ذكريات صحفية وادبية..بين الجواهري وعبد القادر البراك وزهير احمد القيسي

ذكريات صحفية وادبية..بين الجواهري وعبد القادر البراك وزهير احمد القيسي

مهدي شاكر العبيدي
وقع في يدي - أي الكتب ــ كتاب (الجواهري مسيرة قرن) وكتاب (النهر الثالث)، خصصتهما بمبحثين. وبقيت في نفسي أشياء من كتاب الدكتورة خيال الجواهري لم أعُقِب عليها وأميط اللثام عما انطوت عليه سرائر كتابها من طيبةٍ وبراءة ومشايعة للجواهري بحيث تصوروا أو اختلقوا وقائع حسبوها فعلية لا يجادلهم فيها أحدٌ أو يردها عليهم بكل ما زانها من انتحال ٍ أو كذبٍ مصنوع، إنما أوحى بها، واستتبعتها (مُودَة) الانحياز والاصطفاف جنب الجواهري، فهي مقبولة ومعصومةٌ من التفنيد والاعتراض..

ومن قبيل تلك المقالات المستحقة لتبيان خطلها مقالة الأستاذ (إبراهيم الحريري) الذي رسم منذ استهلالتها لوحةً قصصية لاندماجه بالمجتمع البغدادي قادماً من لبنان، فاختلط بأقطاب الحركات السياسية، واستكنه نوازعهم وأطوارهم، أقول ذلك إذا ساعفتني الذاكرة لأن المطبوع ذاك خلفته ورائي في بلاد الشام مع رصيفاته من أكداس الكتب مودعاً لدى عائلة سورية معرقة في الولاء لبلادها لا للذين يناضلون في الخارج، وانتظر سانحة من الوقت يتغلب فيها داعي العقل والتؤدة والحكمة على الاندفاع والهوس، وتصير الأمور الى موادعة، ويغدو درب الشام سالكاً مأموناً، فاسترد ودائعي، وعندها يصح تيقني أكثر لدن مراجعتي وتمحيصي لمحتوى كتاب الدكتورة خيال بأن الأستاذ ابراهيم الحريري سجل في مقالته تلك : أن الكاتب الموسوعي زهير أحمد القيسي كان من هيئة تحرير جريدة”الجهاد”خاصةً في شهري أيلول وتشرين الأول من عام 1952 م، حين انتقل بها من زقاق متفرع من شارع الرشيد قرب مقهى عارف المزال الى درابين في الجهة المقابلة، هي اليوم مكتظة بمحال المطابع الأهلية وتفضي الى ساحة السراي القديم، وتتصل من جهة اخرى بعد قطع المارة مسافة وشوطاً بشارع حسان بن ثابت الذي من أهم شواخصه مقهى الزهاوي التراثية منذ ذلك التاريخ البعيد، وتلك الأيام شهدت صدام الشاعر الكبير برجال الأحزاب الوطنية وتحرشه بهم وطعنه بذممهم وشجبه اصطفافهم مع هيئات وأسماء خالهم هادري دم أخيه جعفر، فلا حق لهم في التباكي على ما بلغته أوضاع البلاد من سوء حين تقدموا جميعاً الى الذات الملكية بلوائحهم ومذكراتهم شارحين فيها ما هو مألوف على جاري العادة وطوال مختلف الفترات والعهود من استشراء الفساد في دوائر الحكومة، وانتفاء الحياة الديموقراطية في حكم البلاد، واستهداف المطالبين بأدنى حقوقهم وتعرضهم للتنكيل والاضطهاد، وتحميل المتبوئ بالنيابة عرشَ البلاد لمدة أوشكت على الانقضاء، لكن تطوله التبعة والمسؤولية في إيدائها لشر النهايات، هكذا اجترأ بعض رموز الحركة الوطنية على مخاطبة المقام الملكي، وكل هذا لا يعتده الجواهري بحسبان، فتوالت مقالاته النارية يلاحيهم فيها بأنهم طبقة من جنس الطبقات التي تتداول الأمر والنهي، وتحاكيها في نمط معيشتها واسلوب حياتها، هذا ما أذكره منها جيداً وبخاصة من وسمهم بالطبقة.... وهي في عمومها من الأدب الرفيع والبيان السامق الفائق الذي لا يصدر إلا عن وجدان مغتلٍ ونفسٍ جياشة الشعور.

