الاختلاف السعيد.. قراءة في كتاب زكي مبارك ملامح المجتمع العراقي

الاختلاف السعيد.. قراءة في كتاب زكي مبارك ملامح المجتمع العراقي

عقيل عبد الحسين
نبّهنا أساتذتنا الراسخون في العلم والعربية، كثيراً، إلى الأسلوب، وكانوا يقولون: إن المترجمات جعلت كتاباتكم هجينة، فليست بالعربية، وإن كانت كلماتها كذلك، ولذا يجدها القارئ معقدة عصية على الفهم، لا تحدِّث إلا نفسها. ولكن من يثنينا، ونحن في عهدة الشباب الأول، عن متابعة دريدا وجنيت وامبرتو ايكو، والسير في دروبهم غير مميزين أنها ليست لهم،

وإنما لمترجمين ينقلون المكتوب من لغته إلى اللغة العربية نقلاً مباشراً من غير تبصر بالعربية، ومن دون دراية بأساليبها، فكان ما كان من تأثيرهم في البحث والنقد الكتابة الأدبية التي اعتزلت الناس، واعتزلها الناس، وانصرفت عن الأساس الذي انبنت عليه النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وهو اللغة العربية وأساليبها المبينة، فكان الناقد والكاتب يضع الأفكار الغربية والمواقف منها، ورؤيته لحال أمته، وحلوله لنهضتها ورقيها، في أسلوب عربي مبين واضح مؤثر، لا تشعر معه أنه قد عرف لغة أجنبية وامتزج بها امتزاجاً. وليس بعيداً عن القارئ طه حسين، وهو مضرب المثل في حلاوة الأسلوب، وأكثر العلماء والباحثين تحريكاً لساكن الأفكار، وإثارةً للجدل. وما كان ليكون كذلك، لولا وضوح ما يطرح، وقربه إلى أفهام معظم الناس في زمنه. ومثله تلميذه زكي مبارك الذي وقع بين يدي، قريباً، كتابه”ملامح المجتمع العراقي”الذي صدر عام 1942 في القاهرة عن مطبعة أمين عبد الرحمن. وسأخصّص هذه المقالة له.
يعرض الكتاب للأدب والمجتمع العراقيين، وجاء لسد النقص في معرفة المصريين بثقافة الشعوب العربية في الشام والمغرب والعراق؛ فهم مشغولون بأنفسهم، لا يكاد أحدهم يعرف شيئاً عن العرب في البلدان العربية الأخرى. وكان ذلك شأن زكي مبارك لولا أنه استدعي للتعليم في دار المعلمين العالية في العراق، فخالط مفكري العراق ومثقفيه وأدباءه وساساته. بل الطبقة الحاكمة كالوصي عبد الإله. وكان له موقف مع الملك غازي الذي يشير إليه مبارك باحترام كبير، فهو صاحب معرفة وذوق أدبيين عاليين، وهو يتصل بمبارك بعد حديث إذاعي له في الإذاعة العراقية، ويعترض على ما يجيء في حديثه من آراء، فيضطر مبارك إلى التحسب الكبير فيما يطلق عبر الإذاعة من أحاديث أدبية.
وما دمت قد جئت على ذكر الإذاعة، فدعوني أتوقف عند نقطة أثارت انتباهي، في الكتاب، من بين أمور كثيرة لا يتسع المقال لسردها كلها، وأفضل أن أتركها لقارئ الكتاب الذي أدعو وزارة الثقافة العراقية إلى أن تعيد طباعته في مشروع تطلقه للاهتمام بالأدب والثقافة العراقية الحديثة، وما كُتب عنهما. والنقطة هي وقوف زكي مبارك في كتابه”ملامح المجتمع العراقي”وقوفاً تفصيلياً عند ظاهرة النوادي الأدبية. إذ يذكر عدداً ليس بالقليل منها، مثل نادي المعارف الذي يرأسه رشيد العبيدي، ونادي المثنى الذي يرأسه الدكتور صائب شوكت ونادي الشبان المسلمين، وفيه سمع مبارك محاضرة مميزة لبهجت الأثري، ونادي