صمويل بيكيت في ذكرى مئويته الأولى (1906 ـ 1989)   نهاية اللعبة” أو كلام الزمن الميت

صمويل بيكيت في ذكرى مئويته الأولى (1906 ـ 1989) نهاية اللعبة” أو كلام الزمن الميت

بول شاوول
"نهاية اللعبة”هي المسرحية الثانية التي كتبها صموئيل بيكيت بعد”في انتظار غودو”ويعتقد النقاد أن هذه المسرحية أكثر بلورة وقوة، وكثافة، وتقنية، (أي درامية) من مسرحيته الأولى. وإذا كان بيكيت في هذه المسرحية الأولى”في انتظار غودو”جرب الكتابة المسرحية أشياء من الرواية والشعر، فإنه في مسرحيته الثانية امتلك وبسرعة مذهلة الأدوات والتقنيات المسرحية التي تجسدت خصوصاً في اللغة، وفي تحريك الشخصيات، والحوار والحركات.

البعض يعتبر أن”نهاية اللعبة”هي الثانية في ثلاثية تبدأ بـ"في انتظار غودو”وتنتهي بـ"الشريط الأخير"، ولكن هذا الاعتبار يفترض أن بيكيت أحدث تحولاً أو تغييراً في مساره المسرحي، لتشكل هذه الأعمال الثلاثة”بنية”تختلف عما أعقبها من مسرحيات:”آه من الأيام الجميلة"،”فصل بلا كلام"،”كلمات وموسيقى"،”كل الذين يسقطون"،”كوميديا"، و"قل يا جو".. وإذا تفحصنا مجمل هذه الأعمال، ومجمل أعمال بيكيت يمكننا القول كأنها عمل واحد، بلغة تقريباً واحدة، وبمناخات واحدة، وبشخصيات تخرج من بعضها وتتشابه حتى التطابق أحياناً، بيكيت من أصحاب العمل الواحد تماماً كيونسكو في المسرح وبودلير ومالرمة وسان جون برس ورينه شار في الشعر، وجاكوميتي ودالي في الفن التشكيلي. وهؤلاء لا يفجرون مراحل (كما الحال مثلاً عند بيكاسو في الرسم وعند هنري مشو في الشعر)، بقدر ما يعمقون مرحلة واحدة، يكررونها، ويبلورونها، ويتعاطون لغة واحدة وإن أخفت في تضاعيفها تنويعات لا حدود لها. وبيكيت في هذا المجال ليس كاتب”مراحل”فالمراحل تفترض”اعترافاً”بتحولات زمنية وصيرورة، وأحياناً”رقماً”اعرافاً، ونظماً، وبيكيت كاتب سكوني، جواني، لا زمني، كأنه، لا يزال أمام الشجرة التي وصفها في”في انتظار غودو”ومع استراجون وفلاديمير، والقبعات والحبل، ومن ثم مع هام وكلوف وناج ونيل وكراب.. وأمام اللحظة التي لا تتحرك، والزمن في نقطته الصفر، والساعة المعطلة، والوجوه والتقاسيم والملامح والقامات التي تنقرض في لحظاتها الأخيرة. أو بالأحرى في شقوق لحظاتها الأخيرة. وكما قلنا في كلامنا على مسرحية”في انتظار غودو”فإن بيكيت ليس من أنصار (هراقليط) ولا الفكر الصيروري، وتتحرك أعماله في دائرة مغلقة كل ذاتها، معدنية، البداية هي النهاية والنهاية تتكرر في البداية وهكذا دواليك. (والتكرار جزء أساسي من تقنية بيكيت) لهذا يمكن القول إن أعماله تذكر ببعضها، لأنها تطلع من بعضها لأنها ذاكرة بعضها. ومن الصعب الكلام عن انفصال ما بينها عن نسيان كتاب المراحل يعمدون أحياناً الى إلغاء الذاكرة الى البدء من جديد. الى لغة جديدة، وربما الى رؤيا جديدة وإلى موقف جديد، لأنهم في سياق اكتشاف”ما لا ينتهي”في أسر”المطلق”بيكيت كأنه”اكتشف”كل شيء (في العدم طبعاً)، ومن يكتشف كل شيء في لحظة من لحظاته، يعني أنه وصل الى سكون ما، الى”موت”ما الى آخر محطة من محطات القطار. وعندما نتكلم على ثلاثية ما أو رباعية ما عند بيكيت، نقع، من حيث ندري أو لا ندري في تقسيم اعتسافي لمرحليات مفترضة أو مفروضة. وعندما نقول، ككثير من النقاد، إن مسرحية بيكيت هذه تكمل الأولى، أو تكمل الثالثة، نقع أيضاً، في نوع من”الزمنية”التي كان يمجها بيكيت.