فأين كان زهير القيسي يومذاك؟.. كان يشتغل مترجماً لموضوعات تعكس ماجريات الصراع الناشب بين ساسة الدولتين الكبريين حول امتلاكهما لأسلحة الدمار والفتك، مما يلذ ويستهوي قراء جريدة الجبهة الشعبية لسان حزب النخبة من الأقطاب المتجمعين والملتئمين في حزب الجبهة الشعبية المتحدة، وكانوا على رأس المعارضة الرامية لتخليص البلاد من أزماتها المتسببة عن استئثار حزب الاتحاد الدستوري وانفراد أعضائه بالحكم وتوليهم المناصب جمعاء، وفي حالة تعريف القارئ بأسماء بعضهم : مزاحم الباججي، محمد رضا الشبيبي، طه الهاشمي، عبد الجبار الجومرد، صادق البصام، عبد الرزاق الظاهر و عبد الرزاق الشيخلي. يستبين له كم هم مختلفون في مشاربهم ونزعاتهم، فلا غرو أن رماهم أحد الأحزاب بتمثيلهم النفوذ الأمريكي القادم الى المنطقة نتيجة الاختلاف والتضارب بين المصالح البريطانية والامريكية، هكذا يتعجل المحللون المحسوبون على بعض الحركات والتيارات والشلل في تفسيرهم والقطع برأيهم حيال بعض التطورات والأحداث مثلما راموا الوطني الإيراني”محمد مصدق”بعدم الجدية في جماع مطالباته وتعدوه الى تردده وتخاذله لكونه برجوازياً يخشى تجريده من سلطته وانتزاعها منه وانتقالها الى الممثلين الحقيقين للشعب! حتى إذا طُـوِّح بمصدق بانقلاب زاهدي، نقدوا موقفهم واعترفوا بتسرعهم وندبوا يوم الوطني الدكتور محمد مصدق بدعوى أن من لا يعمل لا يخطأ.

ومن رفقاء زهير القيسي في إعداد جريدة الجبهة الشعبية يومياً وبصورة دائمة، الشاعر بدر شاكر السياب وهم مترجمٌ ثانٍ لنفس التحليلات والموضوعات المستفيضة في الشؤون الدولية ممثلةً نقلة وتطوراً جديداً في الصحافة العراقية فضلاً عن إشرافه على صفحتها الأدبية، والشاعر العسكري المتقاعد يومذاك محمد بسيم الذويب وهو بالأصل من ضباط الجيش العراقي والمعروفين بنزوعاتهم وأولاعهم الأدبية، فقد صدرت له مجموعة شعرية عام 1928 م سبق بها التالين بعده في إيثاره تسميةً رائقةً تشي بحداثويته بدلاً من ديوان، وأعيد الى الخدمة في الشرطة هذه المرة آمراً لقوتها السيارة المنوط بها توطيد الأمن في أنحاء العاصمة أو التهيؤ لقمع التظاهرات الاحتجاجية استنكاراً لهذا الاجراء أو ذاك حسبما كان يشاع، وبذلك قطع صلته بالأعمال الصحفية عقيب انتفاضة تشرين الثاني 1952 م التي ما أسفرت إلا عن الاقرار بحق الشعب بالانتخاب المباشر وفرض تسعيرةٍ معقولةٍ للخضراوات والمواد الغذائية الاخرى، وخسران الشعب العراقي وافتقاده لآخر مظهر أو ذماء من حرية القول والتعبير بطلاقة في جوٍ نسبي من الحياة الديمقراطية، فلا غرو أن ندم عليها المغالون في تأجيجها وانهمكوا بعدها في تقييم مواقفهم منها وانتقادها، وبعد سنين استمعت لخطبٍ وأشعار تلقى في حفلٍ ديني تنقله الإذاعة بتغطية قاسم نعمان السعدي، أيام بانَ فيها على حكم عبد الكريم قاسم فرط الكلال والوهن ووشك الرحيل، فإذا بالرجل العيي المرهق يلقي شعراً ضعيفاً بالمناسبة متبنياً فيه الدعاوة للوحدة العربية، ويعتدُ بعض السذج من الناس أن المجاهرةَ بمضمون مثل هذا النظم هي بمثابة جرأة منقطعة النظير في مناصبة عبد الكريم قاسم العداء على أساس أن جمهوريته كانت تقف حجر عثرة دون توحد العرب وتضامنهم، وتحول دون زحف الجنود المصرية نحو هذه الربوع لتضمها قسراً الى أحضان أمها الكبرى التي كان أبناؤها يقاتلون في اليمن.

