الموصل في سنوات العهد العثماني الأخيرة

الموصل في سنوات العهد العثماني الأخيرة

د.عروبة جميل محمود
شهدت الموصل نشاطا سياسيا أواخر العهد العثماني، وذلك بما امتاز به أهالي المدينة بالقدرة على متابعة الأوضاع العامة، وخصوصا ما يتعلق بالجوانب السياسية واثر ذلك في تحديث التعامل مع السلطة المركزية عبر ادارة الولاة للموصل فبعد اعلان الدستور عام 1908م والذي شكل انتقالة مهمة في كيان الدولة العثمانية اذ بدأ يجردها من طابعها الاسلامي الى المنحى العلماني،

ونشأت على اثر ذلك جمعية الاتحاد والترقي، واطلق عليها تسمية (كلوب club)، والتي تعني في اللغة الإنكليزية النادي، اذ اختير السيد محمد الفخري، معتمدا للجمعية التي نشطت في مدينة الموصل في العهد العثماني.

ولكن الموصليين سرعان ما ادركوا الاهداف السلبية الكامنة وراء مخطط جمعية الاتحاد والترقي وفرعها في الموصل، وفي اثر ذلك، أسس فرع (الجمعية المحمدية) في الموصل والتابع لـ (الجمعية المحمدية)، الجمعية الرئيسة في العاصمة استانبول التي كانت تستهدف التصدي لجماعة الاتحاد والترقي وتتهمهم بأنهم عناصر دخيلة تحاول القضاء على الشخصية الاسلامية للدولة العثمانية.
انتسب الى (الجمعية المحمدية) فرع الموصل عدد من اعيان الموصل والوجهاء الآخرين، وفي مقدمتهم الشيخ يوسف الرمضاني والشيخ محمد الصوفي والشيخ داؤد افندي الذي كان مديرا للمدرسة الدينية الكائنة في جامع جمشيد في محلة المكاوي، والشيخ ابراهيم القصاب، والشيخ محمد ضياء الدين الشعار. وكان تأسيس هذه الجمعية في اواخر عام 1908، وكان مقرها المدرسة الاحمدية الكائنة في محلة باب السراي (حاليا قرب شارع النجفي) وشرعت الجمعية واعضاؤها بالتصدي لآراء الاتحاديين من خلال عقد الاجتماعات والقاء الخطب والمحاضرات التي تؤكد على الحفاظ على منهج الشريعة الاسلامية ومؤازرة السلطان عبد الحميد الثاني، ولكن الاتحاديين جابهوا ذلك باغلاق الجمعية فتوقفت عن نشاطاتها في 26 نيسان 1909م.
ومن الأحزاب التي تصدت للاتحاديين في الموصل (الحزب الحر المعتدل) الذي تأسس عام 1911، وانتسب اليه لفيف من مثقفي المدينة، ومنهم ابراهيم داؤد يوسفاني، ورشيد عمر زاده، وآصف أفندي قائممقام عقرة، اذ كرسوا جهودهم لنشر الآراء المضادة لتوجهات الاتحاديين، والتأكيد على بطلان ادعاءات جمعية الاتحاد والترقي، العلمانية، ونشر آرائهم في جريدة النجاح التي كانت تعبر عن اهداف هذا الحزب آنذاك، وتبعا لذلك ادرك الموصليون مخطط الاتحاد والترقي السلبي، فشرعوا بالاستقالة من حزب الاتحاد والترقي والانتساب الى الحزب الحر المعتدل الذي استمر نشاطه في المدينة حتى وقوع الحرب العالمية الأولى سنة 1914م.