فالإكمال يعني”تطوراً”ويعني زمنية في المعنى الروائي والمسرحي وبيكيت ليس”زمنياً"، إنه بالأحرى تزامني ومسرحياته كلها تقريباً مسرحيات تزامنية، لأنها تحفر لحظاتها في ذاتها، وفي شخصياتها، وفي حواراتها، وفي ايقاعاتها.

مسرح النهايات

لأنه مسرح النهايات، وليس مسرح البدايات مسرح التساقط. وفي مسافة التساقط لا يعود ثمة قياس لتطور أو لتفكير، سوى تزامنية التساقط وكل شيء العالم، القامات، الأجساد، التواريخ، الذاكرة، إنها في لحظة سقوط تتزامن ونفسها تنتهي الورقة منذ انفصالها عن الشجرة، ولا تهم بعدها، مسافة تساقطها الى الأرض. لأنها مسافة من العدم إلى العدم. وحركة الورقة في تساقطها، حركة أيضاً من العدم الى العدم.

من هنا القول إن نهاية اللعبة تتقاطع كثيراً وفي”انتظار غودو”التي تتقاطع بدورها و"الشريط الأخير"، وآه من الأيام الجميلة.. إلخ”لكن يختلف الديكور، وتغيب تفاصيل، ويبقى الجوهر.

في”انتظار غودو”تلعب لعبة اللاشيء، والانتظار، والعزلة، والعدم في الهواء الطلق، بشخصيات وأدوات مستعارة”من السيرك”وفيها الدعاية التي تبدو أشرس تعبير عن مأساة الحياة، وشقاء الإنسان في وضعه الإنساني يتغير الديكور في”نهاية اللعبة”مهرجو الانتظار يصيرون مهرجين مخلوعين، مهرجي الموت، والانقراض، والعبث والعجز، مهرجين هرهرت ابتساماتهم وأضراسهم وشهيتهم ورغباتهم، مهرجين طردوا من السيرك. وفي”نهاية اللعبة"، يتجسد التقاطع في الانتظار. هنا أي”انتظار غودو”مسافة لهذا الانتظار الذريعة، هي مسافة كلامية. هنا فقط، تلغى هذه المسافة. والشخصيات تنتقل من المسرحية الأولى الى الثانية لكن من دون أمتعة ولا قبعات، ولا أحذية، ولا حبال، تترك حقائبها على العتبة وتدخل، فعلاقة السيد والمسود والمتجسدة في”في انتظار غودو”ببوزو ولاكي، تتكرر هنا مع هام وكلوف، وإن في مواصفات”أخرى”ونجد في هام كثيراً من”صفات”فلاديمير، القلق الذكاء المتوقد. كما نجد في كلوف جوانب من لاكي: الطاعة، وإن تميزت بطبيعتها وسلوكها. ونجد كذلك تشابهاً بين مصير بوزو عندما يصير أعمى في الفصل الثاني ويقوده لاكي وهام القعيد الذي يحركه كلوف أي يصبح الاثنان في حاجة الى”حركة”الآخر، الى”عين”الآخر والعلاقة المسرحية التي كانت أساسية بين فلاديمير واستراجون اساسية كذلك بين هام وكلوف. هام يبدأ كلامه”جاء دوري في اللعب الآن إنه دوري"، وفي هذا مزج”اللعب”بالمأسوي الواقع باللاواقع، وكما تسمى في التقنية المسرحية”لعبة المسرح داخل المسرح".