ربنا حقق لنا وحدتنا يا إله الخلق رب العالمين

وباسم هذا الشعار أديل من سلطة عبد الكريم قاسم الذي كان يقارع الاستعمار وحده دونما أعوانٍ ولا أنصار بتحجيمه حق الشركات الأجنبية باستخراج النفط واستثماره، وعني بإسكان المواطنين وتشييد الجسور وتجميل المدن، وأشاع مع ذلك أجواء غير طبيعية في المدن العراقية انتهكت فيها حرمات بعض الناس فملوا هذه الوضعية وبرموا بها وخُيِّل لهم أن أجهزته الإدارية والأمنية تعمل لغير صالحه.

والفرد الأساسي الفاعل في هذه العينة من المحررين هو عبد القادر البرّاك بعد أن غادر مكانه المحترم في الصحافة الجواهرية على اختلاف مسمياتها والى الأبد، فكان متجافياً ومتقاطعاً مع صاحبها لسببٍ يبدو مجهولاً ولا أحد يعرفه ويحيط به، وسأتولى كشفه لأول مرةٍ، فقد أعطى الجواهري لنفسه ذات يومٍ فرصة راحةٍ من العمل وأوكل الى المحرر عبد القادر البرّاك مهمة إدارة الأعمال في جريدة الجهاد والتصرف بأمورها حسب المعتاد، ولما عاود الرجل نشاطه لاحظ أن البرّاك نشر في أحد أعدادها أثناء فترة غيابه،”ريبوتاجاً”ترحيبياً بمقدم ساطع الحصري أو احتمال زيارته بغداد، ونعته رمزاً من رموز القومية العربية، هو المتولد بتركيا - على ما يفضي المرحوم الصحفي الموصلي عبد الباسط يونس في حديثه مع الدكتور سيّار الجميل - وتعلم اللغة العربية في وقت متأخر وينطق مفرداتها بصعوبة، ويطنب البرّاك بعدها في مرافقته للملك فيصل الأول وتبوئه في العقود الفائتة مناصب متنوعة على صعيد التعليم والثقافة والآثار في الدولة العراقية، لكن فاتته فيه تدخلاته الفاضحة والفظيعة في أحوال أهل العراق وسعيه الحثيث لإثارة الفتن والإحن المذهبية بين شرائحه وأطيافه لحد أن دس أنفه في تسيير حركة 1941 م المعروفة، فمني بعد طي صفحتها بنزع جنسيته العراقية الممنوحة له من قبل، فاستشاط أبو فرات غيظاً أن كيف يحتفي مطبوع ثقافي تنويري يصدع بمجافاة ما لا يستوي هو والمعقولية والصحة ومراعاة مشاعر الناس واستهجانهم - في ذكرياتهم - ما تسبب به الطارئون على البلاد والأغراب عنها، من بذر الفرقة والاختلاف بين أبنائها وما تزال تعنو له وتعانيه، وهذا المطبوع درج الجواهري أياً كان مسماه، على اصداره بتعاقب الأدهار، ومنها التي تجرَّع فيها المر والعلقم بإقصائه عن الخدمة في وزارة المعارف والتوظف بمدارسها لأمرٍ دُبِّرَ بليل جرَّ إليه تعنت هذا الشخص المجنب وعناده وخلو ذاته من خلة التسمح والتهاود في تفسير معاني أشعار الجواهري في وصف الطبيعة ومناظر الجبال في إيران، فقطع أن ذلك يعني ولاءه لإيران وجحوده للعراق، ونستذكر صنيع المتنبي عندما مر بتلك الجبال فأنشد :