الهداية الإسلامية. ويقول عنه: إن له أثراً في نشر الثقافة الأدبية. اذ إن له مجلة تنشر الثقافة الأدبية والدينية. والنادي العسكري وفيه يسهر جماعات من ضباط الجيش العراقي على جانب من العلم والوطنية. ونادي البصرة. ونادي الجزيرة في الموصل ((وله تأثير شديد في وصل الأواصر الأدبية بين الأمم العربية)) (ص58). والرابطة العلمية بالنجف الأشرف. ونادي القلم العراقي ورئيسه، أول تأسيسه، جميل صدقي الزهاوي. وفي اجتماعه يلقي أحد الأعضاء مسامرة علمية أو أدبية أو اجتماعية، ويدور النقاش بعد استئذان الرئيس. وأعضاء النادي- كما يقول مبارك- في غاية من الحيوية وقد أصدروا مجموعة نفيسة ضمنوها طوائف من المحاضرات التي ألقيت في اجتماعاتهم الدورية. وهو أكثر جهاداً من نادينا- المصري- لإخراجه مجموعة نفيسة من المحاضرات ولاجتماعاته المنتظمة. وفي الأندية الأدبية العراقية مطارحات ومساجلات تفوق العد، وفيها تُدرس أعمال الأدباء الذين يصل صرير أقلامهم إلى العراق.
يطيل الدكتور زكي مبارك الحديث في الأندية الأدبية إطالة الخبير العارف بها؛ فقد اتصل بأغلبها وحضر جلساته وشارك في نقاشاته. وهي إطالة مفيدة لنا- نحن قراء هذا الزمن- إذ تعرفنا أن في العراق، في ذلك الوقت، حركة أدبية على قدر عال من الأهمية، وإلا لما استوقفت أديباً وناقداً، مثل زكي مبارك، عارفاً بالأدب العربي القديم والحديث، وبالأدب العالمي لتمكنه من اللغة الفرنسة. وإذ تجعلنا نعيد النظر في دور تلك النوادي في تطور الأدب والنقد والنهضة العراقية.
ليست هذه الجزئية وحسب ما قد يلفت نظر قارئ كتاب زكي مبارك عن المجتمع العراقي، ففيه حديث عن الصحافة العراقية وتغليبها للسياسي على الأدبي، فهي ((سياسة في سياسة في سياسة، ولا يظفر فيها القارئ بزاد علمي أو أدبي إلا في أندر الأحايين)) (74). وفي الكتاب حديث عن الشخصية العراقية الميّالة إلى تصديق ما يرد في الصحافة من نقد للشخصيات السياسية والأدبية. وفي الكتاب حديث عن أثر الاختلاف المذهبي في الحفاظ على اللغة العربية في العراق. وقد تستغربون أنه يعده حسنة من حسنات الاختلاف، ربما لأنه لم يكن يتخيل أنه سيتحول إلى اختلاف بشع دموي كهذا الذي نشهده اليوم، وهو، ويا للغرابة! يسميه الاختلاف السعيد لأنه ((اضطر المذاهب السنية والمذاهب الشيعية المتصارعة في العراق إلى المجادلة بلغة القرآن، وهي اللغة التي حملت لهم بذور ذلك الاختلاف السعيد)) (23)، ناسين الاحتلال الفارسي والتركي. ولو كان للفرس أو للأتراك مثل ذلك الخلاف والاختلاف كل على حدة، لما هُزمت اللغة العربية في بلدانهم، فقد كانوا شيعة كلهم أو سنة كلهم.
هل أحتاج، بعد ذلك الاسهاب في وصف كتاب الدكتور زكي مبارك، إلى تأكيد الدعوة إلى الاهتمام بمؤلفات عصر النهضة العربية لإحياء الاهتمام بالأسلوب العربي المستقيم، وإحياء الاهتمام بالقارئ، وإحياء الدعوة إلى النهضة ومواصلة الإصلاح؟! نعم. وأحتاج أيضاً إلى تأكيد الدعوة إلى إعادة نشر مثل تلك المؤلفات في مطابع وزارة الثقافة العراقية، أومن يستطيع النهوض بهذا العمل من المؤسسات الكبرى كمؤسسة المدى.