كما نشط في مدينة الموصل حزب الحرية والائتلاف، وهو فرع من الحزب الرئيس في العاصمة استانبول، الذي تشكل في 8 تشرين الثاني عام 1911م بعد هزيمة القوات العثمانية أمام قوات المستعمرين الايطاليين في طرابلس الغرب في ليبيا، مما أثار معارضة واسعة في مجلس المبعوثان (البرلمان) العثماني ضد وزارة حقي باشا (1910-1911) الذي كان يمثل جماعة الاتحاد والترقي، وانضم اليه اشخاص من الحزب الحر المعتدل.
حاول الاتحاديون التنصل من مسؤولية عدم توفير متطلبات الدفاع عن ليبيا، وحاولوا القاء المسؤولية على عهد السلطان عبد الحميد واحتجوا بعدم امتلاكهم لاسطول بحري
قوي. واحتدم النقاش بين النواب الاتحاديين والنواب العرب حول هذه القضية وحاول نائب سالونيك قره صو التقليل من حدة النقاش باعتبار ان المشاكل الداخلية هي السبب، الا ان الامر احتدم عندما اشار نائب طرابلس صادق بك الى اعمال ليبيا وايده في ذلك أحد النواب الاتراك.
تصدى النواب والعرب منهم بخاصة لادعاءات الاتحاديين ومنهم شفيق بك المؤيد (نائب دمشق) وعبد الحميد الزهراوي (نائب حما)، واكدوا تقصير الاتحاديين في الدفاع عن ليبيا وحول مسألة التهمة الموجهة ضد وزارة حقي باشا.
وبالنسبة لردود الافعال العربية تجاه الغزو الايطالي لليبيا فقد عبرت الجماهير العربية من خلال شجبها واستنكارها للغزو واعلنت عن وقوفها ماديا ومعنويا الى جانب الدولة العثمانية واخوانهم الليبيين، ومنها العراق، فقد كان للصحافة العراقية، ومنها صحافة الموصل، الموقف الشعبي، فقام اهالي الموصل في استنكار العدوان عن طريق المظاهرات التي شجبت العدوان. فالفت لجان خاصة لجمع التبرعات وارسالها الى اخوانهم في القطر الليبي، فضلا عما اظهرته صحيفة النجاح الموصلية من دور بارز في نقل الاخبار عن الاوضاع في ليبيا وأبدت الصحيفة استعداد الموصليين في الدفاع عن اراضي العرب.
وعقب التغير السياسي الجديد الذي شهدته الاستانة في اثر هزيمة الدولة العثمانية في ليبيا تشكل فرع حزب الحرية والائتلاف في الموصل، وانتسب اليه ابرز أعيان الموصل الذين كانوا ضمن جمعية الاتحاد والترقي، لكنهم اكتشفوا مقاصدها السيئة، وقدموا استقالاتهم في اثر ذلك ومنهم، محمد شريف الفاروقي، محمد باشا الصابونجي، رشيد سليمان العمري وتجدر الاشارة الى نشاط الفاروقي الذي عمل على تنشيط الحزب ونشر افكاره في اوساط الموصليين عبر جريدة النجاح، اذ نشر مخططات الاتحاديين العنصرية، مؤكدا على وحدة الصف في المجتمع الموصلي عن طريق محاربة افكار جماعة الاتحاد والترقي.
وتأزمت الاوضاع عندما ظهرت بوادر الصراع بين جماعة الاتحاد والترقي من جهة وحزب الحرية والائتلاف من جهة اخرى، فعدّ الاتحاديون انفسهم المسؤولين عن ادارة الموصل بموجب مرجعيتهم السياسية في الاستانة، التي كانت تدعو اتباع سياسة التتريك لذلك اندفع اهالي الموصل عبر مقالات عديدة في جريدة النجاح في الدعوة الى تطبيق فكرة اللامركزية في الحكم. وآزرت الاحزاب الاخرى هذا التوجه ومنها الحزب الحر المعتدل، اذ نشروا مقالا في جريدة النجاح جاء فيه”ان الاتحاديين استمالوا الضباط وتوقفوا في اعلان الدستور، وكسبوا عطف الامة، ولكن بعد استلامهم زمام الحكم وضعوا مبدأ التتريك مقرين مبدأ معاملة الشعوب غير التركية بالشدة".