مَغَاني الشِّعْبِ طِيباً في المَغَاني بمَنْزِلَةِ الرّبيعِ منَ الزّمَانِ

وَلَكِنّ الفَتى العَرَبيّ فِيها غَرِيبُ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللّسَانِ

مَلاعِبُ جِنّةٍ لَوْ سَارَ فِيهَا سُلَيْمَانٌ لَسَارَ بتَرْجُمَان

فهل أصبح أبو الطيب المتنبي وهو ابن الكوفة الحمراء إيرانياً وجاحداً لعروبته؟

فتأمل ما تسبب فيه الملك الهاشمي من العهدة بالمراتب المرموقة في ديوان وزارة المعارف للدخلاء وإيثارهم بها دون مستحقيها والجديرين بها من العراقيين، سليلي اللغويين والمتكلمين وشيوخ المعتزلة وورثة أمجاد الجاحظ والتوحيدي والكسائي والأخفش وابن السكيت والبحتري والمتنبي الكوفي وأبو تمام، فما برح جيل المثقفين في عشرينيات القرن الماضي يتنسمون أجواء ذينك الازدهار والتألق الأدبي الذين تميزت بهما ثقافتنا القديمة.

والغريب في لواحق المسألة أن دُعي الشاعر لحضور المؤتمر الثقافي الذي كانت تقيمه جامعة الدول العربية من آنٍ لآن، فلبى دعوة وزير المعارف المصرية الدكتور طه حسين وحلَّ ضيفاً عليه ثم على الحكومة، ومن أبرز نشاطات المؤتمر ذاك استحثاث المدعوين للجواهري أن يستوحي الأغراض والمرامي التي انعقد مؤتمرهم لأجلها، معانيَ قصيدةٍ تخلد يومه على طول الزمن، فكان منها تنديده بالمناهج التعليمية المطبقة في البلدان العربية والتي تضل الجيل ولا تروضه على كراهة المستعمرين المتحكمين في فرضها عليهم وإلزام مربيهم بتطبيقها وذلك بوساطة أجرائهم وصنائعهم من ذوي العقليات المتخلفة التي تجهل كلياً ما للعراق من سابقة في تأسيس المدارس المعنية بالنحو والبيان والرافدة العالم القديم بمبادئ الحضارة، ولا يخفى ما وراء هذا التسخط من ازراءٍ وقدحٍ بعنصرية ساطع الحصري الجالس بين المجتمعين لا يدري ما يقول، بعد أن شنَّف أسماعهم بهذا البيان الرائع وهذا التقريع القاسي لمفرقي الصفوف :