لماذا ربما قد تكون شخصيات بيكيت شخصيات مسرحية تلعب، وهي تمزج اللعبة بالفاجعة، والصراع بين غرائزها ونوازعها من دون أن تتجنب، ضمن هذا اللعب نفسه أن تمارس على بعضها أقسى أنواع السادية والعنف، ومن دون أن تنتقل في لحظة، من أقصى الحنان الى أقصى القسوة، ومن التهريج المضخم، والتفصيلي والتوافه الى التأمل في الكون والى إلقاء خطب بليغة، ومؤثرة. كل هذا في لعبة أعظم ما فيها أنها لا تنسى أنها لعبة، وفي الوقت ذاته، تغرف الواقع من لعبة الواقع، الى واقع اللعبة، وبينهما يلمع الفاجع الكوني بكل بأسه وسخريته وشقائه:”عليَّ أن ألعب. وبما أن اللعب هكذا فلنلعب".

الشطرنج

.. من فصل واحد، مكثف متوتر، مختزل، شخصياتها، يحركها بيكيت بمهارة وقدرة ودقة، كما يحرك اللاعب الماهر حجارة الشطرنج يضبطها فلا استرسال، (كما نجد أحياناً في”في انتظار غودو").

ولا كسور في الايقاع أربع شخصيات”عائلية”الجدان (ناج ونيل) الابن (هام)، والابن، (أو الصديق، أو الحواري، أو الخادم). واصطلاحاً تمثل هذه الشخصيات الثلاثة أجيالاً، معطوبة، بالعاهات الجسدية وغير الجسدية. هام قعيد وضرير، ينزف، قابع في كرسيه المتحرك، يتحكم بالآخرين (إنه في وسط الغرفة) كلوف (الابن)، الوحيد القادر على الحركة (لكنه لا يستطيع الجلوس)، يدور حول هام ينفذ أوامره بتأفف ونفور، وهو، على أهبة دائمة للرحيل (لكنه لا يرحل كمعظم شخصيات بيكيت وتحديداً استرجون)، متشاغلاً بذهاب ومجيء بين كرسي هام المتحرك والمطبح حيث”يتمتع”بمراقبة”النور الذي يذبل على جداره”في صندوقي قمامة، عجوزان كسيحان أيضاً (والدا هام) هذه الشخصيات”العائلية”كأنما تحركها قدرية أشبه بالقدرية الأوديبية، ولكن تختلط هنا، وإلى حد كبير الملامح والتقاسيم. هل هي لعبة سادية متبادلة؟ هل لعبة مازوشيه محفرة؟ هل هي المسافة الملغاة نحو الهاوية والانقراض؟ هل هو”ثأر”قدري؟ هل هو تماثل وشخصيات قدرية أخرى غيبية وغير غيبية؟

المكان مغلق نافذتان عاليتان لا يستطيع أن يتسلق اليهما، بالسلم سوى كلوف عين هام الى الخارج”حيث الموت”والموت يفوح في المكان (وفي العالم أيضاً). هذه القدرية قد تتمثل بهذا المكان المغلق، مما قد يفرض تواجد هؤلاء الناس مع بعضهم والمكان المغلق، الذي لا يقطعه دورانا سوى كلوف محرم على الباقي لأنهم قعيدون. إذن فقدرية التساكن بامتياز، هذا المناخ الخانق العابق بالعبث وبالموتى، وأحياناً بالتذكارات والحنين”الى الخارج”والهروب ليس”مسرحاً”لأي حدث فعلي. لأي تغيير. مكان واحد. شخصيات واحدة. ربما كلام واحد.