اتخذ الاتحاديون اجراءات قاسية ضد أهالي الموصل، اذ أقدم القائممقام العسكري صفوت باشا عام 1910 باتخاذا اجراءات لا تتناسب مع مكانة المدينة وأعيانها، وقام بسجن وعزل ونفي العديد من المناوئين لجمعية الاتحاد والترقي، ومنهم آصف وفائي، وصديق الدملوجي، مما اثار حفيظة الاهالي تجاه هذه السياسة التي مارسها الاتحاديون في المدينة، ولذلك يمكن وصف الصورة السياسية حسب رأي احد المشاركين في تلك الاحداث التي كانت سائدة في الموصل، فالمجتمع الموصلي اصبح قسمين”هذا وطني صادق، وهذا غير وطني خائف، الوطني الصادق هو الاتحادي مهما يكن مطعونا في شرفه وسلوكه وغير الوطني هو الذي لم يكن اتحاديا".
ومن الاحزاب التي لها دور في الموصل اواخر الحكم العثماني (حزب اللامركزية الادارية العثمانية)، الذي كان يدعو الى تنفيذ منهج اداري لسياسة الدولة العثمانية، تجاه البلاد العربية بحيث تدار ادارة غير مركزية، ويظهر ان نشاط الحزب كان محدودا في
البداية، اذ ظهرت أولى الاشارات عن نشاط الحزب في الموصل من خلال رسالة مؤرخة في 16 نيسان 1914، تعطي اشارة واضحة الى وجود هذا الحزب الذي كان يتصف بنشاط حركة القوميين العرب في سوريا والتي كان يتزعمها رفيق العظم ومحمد رشيد رضا، وعندها أصدر الوالي العثماني سليمان نظيف أمرا بمعاقبة من يثبت ارتباطه بهذا الحزب، وتم اعتقال، سعيد الحاج ثابت، ابراهيم عطار باشي، داود الملاح آل زيادة، مما أثار الرأي العام الموصلي على هذا الاجراء، وسرعان ما أرسل الموصليون في شهر آيار 1913 برقية الى الاستانة أعربوا عن سخطهم على الاجراءات التي تستهدف الاتجاهات القومية في المدينة، ويبدو ان الصدامات ما بين الاتحاديين وأهالي الموصل وصلت الى حد خطير، وذلك ناتج عن سياسة الاتحاديين العنصرية التي لا تعترف بالقوميات الاخرى في اطار الدولة العثمانية.
أعلن في البصرة عن تشكيل الجمعية الاصلاحية في 28 شباط عام 1913 التي حملت الصبغة القومية من خلال جعل اللغة العربية لغة رسمية في جميع الدوائر في العراق، وتنبغي الإشارة الى ان مؤسس الجمعية الاصلاحية في البصرة هو السيد طالب النقيب، وكان سليمان فيضي قد أخذ منهج الجمعية لفتح فرع(لها باسم (النادي الأدبي) بعد استحصال الموافقات الرسمية بوصفه نادي أدبي غير سياسي، مما أقنع السلطات الاتحادية بالموافقة على فتح النادي الذي جعل مقره في احدى البيوت الكائنة في شارع نينوى.
شرع النادي الادبي بنشاطاته في مدينة الموصل، وكان في مقدمة الناشطين، سعيد الحاج ثابت، محمد حبيب العبيدي، واستقطب العديد من الشخصيات الوطنية والقومية، ومنهم، علي جودت الايوبي، ابراهيم عطار باشي، وتجدر الاشارة الى ان نشاط النادي لم يكن ميسورا، نتيجة مراقبة السلطات الاتحادية المستمرة وخصوصا تحركات رئيس النادي سليمان فيضي، فقد اعتمد النادي أسلوبا جديدا في عمله من خلال ايصال التعليمات الى الاعضاء عن طريق شخصيات مؤتمنة في النادي ومنهم ابراهيم عطار باشي وسعيد الحاج ثابت، الا انه بمرور الزمن بدأ النادي يستقطب الكثير من الشخصيات العسكرية والمدنية، ولذلك شعر الاتحاديون في الموصل بخطورة أهداف النادي القومية، واصدروا أوامرهم الى مدير الشرطة خالد بيك الذي كان يعتمد على جواسيسه وعملائه في نقل اخبار ونشاطات النادي.
