خلف شوقي الداوودي.. صحفي هزلي رائد

خلف شوقي الداوودي.. صحفي هزلي رائد

زين النقشبندي
ولد خلف شوقي الداودي سنة 1896 في مدينة بغداد كما ورد في جواز سفره في حين يرد في الهوية الصادرة من وزارة المالية (أنه ولد أيضاً في بغداد سنة 1898 وإن تاريخ دخوله الوظيفة سنة 1918).
وكان أبوه الملا أمين الداودي قد تعين فيها ضابطاً عسكرياً في الجيش العثماني وهو كردي من قبيلة الداوودة،

والتي تستوطن لواء كركوك.وقد هاجرت عائلة المترجم له أولاً من السليمانية إلى الرمادي ثم إلى مدينة الصيرة القديمة حيث ولد خلف وبعدها انتقلوا مع سكان مدينة الصيرة القديمة إلى مدينة الصويرة الحالية ولم يزل أخوه وأبناؤه في هذه المدينة، وجاء خلف إلى الدنيا بعد انتظار طويل من أبويه فقد سبقه سبعة أولاد لم يكن بينهم صبي لذلك استقبل هذا المولود بشيء كثير من الفرح والسرور ونشأ نشأة لم تخل من الدلال.

وقد دخل الأستاذ خلف المدرسة التركية في الصويرة عام 1905 وتخرج منها عام 1912، وبعدها دخل دورة مرشحي الضباط في بغداد واشترك في الحرب العالمية الأولى بالجبهة التركية بالعراق فأسر وأرسل إلى الهند فتعلم هناك اللغة الهندية والإنكليزية ولما عاد بعد الأسر إلى العراق عمل في الصحافة في مدينتي البصرة وبغداد، وبعدها توظف في سلك الإدارة الملكية (المدنية) ثم عين في التفتيش المالي، أوفد عدة مرات إلى خارج العراق لتدقيق حسابات المفوضيات والقنصليات العراقية حتى وصل في التدريج الوظيفي إلى سكرتير مالي وزارة الاقتصاد والمواصلات.
ومما ساعد على تكوين شخصية خلف شوقي الداودي القصصية الفكهية بيئة الحلة فقد قضى شطراً من حياته في بيت اخته في هذه المدينة وهو تلميذ في مدرسة الرشدية العثمانية، واستطاع أن يحصل على بعض كتب القصص والنوادر والحكايات والطرائف أمثال كتاب (المستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي) و(كليلة ودمنة) وقصص (ألف ليلة وليلة)، وان يستمع إلى طوائف مختلفة من القصص التي لم يحصل عليها في محيط ضيق كمحيط الديوانية ومحيط الصويرة فضلاً عن تأثره بمحيط الحلة الضاحك والمتفكه الذي آلت إليه زعامة الشعر في العراق مدة سنتين كما يذكر الأستاذ الخليلي.
فقد توفيت أمه وهو ابن اثنتي عشرة سنة وكان وقع ذلك عليه عظيماً وقد ظل يشـعر بمرارة الفراغ الذي تركتـه أمه في نفسه وقد عالجه (على ما قال) بمختلف أنواع الملح و النوادر والتفكه فكأنه لم يفعل شيئاً حين تهيج به الذكرى...”
وحين اكمل خلف شوقي دراسته في المدرسة الرشدية دخل دار المعلمين التركية ببغداد وسيق في أثناء الحرب العظمى الأولى إلى ميدان القتال أسوة بالأعداد الكبيرة من الطلاب، فأسر وأرسل مع الأسرى إلى الهند وكانت هذه الأيام من اتعس أيامه واشدها ضيقاً على ما كان يروي ولكنه ادخر منها الشيء الكثير من الحكايات والروايات والفكاهات فكان ينقل لأصدقائه قصصاً غاية في الروعة عن بعض الضباط الأمراء وعن آسريه وعن خفرائه وما كان يلجأ إليه من الحيل ليأخذ نصيبه من الراحة النسبية وهو في ميدان الحرب أو معتقلات الأسر، وفي الهند أتقن اللغة الإنكليزية والهندية وزادت هاتان اللغتان من ملكته صقلا فلم يعد إلى العراق إلا وهو مشحون بالكثير من الروايات والقصص التي كان لها الفضل الأكبر على تكوينه وإخراجه على هذه الصورة.
واشتغل زمناً في الصحافة وأنيط به تحرير القسم العربي من جريدة الأوقات البصرية (صدرت سنة 1915 باللغات العربية والتركية والفارسية والإنكليزية لمديرها المسؤول سليمان الزهير)، في البصرة، ثم جريدة الأوقات البغدادية (جريدة يومية أصدرتها سلطات الاحتلال في 1 كانون الثاني 1918 مع ملحق مصور بين الحين والآخر واستمرت حتى عام 1926 وكانت تصدر إحدى صفحاتها باللغة العربية)، ثم جريدة الأوقات العراقية (جريدة حكومية رسمية أصدرتها الحكومة العراقية في البصرة في مارس 1921 وكانت تصدر باللغة العربية والإنكليزية بأربع صفحات واستمرت حتى 31 كانون الأول 1929)، ثم اصدر مجلة شط العرب، في مدينة البصرة في جمادي الأول سنة 1341 المصادف كانون الثاني سنة 1923، وكتب ونشر في مجلات وصحف كثيرة منها مجلة لغة العرب والهدى الصادرة في مدينة العمارة والنشئ الجديد والاعتدال والمعلمين ومجلة الحاصد والأقلام والثقافة والشباب ودياري كوردستان وجريدة شط العرب الصادرة في بغداد والبلاد والتقدم والعراق والجهاد والدفاع والزمان والسياسة وغيرها من المجلات والصحف العراقية والعربية، ولقد تأثرت لغته وأسلوبه بالصحافة كثيراً حيث أصدر مجلة أدبية بالبصرة التي سماها شط العرب وهي في 32 صفحة بقطع الربع الصغير، صدر عددها اليتيم الأول في جمادي الأول سنة 1341هـ”كانون الثاني سنة 1923”ولم يصدر غير هذا العدد، لأن المجلة نشرت ما خالف الخطة المرسومة للصحف والمجلات الأدبية في حينه فألغت الحكومة امتيازها، ولم يفت ذلك في عضد خلف شوقي الذي عاد فأصدر في بغداد جريدة بنفس الاسم”شط العرب”برز عددها الأول في يوم الخميس الموافق 21 شعبان 1342هـ/27 آذار 1924، ولكنها احتجبت بعد أحد عشرة شهرا (وليس كما يذكر الأستاذ عبد الرزاق الحسني في كتاب تاريخ الصحافة - بعد ستة اشهر)، إذ صدر العدد الأول من هذه الجريدة بتاريخ 27/ آذار 1924 وصدر العدد الأخير الرقم (24) بتاريخ 9/ كانون الثاني/1925. وانظر كذلك ما كتب عن هذه الجريدة في كتابنا (خلف شوقي الداوودي من اعلام اليقظة الفكرية العراقية)، كما توسعت مداركه بسبب أعماله الصحافية هذه، واحتكاكه بالناس يومياً ثم عمل في دواوين الحكومة موظفاً.