يا مصرُ ليسَ مِنَ العراقِ مفرِّقٌ يندسُ ما بينَ الصفوفِ ويُحشرُ

إنا لنبرأ من نصوصٍ عندنا تـُمضى على ما لا نحبُ وتمهرُ

تـُمضى على صدعِ الصفوفِ وفوقها راحت يد المستعمرينَ تؤشِّرُ

قولوا لأولاء الذين يُرونَـكم إنا بضوءِ خطاهمُ نستبشرُ

إن العراقَ مسيَّرٌ، ومحله في حيثُ مصرُ تكونُ حينَ يُخيَّرُ

قولوا لهم : أعطوا الأديبَ يراعَهُ وتلمظوا جمراته وتصبروا

وتنظروا هذه السحابةَ ريثما يعلو الخطيبُ ويستقيمُ المِنبرُ

قولوا لهم : خلوا السفير وأسفروا ودعوا حرابَ الأجنبي واصحروا

وستعلمون من المُجلي في غدٍ ومن المكبُ لوجههِ يتعثرُ

ومَنْ المقيمُ على تراثِ بلادهِ ومَنْ المُشرَّدُ تاهاَ يتعثرُ

فلو كان المرحوم زهير القيسي من هيئة تحرير جريدة الجهاد لكان محيطاً بشكلٍ تام بانفصام الرابطة الوثيقة بين الشاعر الناثر والكاتب الصحفي اللامع والمستعان به لإدارة شؤون أية صحيفة في مختلف الأدوار، فضلاً عن ارتباطه بالحياة الأدبية، وفي اليوم التالي نشر الجواهري في جريدته خبراً عن عياف البرّاك لعمله فيها وذلك لأسبابٍ مرضية و هو يأسف لذلك وأنه يعتز بمواهبه ويثني على جهوده المبذولة في استمرارها على الصدور، وما هذه الاثابة إلا على سبيل تطييب الخاطر بطبيعة الحال، ليلتحق فوراً بملاك جريدة الجبهة الشعبية، وبعد الاغلاق المصطنع والمستحال نهائياً بقصد التمويه على تعطيل جرائد : الأهالي والجهاد واليقظة ولواء الاستقلال غبَّ خضوع البلاد للحكم العرفي الصارم بعد حوادث التظاهرات والاضطرابات نهاية تشرين الثاني 1952 م، فإذا خُيِّل لك أن السلطات في مختلف العهود”تقدر”أن تستهدف بالأذى والضر أقطاباً كمزاحم الباججي وطه الهاشمي ومحمد رضا الشبيبي فأنت واهم، فالأول كان قبل وقتٍ قصيرٍ رئيس وزراء، والثاني وإن تخاصم مع عبد الإله في مؤتمر البلاط المشهور، فقد كان بالأمس الذي يبدو بعيداً، رئيساً لأركان الجيش ورئيساً للوزراء أيضاً، ثم انه ملمٌ بتاريخ الانسان العراقي القديم، وسبق لنا أن تدارسنا كتابه الصعب العسير والمقرر تدريسه لطلبة الصفوف الأولى المتوسطة عن دستور حمورابي وحروب الاسكندر المقدوني، فكان تلميذ ذلك الزمن في أربعينيات القرن الماضي يحيط بمعارف وأخبار عن صولون وأفلاطون وسقراط، كما أنه معدود في الثلاثينيات من الكتاب الأوائل في مجلة الرسالة لصاحبها أحمد حسن الزيات، فقد خصها بفصول ضافية عن جهاد المسلمين ومعاركهم، والثالث رغم أنه خصيم للاتفاقيات الجائرة والمعاهدات والمساومات النفطية، والرافض لحلف بغداد، فإن له دالة على البيت الهاشمي وحمل العراقيين كافةً على قبولهم، وارتحل دون ذلك الى الشام والحجاز تمهيداً لتثبيت العرش الهاشمي واقناع مَنْ له الكلمة الفصل بأن أهل العراق يأخذون بناصر سليل النبوة ولا يغدرون بعترته مغضياً في ذلك عن تكالب أزلام العهد التركي وتزاحمهم في الاستحواذ على المراكز والمراتب مع أنهم رتعوا في نعمائه، وانفضوا من حوله، ونصلوا منه وخذلوه أيام محنته، و عَدِّ عنك مقامه العلمي وصيته الأدبي وعضويته في المجامع اللغوية، قلت بعد هذا الاغلاق المصطنع والمستحال نهائياً، ارتبط عبد القادر البرّاك بجريدة الدفاع، وتصاحب مع صادق البصّام، وكل هذه التذكارات أفصحت عنها وبحت بها لزهير القيسي المشتغل محرراً لجريدة البلد التي يمتلك امتيازها عبد القادر البرّاك، وصادف ذلك ظهيرة يومٍ من عام 1964 م في مقر الجريدة نفسها، وانبهر بها حيث لم يكن الرجل على موسوعيته وسعة اطلاعه قد سمع بالتهويشات والمضار التي اجتلبها المدخولون ومدعو القومية العربية لمكونات الشعب العراقي باستثارتهم النحائز الدفينة في الصدور.
هذه هي الواقعة يا عم ابراهيم استذكرها وقد جاوزت الثمانين بنصها وفصها وبحذافيرها وهي من الأهمية بمكان بحيث لا يستوي أمرها هو وهنة نحوية يجترحها ويقع فيها واحد من الكتبة الصحفيين ويتذمر منها المشرف اللغوي، فنربت على كتفه - أي الكويتب الصحفي - ونداريه بذريعة يجوز الوجهان.

