة والمتألقة في كافة المجالس التي حضرها، فشكرته على هديته الثمينة مع الاعتذار والاستفسار عن عدم وجوده وتوفره في المكتبات فأجابني هذا من شأن الإعلام في وزارة الثقافة وأخذنا نتحدث عن أعمال هذا الرجل الفذ وقررنا أن نقوم بزيارة من بقية من معاصريه والذين عملوا معه في الأذكار والمناقب النبوية في بغداد أو في الموصل وان نحيي ذكراه، وقد قربت الذكرى الخمسين لوفاته رحمه الله حيث توفي عام 1923.
وفعلا وضعنا منهجاً للتحرك في تسجيل ماقدم من الحان وشعر وأول ماقمنا به هو الاتصال بالمقرئ الذي عاصره وعمل معه وحفظ أكثر أعماله الدينية السيد الحاج عبد الفتاح معروف فحملت المسجل معي وصاحبني في ذلك الموسيقار السيد روحي الخماش رحمه الله الذي اخذ على عاتقه تدوين ما أمكننا تسجيله من هذه الموشحات الدينية واجتمعنا بالحاج عبد الفتاح معروف وسجلنا ما تيسر لنا من موشحات وقصائد وحدثنا الحاج عبد الفتاح معروف رحمه الله (وقد جاوز) التسعين من عمره، عن حياة هذا العملاق البصير وعن طرافته وأعماله ونوادره وما وصل إليه من مرتبة في الألحان الجميلة والشعر البليغ وإجادته العزف على الآلات الموسيقية مثل العود والقانون والناي والطبلة وجمال الصوت الجهوري وحسن الأداء.
كما حضر إلى بغداد رجل الأعمال المحامي السيد حسن العمري وعلم عند زيارته لي وهو صديق عزيز ونبيل رحمه الله، إنني والدكتور عادل البكري نخطط للقيام بمهرجان للذكرى الخمسينية لوفاة الملا عثمان الموصلي، طلب مني اصطحابه عند عودته إلى الموصل للوقوف على الكثير من أعمال الرجل الذي تنوي الاحتفال بذكراه، وفعلاً تم ذلك وأول رجل اجتمعت به في الموصل وعاصر الملا عثمان وشارك في جميع الأذكار التي أحياها الملا عثمان الموصلي والقصائد والألحان سواءً كانت معه مباشرة أو التي أرسلها الملا من اسطنبول على اسطوانات سجلها باللغتين العربية والتركية هو الرجل التربوي والذي يملك صوتاً جميلاً وإنشاداً وأمتعنا السيد عبد العزيز خياط رحمه الله وقارئ المقام السيد إسماعيل الفحام ورجل القانون المتفنن السيد عبد الهادي الجوادي وساعدني الحظ أيضاً أن التقي برجل التاريخ الدكتور صديق الجليلي رحمه الله والذي يحتفظ بمكتبة مقروءة ومسموعة، كذلك التقيت في بغداد مع الباحث والكاتب المهندس القانوني السيد فاروق العمري وكانت مجموعة كبيرة من القصائد والألحان ولما قررت تسجيل هذه الألحان وبثها إذاعياً وتلفزيونياً وجب علي إبدال كلماتها الصوفية بكلمات غزلية رفيعة المستوى والمعنى فعهدت بهذه المهمة إلى زميل الشاعر السيد عبد الجبار العاشور معاون عميد معهد الفنون الجميلة بحكم تواجدي يومياً في معهد الفنون حيث كنت مدرساً لآلة القانون وكذلك تاريخ الموسيقى العربية ومادة ثالثة هي التراث الشعبي، وكلفته بالالتزام بالبحور الشعرية لهذه القصائد الدينية وأخذت في تسجيل هذه الألحان كمادة غنائية مثل (هب الصبا الفواح العلالي) وقصيدة (أرج النسيم سرى من الزوراء) وغيرها حتى تجاوزت أربعة عشر قصيدة وزعتها بين المطربين وفرقة الإنشاد وأخذت طريقها إلى المذياع ولم أقف عند هذا النشر فحسب بل شكلنا لجنة مختارة من الدكتور عادل البكري والمستشار القانوني السيد خيري العمري والقس هلاني الذي هو الآخر يحتفظ ببعض الألحان للموصلي وقدمنا طلباً لوزارة الثقافة والإعلام وكان حينها الأديب والباحث السيد عامر رشيد السامرائي مديراً عاماً للديوان الذي رحب بفكرة إقامة المهرجان الذهبي لذكرى وفاة الملا عثمان كذلك لن ننسى وقوف مدير عام دائرة الفنون السيد نوار سليم الفنان التشكيلي وهيئنا الحفل والقائمين على أداء مواده الفنية ووزعنا بطاقات الدعوة لهذا الاحتفال ولضيق الفترة التي يقام فيها الاحتفال تعذر علينا أن ندعو شخصيات من خارج العراق.
في عام 1973 طلبنا من الإذاعة العراقية بتكليف الدكتور مالك المطلبي الناقد والكاتب القصصي بكتابة مسلسل إذاعي في ثلاثين حلقة تذاع خلال شهر رمضان المبارك الذي كان سيحل بعد أيام قليلة، فتم ذلك بالفعل واخترنا الفنان القدير تمثيلاً وغناءً السيد كنعان وصفي لدور الملا عثمان الموصلي للتشابه في الصوت وكذلك اخترنا الصوت الثاني للموصلي في صباه المطرب صلاح عبد الغفور وهو يتلقى دروس حفظ القرآن الكريم من المقرئ السيد عبد الرحمن توفيق وبعد أن سجلنا هذه المواد والتمثيل وإعداد الممثلين لهذا الغرض أقيم المهرجان، شارك فيه مطرب العراق الأول الاستاذ محمد القبانجي بغناء قصيدة نظمها وأداها لحناً وذكر أنه التقى بالملا عثمان الموصلي وسمعه وأسمعه وأثنى على مقدرته في أداء المقام وجمال صوته وطلب منه الاستمرار والمثابرة في هذا المضمار كذلك شاركت أنا بمعزوفة من (وحي الموصلي) بمشاركة الفرقة الموسيقية وعرضنا لوحة المولوية، وشاركت كذلك الفرقة الموصلية ومطربها الكبير السيد إسماعيل الفحام، ولوحات وأغانٍ من الحان الملا عثمان، كذلك صدرت بعض الكتب عن الملا عثمان منها عثمان الموصلي في بغداد للمحامي السيد محمود العبطة، أشادت الصحف العراقية والعربية تشيد بأعمال هذا الرجل الشاعر والملحن والمولوي وقد انهالت برقيات التهاني ودعوات لحضور احتفالات خارج القطر العراقي إلى عمادة معهد الفنون باسم الملا عثمان الموصلي وبعد أن اُذيع المسلسل الإذاعي الذي سجل من قبل الفنانين والممثلين وبعض المطربين طيلة أيام شهر رمضان المبارك.
عمدنا أن نعمل لهذا الفنان المتصوف مسلسلاً تلفزيونياً تكفل بإعداده الكاتب القصصي والشاعر الأديب السيد عبد الإله حسن وتكفلت أنا بإعداد الأغاني والموسيقى لم نأخذ مادة غنائية من المواد التي سجلت بل عمدت أن أضع ألحاناً بنفسي تحاكي أيام هذا الرجل العملاق فكانت الحان لقصائد مختارة من الشعر القديم قام بأدائها غناءً وتوزيعاً الفنان القدير الموسيقار الشاب الملهم السيد فتح الله احمد وقد أبدع في أدائها وموسيقاها عزفاً وتوزيعاً اذكر منها (أشكو الغرام وأنت عني غافل) و (أما الولوع فانه فرض) وكذلك موشح نظمته ولحنته أنا أيضاً (أجمل به من مساء) و (سود العيون) وقصيدة من شعر الملا عثمان (ارج النسيم سرى من الزوراء) اخرج هذا المسلسل الجميل المخرج الراحل السيد جاسم شعن وقد انهالت الطلبات من الفضائيات التلفزيونية العربية على شراء هذا المسلسل الرائع غير ان دخول الجيش العراقي إلى الكويت حال دون ذلك، فضاع هذا المسلسل الرائع مع من ضاع واحترق وسرق فيا حبذا لو أن بعض الفضائيات العراقية الكثيرة في هذا الوقت أو الفضائيات العربية الأخرى أن تتبنى إعادة كتابة وتمثيل وتصوير مثل هذا المسلسل العظيم الذي يجسد حياة رجل عاش في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين الذي جمع الشعر والنغم والادب التي انتشرت في أرجاء الوطن العربي والتي نعتبرها من التراث القديم ونفاخر بما تركه لنا من الحان رائعة مثل فوك النخل فوك وزوروني كل سنة مره التي طورها الموسيقار الكبير سيد درويش، وربيتك اصغيرون حسن، وياخشوف العلى المجرية، بنت المعبود، ويا ام العيون السود، وغيرها، ونعيد ذكرى شعرائنا وأدبائنا وفنانينا وعلمائنا مثل باقي دول العالم التي تمجد عظمائها الذين تركو بصمات جميلة على حين أمصارها، بدلاً من اردد قول الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري إلى الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي مخاطباً