لم يقف أهالي الموصل مكتوفي الايدي تجاه تسلط الاتحاديين اذ اقدمت مجموعة من الوطنيين الموصليين على تأسيس جمعية سياسة وهي جمعية العلم وذلك في نهاية عام 1913 وبالتحديد قبل اندلاع الحرب العالمية الاولى بشهرين عام 1914 ومن طلائعها السرية ثابت عبد النور، محمد رؤوف الغلامي، مكي الشربتي، مصطفى أمين الصائغ، رؤوف الشهواني، فضلا عن انضمام العديد من الوطنيين الموصليين الى تنظيم الجمعية وكان اختيار اعداد من الوطنيين الموصليين الى تنظيم الجمعية، وكان اختيار مؤسسوا الجمعية اسم (العَلَم) بفتح العين واللام لكي يستطيع اصحابها تأويل الكلمة من العَلَم الى العِلم (بكسر العين) خوفا من افتضاح امرها من قبل سلطة الحكومة وحكومة الاتحاديين، وكان اختيار الجمعية لاسم العلم تعبيرا عن العلم العربي بألوانه الاحمر والاسود والاخضر والابيض، وهو شعار الجمعية وقد تضمنت اهداف الجمعية تحقيق الاستقلال وتوحيد الجزيرة العربية والعراق بحكومة واحدة، وتشريع القوانين التي من شأنها توفير الرخاء للبلاد، وتجدر الاشارة الى ان الجمعية كانت ذا اتجاه قومي تحرري ثوري يعتمد على الكفاح المسلح ضد الاتحاديين وقد تضمنت هيئة الجمعية اربعة تشكيلات، الهيئة المركزية، وتحددت وظائفها في اتخاذ القرارات وتنفيذها بشكل سري ومنظم، اما المجموعة الثانية فهي (الاعضاء العاملة) الذي يتولى اعداد البطاقات الرسمية الخاصة بالمنتسبين، اما الهيئة الثالثة فتشكلت من الاعضاء الذين يكونون تحت اشراف وادارة الشخص المسجل وضمن مسؤوليته. ولعل من أخطر الهيئات التي تضمها جمعية العلم، وهم الهيئة الرابعة (الفدائيون)، الذين يشكلون عماد الجمعية الاساس في مقارعة جماعة الاتحاد والترقي في الموصل.
واعتمدت الجمعية في نشاطاتها على اسلوب السرية والكتمان الشديد، ولذلك اتخذت اجراءات تتعلق بالتحري الكامل عن الراغبين للانضمام اليها، وفي هذا المجال اتخذت الجمعية من اسمها (علم) ليكون وسيلة التعارف بين اعضائها وذلك بأن يقول العضو الاول (ع) فيجيب العضو الثاني (لام)، ويكمل العضو الثلث (م) فيحصل التعامل بين الاعضاء، فضلا عن اتخاذ الجمعية اسماء مستعارة وذلك تفاديا لاكتشاف التنظيم الذي يؤدي الى انهياره.
وركزت الجمعية في المجال الثقافي على (القومية العربية)، التي كانت تناقش مضمونها في مقر الجمعية الكائن في دار محمد رؤوف الغلامي في محلة خزرج الموصلية، وذلك لغرض التمويه على السلطة الاستعمارية البريطانية، كما وسعت الجمعية نشاطاتها على المستوى الاجتماعي فقامت بتأسيس واجهات ذات تسميات تربوية واجتماعية، ومنها تأسيس مدرسة دار العرفان ومدرسة النجاح ومكتبة الخضراء.