أي مكان متكرر. شخصيات متكررة. كلام متكرر في زمن ميت في الوقت الصفر. العقرب المتوقف على الصفر. الصفر الكوني. حيث تجمد الأشياء، والفصول، والأمطار، وحيث التكرار، تكرار في الصفر، في العدم، وإذا كان لم يحدث شيء في”في انتظار غودو”تكرار في فصلين، ففي”نهاية اللعبة”لم يحدث شيء إطلاقاً. بلا أحداث اللهم إذا اعتبرنا”تحريك”هام في أرجاء الغرفة، وملامسة الجدران حدثاً، أو ما يرويه كلوف عن اكتشاف جرذ، حدثاً، أو موت نيل في صندوق القمامة حدثاً. لكن في مثل هذا المناخ الصفر، حتى الموت يكف عن أن يكون حدثاً لأنه، في الواقع الفعل الحقيقي البارز، ولأنها في النهاية، وإن لم تكن مسرحية تحكي عن الموت، فإنها مسرحية تحكي الموت بألسنة ووجوه وأوضاع شخصياتها.

هام: المنزل كله يفوح برائحة الجثة.
كلوف: كل العالم.

هام (بغضب): فليذهب العالم الى الجحيم. الموت هو الحدث (اصطلاحاً) وهو اللا ـ حدث.

هام: ماذا يحدث ماذا يحدث؟
كلوف: شيء يتبع مجراه.
ولكن بما أن بيكيت كان يرعبه أن يكون كاتب”مواضيع”ومعالج”أفكار”عن الموت، فقد قتل (بلعبة المسرحة) الفكرة فكرة الموت في الحوار.

هام ألسنا في صدد أن نعني شيئاً؟
كلوف نعني؟ نحن نعني؟ (ضحكة قصيرة(هذه نكتة ظريفة.

لكن تجاوزاً هذا الهروب البيكيتي من الوقوع في التذهين، وفي المواضيع الكبرى أو الصغرى، يتقدم الحدث المتصل بالموت، عبر هذا التفسخ البطيء للكائنات، هذا التقهقر الكوني، في العجز، وفي العزلة، وفي الانغلاق، والتمزق، والشقاء، لا من مسعف، ولا من منجد، لا من هنا ولا من هناك... قدرية مرعبة، تطول الى الجسد والى الروح والى العلاقات، والى جوهر الأشياء، شعور عميق بالهزيمة ازاء هذه القدرية. الطاغية السرية، العمياء، الطرشاء، البكماء، المعدنية، القاسية...

القدرية

القدرية تحول ضحاياها الى موتى تنفيهم، تمجهم تهلهلهم، تنصبهم على مرمى بطشها، القدرية تحول الناس الى موتى، العلاقات القائمة بينهم، ولأنها محكومة بشروط مبرمة، هي علاقات موتى بموتى. ولكن ما يرعب أن يعي”الموتى”(بالقوة) هذه القدرية التاريخية والكونية والميتافيزيقية، منهم من يتمرد عليها ولكن الى قدرية أخرى، ومنهم من ينساها، ويغرق في”الحياة”ومنهم من يستسلم ومنهم من ينتحر، ومنهم من يتصل بعبثية وبأقنعة وبكلام. شخصيات”نهاية اللعبة”يواجهون قدريتهم بشروط الانمساخ في، والانغلاق، يواجهون العدمية التي هي زهرة القدرية السوداء، في”سجن"، في مواجهة يومية بينهم فكأن القدرية هنا مضاعفة: (1) قدرية النسب (2) قدرية المكان، (3) قدرية العجز، (4) قدرية التفسخ، (5) وقدرية الحاجة أيضاً الى بعضهم. ولهذا فهي شخصيات صنعت منها القدرية المبرمة، كائنات متناقضة، تتأرجح بين الصفات والأمزجة”المتناكرة”بل كأنها شخصيات أقنعة، لتأدية هذه اللعبة الجهنمية...
هام والاسم يمكن أن يذكر هنا بـ"هاملت"، أو بـ"هام”(جامبون)، أو بـ"هوم”(الانسان)، و"هوم”كذلك (بيت) ويمكن، من خلال هذه”الاجتهادات”الاسمية أن تقترب من تكاوينه”المتناقضة”فهو رغم عجزه الجسدي التام، يصر أن يكون في وسط الغرفة في وسط العالم. في المحور.
ومن هذا المحور الكوني يلعب لعبة الطاغية، هؤلاء يتحكم بالثلاثة الآخرين. يجد متعة في تعذيب الآخرين يفتح تاج فمه فيبادر الى شتمه”بانسل اللعنة”لأنه يذكر كثيراً ببوزو في الفصل الثاني من”في انتظار جودو"... وعندما يخبره كلوف بأنه يرى شيئاً يسأله:

