من عيوب المفكرين عندنا

من عيوب المفكرين عندنا

بقلم الدكتور علي الوردي
شهدت في الأسبوع الماضي مع جماعة من محرري هذه المجلة، حفلة من حفلات ((الذكر)) المعروفة في العراق.وسوف نشهد حفلة اخرى اعظم منها في ليلة الجمعة القادمة.
والواقع اني شهدت من امثال هذه الحفلات فيما مضى، وذكرت عنها شيئاً من التحليل والتعليل في كتاب ((خوارق اللاشعور)) الذي اصدرته عام 1952. وبعد صدور ذلك الكتاب جابهني بعض الادباء بالنقد الشديد واتهموني بالخرافة والسخف.

وألف احدهم في نقدي كتاباً قال فيه اني ادافع عن الاساطير والخرافات واحاول تبريرها من الناحية العلمية، واتبع ذلك سيلاً من الشتائم الشخصية.
مشكلة هذا الكاتب ومن لف لفه انهم لا يكلفون انفسهم عناء البحث والاستقصاء.
انما هم يتسرعون في الحكم على الاشياء بمجرد السماع بها. وهم يعتمدون في ذلك على ما توحي عقولهم المحدودة. فكل ما يطابق افكارهم السابقة يصبح في نظرهم علمياً. اما اذا خالفها صار خرافياً لا شك فيه.
انهم لا يعلمون بمبلغ التبدل الذي حدث على مناهج البحث في العصر الحديث.
* * *
مما تجدر الاشارة اليه ان المنهج العلمي الحديث لا يجيز للباحث ان يتسرع في تكذيب شيء قبل ان يفحصه ويجري عليه التجربة الدقيقة التي يصعب المراء فيها. فالتكذيب المتسرع هو كالتصديق المتسرع لا يلائم روح هذا الزمن الذي نعيش فيه.
من عيوب المفكرين القدماء انهم كانوا يفرقون بين المعقول وغير المعقول من الامور على اساس منطقي بحت. انهم يفكرون ويتأملون ثم ينتهون من تفكيرهم المجرد الى الرأي الذي يعتبرونه حاسماً. وهم يغضبون كل الغضب حين يرون أحداً يخالفهم فيه، ولا يترددون عند ذلك عن شتمه وصب التهم على رأسه.
اما في هذا العصر فقد تبدلت هذه المفاهيم تبدلاً واضحاً. وقد ثبت الآن ان التفكير المجرد لا يصلح ان يكون مقياساً للتفريق بين الممكن والمستحيل من الأمور.
فكثير من الامور التي كان العقل يعدها بالأمس مستحيلة، أصبحت اليوم معدودة من الممكنات.قلت مراراً وأعيد القول هنا بان العقل يجري في تفكيره على اساس ما فهمه واعتاد عليه سابقاً وهو اذن ميال الى تكذيب كل ما يخالف مألوفاته وعاداته الفكرية.، فاذا اعتاد عليه بعد ذلك صدق به واعتبره معقولاً.
عندما سمع جدي بأمر الطيارة لاول مرة لم يصدق به. فقد قيل له ان الافرنج صنعوا عربة مصنوعة من الخشب والحديد، وهي تحلق في الهواء كما يحلق الطير. فأخذ جدي يدلي بالأدلة العقلية للبرهنة على استحالة طيران العربة المصنوعة من الخشب والحديد. وألتفت الى مطرقة كانت بجانبه فهتف قائلاً: ((هذه مطرقة من الخشب والحديد، فهل من الممكن ان تطير؟.!)) فهتف الحاضرون معه قائلين: ((لا تطير... لا تطير،)).
وما هو الا سنوات معدودة حتى رأى جدي ورفقاؤه بأم اعينهم كيف طارت الطيارة وطارت المطرقة معها، مع الاسف الشديد.
وليس هذا شأن جدي رحمه الله، أو شأن رفقائه. انما شأن معظم الناس، لا سيما هؤلاء الاغرار من اصحابنا الذين التقطوا من الكتب والمجلات بضع افكار جديدة، فشمخوا بانوفهم وصاروا يطلقون احكامهم هنا وهناك بغير حساب.
لقد دأبوا على التسرع في احكامهم، إذ هم لا يكادون يسمعون بشيء مخالف لمألوفاتهم الفكرية حتى يهبوا ضده صارخين مكذبين ومرجعهم في ذلك الى العقل والمنطق السليم كما يزعمون. وهم اذن لا يختلفون في نمط تفكيرهم عن مفكري القرون الوسطى.
يقال ان جماعة من المفكرين في القرون الوسطى كانوا يتجادلون فيما بينهم عن عدد اسنان الحصان. وظلوا يتجادلون ويتخاصمون دون ان يتمكن بعضهم من اقناع البعض الآخر. مع العلم انهم كانوا قادرين على الذهاب الى الاسطبل الواقع بجوارهم لكي يعدوا اسنان الحصان الموجود فيه. ولعلهم كانوا يستنكفون ان ينزلوا من برجهم العاجي فيذهبوا الى الاسطبل يبحثون فيه. فالمفكر في نظرهم يجب ان يكون اسمى من ذلك. انه بكلمة اخرى يجب ان يصل الى الحقيقة بتفكيره المجرد وحده. ولا خير في الحقيقة التي تأتيهم من غير طريق التفكير والمنطق السليم.
* * *
حين ذهبت مع اخواني محرري المجلة الى حفلة الذكر، في جامع الشيخ عبدالقادر الكيلاني. امتعض مني فريق من الادباء، وضحك على ذقني فريق آخر. لقد صرت في نظرهم درويشاً مشعوذاً. انهم يجزمون بان الخوارق المعروفة عن تلك الحفلات مكذوبة كلها، ولا فائدة اذن من الذهاب اليها او من العناية في فحصها.
لقد كان الواجب العلمي يقضي عليهم ان يأتوا معنا الى الحفلة ليشهدوا الخوارق باعينهم ويلمسونها بايديهم. ولكنهم لم يفعلوا. فهم لا يريدون ان يكلفوا انفسهم عناء البحث، او لعلهم متعصبون لا يودون ان يغيروا افكارهم التي اعتادوا عليها.
قد يقول البعض منهم عن تلك الخوارق بانها من قبيل السحر وخداع البصر. واذا كان الامر كما يقولون، فلماذا لا يذهبون اليها ليدرسوا خداع البصر الذي يزعمونه. أليس خداع البصر من الظواهر النفسية التي يجب ان تدرس؟!.
المظنون انهم ورثوا الكبرياء والتعالي الفكري من اسلافهم. وكأنهم يعتبرون الفكر أسمى من ان ينزل الى مستوى العامة أو يفحص ما يعتقد به الناس من حقائق أو أوهام.
انهم يكتفون بان يجلسوا على الاريكة الوثيرة يتأملون. فهذا هو سبيل العلم في رأيهم. وهم ينسون انهم يعيشون في القرن العشرين.
علي الوردي
(الأسبوع: لقد وعدنا الدكتور ان يواصل البحث في هذا الموضوع العويص موضوع الدرباشة وما يفعله الدراويش بها من اعاجيب. وما هذا المقال المنشور اعلاه الا مقدمة منطقية اراد بها الدكتور الوردي ان يمهد لمقالاته القادمة. وانا لها لمنتظرون.