أهز بك الجيل الذي لاتهزه -
نوابغه حتى تزور المقابرا

القصيدة التي حيا بها مطرب العراق الاستاذ القبانجي وغناها بالاحتفال بذكرى وفاة الموصلي

بالألم لاتزد مافي من ألم -
ففي فؤادي من آلام يكفيني
هيجت في النفس من مكنونها حرقاً -
ودمع عيني يبكيها ويبكيني
فأرحم دموعي جزاك الله مكرمة -
فانني ساهر والدمع يؤذيني
عثمان ياخالق الانغام ليلتنا -
طابت بذكراك في عذب التلاحينِ
إني أُحييك من روحي ومن نغمي -
تحيتي مهجتي من بعد خمسينِ
***
تصدّر الملا عثمان الموصلي الموكب الكبير القاصد الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد عليهما السلام عند إزاحة الستار عن قبتيهما الطاهرتين والتي نظمها شعراً الشاعر الكبير السيد عبد الباقي العمري رحمه الله (وافتك ياموسى أبن جعفر تحفة)

وافتك ياموسى أبن جعفر تحفة -
منها يلوح لنا الطراز الأول
رفعت على العنوان من ديباجها -
ديباجة الشرق الذي لايجهل
كم جاوزت قبراً لجدك فاكتست -
مجداً له أنحط السماك الأعزل
وتقدست اذ جللت جدثاً توى -
في لحده المدثر المزمل
نشرت ففاح من النبوة نشرها -
مالمسك مانفحاته مالعذل
أعطيت مالم يحظ يعقوب به -
افخار جدكمو أليكم تنقل.

عن موقع (الموسيقار سالم حسين الامير)