ونشطت الجمعية على المستوى الاجتماعي العلني وذلك عن طريق نشر المعلومات التي تحث المواطنين في الموصل على عدم مؤازرة الاتحاديين وذلك من خلال تخلي ابناء المدينة عن الخدمة في الجيش العثماني، والالتحاق بقوات الثورة العربية الكبرى في الحجاز حزيران عام 1916 بقيادة الشريف حسين بن علي. واستمرت نشاطات الجمعية ابان الاستعمار البريطاني، فعند دخول قوات الاستعمار مدينة الموصل في 30 تشرين الاول عام 1918م، ظهرت ممارسات المستعمرين البريطانيين، مما دفع الجمعية الى الانعقاد مرة اخرى انعقاداً طارئاً لبحث الواقع السياسي والاجتماعي لمدينة الموصل في ضوء الممارسات الاستعمارية البريطانية السلبية في المدينة، فأرسلوا بكتاب رسمي من الجمعية الى قائد الجيش البريطاني الذي كان قريبا من منطقة (البوسيف) في الضواحي القريبة من الموصل، مذكرين هذا القائد البريطاني بان بريطانيا قد أعطت وعودها للشريف الحسين بن علي باقامة الدولة العربية الكبرى بعد انسحاب العثمانيين من المنطقة العربية، مستفسرين عن تلك الوعود فكان جواب ليجمن”انه لا يعترف بشيء من العلاقات ما بين الانكليز والشريف حسين وان الشريف انما هو رجل ثائر على الاتراك وان ثورته تلك لم تكن بذات اهمية في نظر الانكليز ولا يعيرونها اهتماما... وان بريطانيا احتلت العراق وسوف تسعى الى رفع مستواه عمرانيا”وعندها ادرك اعضاء الجمعية نوايا الاستعمار البريطاني، ولذلك قرروا مقارعة هذا الاستعمار بأشكاله كافة.
وقبيل اندلاع الحرب العالمية الاولى، وفي سنة 1913، بدأت حالات الصراع بين الاتحاديين وأهالي الموصل تأخذ منحى جديدا يتمثل بتزايد الوعي القومي العربي لمجابهة سياسة الاتحاديين العنصرية، اذ تشكل تنظيم من الضباط ذوي الاتجاهات القومية، امثال أمير اللواء أسعد باشا الدرزي، المقدم ياسين الهاشمي، والضباط فوزي القاوقجي، عبد الله الدليمي، محمد حسون، عبد الرحمن شرف، مختار الطرابلسي، محمد شريف الفاروقي، وجميل روحي، عاصم حافظ، توفيق الجلبي، مولود مخلص، علي جودت الايوبي الذين قاموا بتشكيل الفيلق الثاني عشر العثماني الذي اتخذ من مدينة الموصل مقرا له، اذ اتصل هؤلاء الضباط بالضابط عزيز علي المصري في العاصمة الاستانة، واتخذوا قراراً في نهاية عام 1913 بتأسيس فرع جمعية العهد بالموصل، وحصلت الموافقة على فتح فرع للجمعية في الموصل في أثر عودة الضابط عبد الله الدليمي الى الموصل قادما من العاصمة الاستانة وفي عهدته مشروع فتح الجمعية، والتقى مع مجموعة من الموصليين منهم داؤد الجلبي، ومولود مخلص باشا وتم الاتفاق على تأسيس فرع جمعية العهد في الموصل.