نتاج شوقي توثيق لمرحلة مهمة من تاريخ العراق
أن المطلع على نتاج خلف شوقي من مقالات وقصص قصيرة يخرج بنتيجة مفادها أن النتاج الأدبي القصصي لهذا الكاتب عكس هموم والآم ومعانات كثير من أبناء العراق وعلى الرغم من شهرته في مجال الأدب الفكاهي والنكات والمقالب، فأن القارئ يتلمس في مقالته وقصصه أيضاً وجود الكثير من المبادئ والمثل الأخلاقية والتقاليد العراقية الصميمية من عمل الخير والرضى بالمقسوم وروح المساعدة والتعاون ودور العائلة وأهميتها في مساعدة أبنائها حتى بعد زواجهم، وغيرها من التقاليد البغدادية والقيم الحضارية العراقية.
وبالتالي فإننا نستطيع أن نقول أن شوقي كان متأثر بتربيته وبمجتمعه الذي يعيش فيه، عكس بصدق معاناته وآلامه وتطلعاته وتقاليده وأحلامه ومبادئه وأخلاقه، ففي قصة عيد الفقراء التي نشرها في عام 1925م، أبان الاحتلال الإنكليزي للعراق وقيام الدولة العراقية وانعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية، نرى أن شوقي بهذه القصة القصيرة يوثق معاناة طبقة من أبناء الشعب العراقي، وبالتالي فإننا نستطيع أن نقول أن هذا الأديب هو مثال لفئة كبيرة من المثقفين العراقيين الذين عاشوا في نهاية العهد العثماني وبداية تكوين الدولة العراقية من البنات المجددين في الفكر والأدب والشعر العراقي في مطلع القرن المنصرم، نعم أن خلف شوقي كان بحق أنموذجاً فريداً للشخصية العراقية والبغدادية خاصة، مثل بحق كل أحلام وطيش ومعانات وتطلعات وأخلاق ومبادئ الجيل الذي عاش بينه، هذا الجيل الذي نستطيع أن نقول عنه أنه كان معتزاً بنفسه واثقاً من قدراته ملتزماً بكل أخلاقه متحملاً مسؤوليته واعياً في تصرفاته مستهزئاً ومندداً بكل الخروقات والتجاوزات الإنسانية التي كانت تفرض عليه من قبل الاحتلال وبعض المتعاونين معه.
وبعد فأنني أقول بعد قراءتي لمجموعة كبيرة من قصص خلف شوقي، أنه بلغ غايته في إيصال القراء إلى الضحك الطويل من خلال نكاته اللطيفة ومقالبه الخفيفة العجيبة والغريبة، وهو بلغ أيضاً في نفس الوقت غايته في إيصال القراء في بعض قصصه إلى حد البكاء والتعاطف مع أبطاله والشعور بالحسرة والندم، وهنا تبرز عبقرية هذا الكاتب الذي مثلما امتلك روح النكتة وخفتها، ووضع المقالب وطرافتها أمتلك أيضاً وببساطة وروعة نقل المعاناة والآهات التي تحيط به، وهذا إن دل على شيء فأنه يدل على إحساسه المرهف وروحه الفياضة الجياشة المتأثرة بمحيطها، المعبرة عن مكنونها بصدقه وقلمه السيال الذي سطر أروع وأحلى واطرف الصور الإنسانية العراقية والعربية.