كلوف (يقرب السلم من النافذة يتسلقه يصوب المنظار صمت...) ايه! اييه!
هام ماذا ترى؟ ورقة؟ زهرة بندو (يتثاءب) حبة؟
كلوف (ملتفتاً) سأطلب لك بندورة... إنه شخص ما... شخص ما...
هام آه! حسناتً... اذهب وأبده! (كلوف ينزل عن السلم) شخص ما... (منتفضاً) قم بواجبك (كلوف الى الباب بسرعة) كلا لا داعي لذلك؟ (كلوف يتوقف) ايه مسافة؟
كلوف (يعود الى السلم يتسلقه يصوب المنظار) اربعة وسبعون متراً...
هام مقترباً مبتعداً؟
كلوف (لا يزال ينظر) جامد.
هام الجنس؟
كلوف أية أهمية؟...

هذه السادية البارزة عند هام (الجامبون) هذا الجبروت جبروت الطاغية والسلطة والتعذيب صورة أخرى، أو الصورة. الضعيف، الذي يحتاج الى الآخرين، فوالداه اللذان وضعهما في صندوقي قمامة، ويأمر كلوف بإطباق الغطاء عليهما، ويعد والده بحلوى ولا يفي بوعده، وينهرهما عندما يستسلمان للتذكر والحنين يبدو أنه لا يستغني عنهما، ويبقى”الابن”الذي يحتاج إليهما، يحتاج الى صوت والده ليطمئنه: ينادي مرتين: أبي! أبي! ويريد أن يتأكد من أنه سمعه. كأنه وهو الجلاد يتماهى بصورة المسيح على الصليب وهو ينادي”أبت! أبت لماذا تركتني؟". وتبدو هذه الحاجة وهذا الضعف، أقوى مع كلوف. فهو متخوف دائماً من أن يتركه.

هام لماذا تبقى معي؟
كلوف لماذا تبقيني؟
هام ليس من رجل آخر.
كلوف ليس من مكان آخر.
هام مع ذلك تتركيني.
كلوف أحاول
هام أنت لا تحبني
كلوف كلا!
هام فيما مضى كنت تحبي.
كلوف فيما مضى.
هام ألمتك كثيراً أليس كذلك؟
كلوف ليس هذا المهم.
هام ألم أعذبك كثيراً؟
كلوف نعم.
هام آه! مع ذلك أعتذر... أقول أعتذر.
كلوف أنا سامع. ألم تنزف اليوم؟
هام أقل من البارحة. ألم يحن وقت المسكن؟
كلوف كلا!