حافظت جمعية العهد على اتصالها مع المركز الرئيس في استانبول، في خضم نشاطاتها، واستطاعت من استقطاب العديد من المثقفين المدنيين ومنهم ابراهيم عطار باشي، سعيد الحاج ثابت، محمد رؤوف الغلامي. واتصفت نشاطاتها بالانضباط والسرية والكتمان الشديد، حفاطا على نشاطها وخشية من مداهمة السلطات الاتحادية، اذ عملت على فضح السياسة للاتحاديين تجاه الامة العربية، لكن بقصد الانفصال بل اشارة الى السياسة العنصرية الواضحة للاتحاديين(.
وعلى الرغم من ذلك فقد تعرضت الجمعية الى مداهمات من قبل الاتحاديين جراء تسريب معلومات عن نشاطاتها في الموصل، ناهيك عن اندلاع الحرب العالمية الاولى عام 1914، مما أدى الى إيقاف نشاطاتها، وفي ذلك يشير محمد رؤوف الغلامي الى”ان عبد الله الدليمي أخفى ختم الجمعية في سرداب داره،وانتهت بذلك اعمال الجمعية في الموصل".
بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى واحتلال بريطانية عام 1918م وانقسام جمعية العهد التي ظهرت في سورية الى عهد سوري وعهد عراقي عام 1919م، فقد جرى الاتصال من قبل (جمعية العلم السرية) التي تأسست في الموصل والتي كانت ذات مسار ثابت في أهدافها مع جمعية العهد بدمشق والشام، وأفرزت نتيجة الاتصال قرارا بتوحيد الجمعيتين بجمعية واحدة، باسم جمعية العهد العراقي اعتبارا من 24 مايس 1919م وغدت فرعا للمركز العام بدمشق ومن منهاجها، تعزيز القوى القومية وتوحيد الجهود الوطنية بينهم وبين المركز العام بدمشق وفروعه في كل من حلب ودير الزور وبغداد تجاه الخصم الجديد بريطانيا.
ولم يقتصر نشاط (جمعية العهد فرع الموصل) على مناوءة سلطات الاحتلال البريطانية وحسب، بل دخلت في صراع مع الجمعية التركية التي تشكلت في الموصل عام 1919م، وكانت تنشر فكرة ضم الموصل الى تركيا، بينما كانت جمعية العهد تقوم باصدار النشرات لتنفيذ دعاوي هذه الجمعية وتعري اتجاهها. الا ان جمعية العهد رأت عدواً مشتركاً فيما بعد انه من المستحسن الاستفادة من الاتراك اذ ليس من الضروري معاداتهم ما دام هناك عدو على ارض العرب والاتراك معا. كما لاحظت من غير اليسير الوقوف بوجه الأطماع البريطانية بالامكانيات المحلية، دون الاستناد الى قوة اخرى، ولذلك فقد بعث فرع الموصل برسالة الى المركز العام يطلب اغتنام من هذه الفرصة المتاحة.
وعملت جمعية العهد في الموصل بالتنسيق مع المركز العام في دمشق بتعبئة الرأي العام العربي والمحلي الموصلي بخاصة، وبدأت تستعد للثورة لا سيما بعد إعلان معاهدة سان ريمو في نيسان 1920م،وغدت الموصل ضمن المنطقة المقررة تحت الانتداب البريطاني.
وانبثقت في الموصل نشاطات سياسية بواجهات علمية، اذ اقدمت مجموعة من مثقفي المدينة على تأسيس (النادي العلمي) وذلك في تشرين الثاني 1918م، واتخذوا من العلم الادب والفكر طريقا لمقاومة الاحتلال البريطاني، وكان مقر النادي في احد الدور الكائنة قرب جامع الخضر (جامع الأحمر) على شاطئ نهر دجلة، وأعلن النادي افكاره داعياً الى إعادة ماضي الأمة العربية، فتقدموا بطلب الى الحاكم السياسي في مدينة الموصل ويدعى ليجمن بطلب الموافقة على تأسيس النادي، فحصلت الموافقة على ذلك.

عن رسالة
(الحياة الاجتماعية في الموصل 1834-1918)