مؤلفاته وكتبه
لقد ألف خلف شوقي عدداً من الكتب طبع بعضها ولم يطبع البعض الآخر فآل الأمر إلى ضياع مسودات غير المطبوع بعد وفاته فلم يعرف أحد عن مصيرها شيئاً، وأهم كتبه المطبوعة هي:
1- (قصص مختارة من الأدب التركي) قام بترجمتها لطائفة من أشهر أدباء الأتراك وقد قدم له محمد محمود وعبد الوهاب الأمين مقدمتين وافيتين- على رغم إيجازهما- عن فن القصص، وعن أدب القصة، ويقع الكتاب في نحو 180 صفحة وقد طبع الكتاب طبعتين الأولى سنة 1934 والثانية 1936 في القاهرة على نفقة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر، وعلى رغم ما يسود الكثير من قصص هذا الكتاب من روح السخرية والتهكم والفكاهة التي تناسب مزاج المترجم فقد وردت فيها قصص تمثل جانباً آخر لا يمكن أن يترك عيناً دون أن تستنزف آخر دمعة فيها كقصة (المعلم مهدي أفندي) وقصة (بائع الحب) التي جئنا بها ضمن نماذج من القصص لخلف شوقي عند حديثنا عن القصة على سبيل المثال لبيان سعة ومقدرة ملكة النقل والترجمة القصصية عند خلف شوقي.
2- الفلقة وهي من اقصوصات فكهية ومجموعة نوادر صدرت في رسالة صغيرة مر بها على بعض ما رأى وبعض ما سمع من المضحكات مروراً خاطفاً ممتعاً وقد تم طبعها بمطبعة النجاح في أواخر سنة 1938.
وفي غير القصة وغير مواضع الفكاهة ألف عدداً من الكتب وهي:
3- (قضية فلسطين) وهي مجموعة لسلسلة مقالات إنكليزية نشرت في جريدة (المورنينك بوست) قام بتعريبها خلف شوقي ونشرها تباعاً في جريدة الأوقات البغدادية ثم جمعها بعد ذلك وطبعها في رسالة بلغت عدد صفحاتها 74 صفحة سنة 1924 بمطبعة الفلاح ببغداد.
4- (زاد المسافر ولهنة المقيم والحاضر) وهي رسالة تحتوي على وقائع وحروب تاريخية حدثت في أواخر القرن الحادي عشر الهجري من تأليف الشيخ فتح الله بن علوان الكعبي، وقد قام خلف شوقي بتصحيحها وترتيبها والتعليق عليها وقد طبعت بمطبعة الفرات ببغداد سنة 1924.
5- (ذكرى سعد زغلول في العراق) وهي رسالة جمع فيها بعض ما قيل ونشر في الصحف والمجلات العراقية عن سعد زغلول زعيم حزب الوفد المصري المتوفى 23 آب 1927، وقد قدمها الدكتور محمد مهدي البصير وطبعها الناشر الكتبي عبد الحميد زاهد ويقع الكتاب في 185 صفحة، بمطبعة دار السلام ببغداد سنة 1927.
6- نقدات ملا نصر الدين وهو في ثلاث أجزاء طبع الجزء الأول والثاني (80 صفحة) بمطبعة الفرات سنة 1922، والجزء الثالث (80 صفحة) سنة 1924 في مطبعة العراق، وهو من منشورات المكتبة العربية (للمزيد راجع كتابنا مباحث في أوائل المكتبات والمطبوعات العراقية الصادر سنة 2001 عن مركز إحياء التراث العلمي جامعة بغداد).
7- مرشد العمال وأصحاب الحرف طبع سنة 1936 في المطبعة العربية وهو في 39 صفحة.
8- وساوس السلطان عبد الحميد، (ترجمة)، مطبعة العهد بغداد، 1932، 93 صفحة.
9- مائة فكاهة وفاكهة.