وإزاء هذا الضعف الانساني (أو الحاجة) إزاء والده وإزاء كلوف يتهيأ هام في ضعف”وجدوي"، يتجسد في هذه التساؤلات والتأملات الرثائية:

هام (عى وضعه) حسن! (كلوف يخرج، صمت) على أن ألعب. (يخرج منديله، يفرده، يمسك به بطرف يده، ناشراً إياه) الأشياء تتقدم (صمت) نبكي. نبكي للاشيء، كي لا نضحك وشيئاً فشيئاً... حزن حقيقي، يجتاحك (يطوي منديله يعيده الى جيبه، يرفع قليلاً رأسه) كل هؤلاء كان في إمكاني أن أساعدهم! (صمت) أنقذهم (صمت) كانوا يخرجون من كل الأمكنة (صمت بضعف) لكن فكر، فكر، أنت على الأرض ولا علاج لذلك.

كأن هام صدى لـ"هام”(الجامبون) بما في ذلك من انحطاطية، وصدى لهاملت بما في ذلك من تأملية (أو”لير”في لحظات يأسه)، أو هوم (الانسان) في تعميم مأساته، أو الطفل، أو بالأحرى الرجل الذي ازاء لحظاته البائسة الأخيرة، من العجز، والهرم والعاهة، يستبقي من ملامح الطفولة أنه الطفل الكبير...

أما كلوف، فيبدو أكثر تشاؤمية من هام، وأقل تذكراً، وارتباطاً بالماضي، وبأشياء الغرفة كأنه أحياناً لا يحب يمارس مهنة”الخادم”وكأنه أحياناً”عين هام”وكذلك”عقله”الصافي، الواقعي، انه أكثر الشخصيات هدوءاً والتصاقاً بشروط”القدرية"، حتى كأنما انتفى الصراع الذي يطلع أحياناً من كلام هام، أو الحنين الذي يبديه كل من ناج ونيل بل كأنه أكثر الشخصيات عدمية بمعنى التحرر من كل الأحمال”الانسانية”كالماضي، والتذكارات، والعواطف... وإذا”المنبه"،”الموقوت"، وفي الوقت ذاته”الغائب”الذي يدور والقلق الذي ينتقل بين النافذتين ليطل على العالم الخارجي ويشهد على”أفول العالم”فهو كذلك الشاهد، والرائي، والذي”يحلم”كهام، في الخروج، لكنه يتردد حتى آخر المسرحية وهو في الوقت ذاته”الشفوق”(إذا صحت العبارة، والمازوشي الذي لا يحسم خروجه، والسادي الذي لا يتورع عن مقارعة هام رغم خضوعه له، ولا يتورع عن ضربه بالكلب الدمية، ولا يتورع عن تكثيف جو التيئيس، وأحياناً اللامبالاة ولا أعرف لماذا يذكرني، والى حد، بشخصية”الغريب”عند كامو، في علاقته بجديه (نبيل وناج)، علاقة تتسم بالامبالاة، وربما بالآلية، الى هذه جانيا الملاح، تجد صورة أخرى له أو جوانب أخرى، (تماماً كما هي الحال مع هام) فهو المحدث والمحاور، (وهنا نتذكر دور استراجون بالنسبة الى فلاديمير) وهو الذي يرتبط بعلاقة ما، هي شفقة أو حنان، سيان:

كلوف (الى هام) لا أستطيع أن أنهضك وأن أنيمك كل خمس دقائق. لدي مشاغل أنهضتك منذ قليل.

ولعله يعرف ويدرك أنه (أي كلوف) صنيعة هام (سواء كان ابنه أو خادمه أو صديقه).

كما أن ماكمان صنيعة مالون، والى حد استراجون صنيعة فلاديمير...

وربما هذا الوعي (الى عوامل أخرى). وراء تردده في ترك هام أو بالأحرى عدم قدرته على ذلك.

يقابل هذا الثنائي هام ـ كلوف، الثنائي نبيل ـ ناج، والدا هام، وجدا كلوف، وهما شخصيتان أقل تشاؤمية من هام ومن كلوف، تعيشان في القذارة أيامهما الأخيرة وتتذكران قصة حبهما وحكايات تضحك، أو بالأحرى حكاية يرددها تاج وهي قصة الخياط وزبونه.

عن صحيفة المستقبل اللبنانية