بقيت لنا كلمة بخصوص فاعلية زهير بن أحمد القيسي المربي الأصيل، في ميدان الأدب والصحافة، فقد حصل بعد هذا الاستئناس في استيحاء الذكريات الجميلة، ونحن سائران في شارع الرشيد بداية عام 1965 م أو قبلها بقليل أن اختلفت وتشاجرت معه لسبب لا يستدعي ذلك ويستوجبه، غير أنه ليس كعراك الفتيان المدللين وأبناء محدثي النعم في أزقة بغداد وحدائقها ومتنزهاتها، ممن جنوا الثروات الطائلة بفضل الثورات والانقلابات التي عصفت بأمن البلد، بل لم نتجاوز قولة”روح اكفيني شرك”قذفها واحدنا بوجه الآخر واستمرت تانك الجفوة والقطيعة مدة أربعةٍ وعشرين عاماً، حتى تلاقينا عصر يومٍ قائظ عند تمثال السعدون ينوي عبور الشارع الى الجهة الاخرى، وقد أرسل الرجل لحيته وطال شعر رأسه وصار مميزاً في المجتمع البغدادي المنتشر في أنحاء العاصمة العريقة، وقال”ءأنت مهدي؟"، فكان اللقاء مؤثراً ولعنت الشيطان ألف مرةٍ، وبعدها نشرت له جريدة العراق مقالات في دمغ السطحية والتعجل وعدم توخي الدقة والاتقان والصحة في بعض الكتب المترجمة لدار المأمون، رغم العهدة بمراجعتها لبعض عارفي اللغة الانجليزية، فوقفت الى جانبه من جهة توخي فصحى العربية لا غير، فشفعها بكتابته مقالاً أهدانيه عن عشاق الكتب في التراث العربي وحدبهم وحرصهم عليها وضنهم بمفارقتها، فلعله الأديب العراقي الوحيد الذي لم يبع كتاباً واحداً لبسطيات شارع المتنبي أو الى أي كتبي منزوٍ في شارعٍ آخر، رغم ما مَرَّ به من أزمات وظروفٍ قاسيةٍ في غير وقتٍ، بدليل هذه الركامات الهائلة من نفائس المطبوعات التي تزدان بها غرفات دارته وتعلو الى السقوف كما صورها التلفاز.

وكذا كان الشيخ الهِمْ الذي قضى مؤخراً طيب القلب ونقي السريرة وحلو المعشر ولا شأن له بالملاسنات والمناكدات الأدبية، ولا يجرؤ أحدٌ أن يطاوله من صغار الكتبة وراكبي الموجات لأنهم لم يكونوا بعداده.... والسلام.