الكتب الضائعة
1- وأهم الكتب التي فقدت مسوداتها والتي تكاد تجمع كل قصصه الموضوعة وهي (سفينة نوح) إذ لم يبق منها إلا ما نشر في جريدة الدفاع سنة 1937، وجريدة الهاتف ولم يعرف عن مصير مسوداتها شيء بعد وفاته.
2- و (مائة فكاهة وفكاهة) وهي مجموعة فكاهات كان قد ألقاها من محطة إذاعة قصر الزهور ببغداد، ونشر بعضها في بعض الصحف.
3- وحقيبة الداودي- وكانت مجموعة من القصص والطرف والتجارب التي نشر منها بعض المواضيع هنا وهناك.
هذا إضافة إلى أنه قام بترجمة رباعيات الخيام من الفارسية إلى العربية شعراً وقد اطلعنا عليها أحد الفضلاء وأضفناها إلى ملاحق هذه الدراسة، علماً أنه كان قد نشر في العدد 86 من جريدة الهاتف ترجمة لبيتين من الشعر الفارسي بهذا النص:
ليس بدعا ان يحترق اهل
طهران فطهران بالصبابة تحرق
كل درب افق به الف شمس
كل يوم على البرية تشرق
ويذكر الأستاذ الخليلي عنها”لكننا علمنا بعد ذلك ان البيتين هما من تعريب السيد عباس شبر وان خلف شوقي هو الذي نقل له الأصل الفارسي نثراً فترجمه السيد عباس شعراً بناءاً على اقتراح شوقي".

وفاته
تميز خلف شوقي عن باقي خلق الله كون قلبه يقع في الجهة اليمنى، وبعد سقوط حكومة حكمت سليمان وتقاعده اصيب ببعض الامراض القلبية بسبب اضطرابات الدورة الدموية وتضخم شرايين القلب، والتي كثيرا ما كانت تؤدي الى تعرضه الى ازمات صحية وخاصة في السنوات الاخيرة من حياته، حيث كان يتم ادخاله الى مستشفى مير الياس الواقعة في منطقة العيواضية اذ عرفت هذه المستشفى واشتهرت كونها من اهم مستشفيات بغداد في تلك الفترة، ويعمل بها اشهر وامهر الاطباء الاختصاصين، وقد تسببت الازمة الاخيرة التي ادخل على اثرها الى المستشفى بعد عدة ايام عانى فيها ما عانى من الالام والازمات، وبعد ان عجز الاطباء عن انقاذ حياته مستنفذين كل الوسائل والاسعافات التي تقدم لمن يعاني حالته، فتوفى يوم الجمعة(ليلة عيد الاضحى المبارك) المصادف 2/2/1939. وقد شيع في اليوم التالي من قبل اهله واصدقائه من بيته في محلة البتاوين بالباب الشرقي من بغداد، ودفن في مقبرة سلمان باك قرب مرقد الصحابي الجليل سيدنا سليمان الفارسي (رضى الله عنه)،وقد ترك خمس ابناء من زوجته الوحيدة السيدة فخرية كامل كوثر كريمة احدى الاسر التركمانية الكركوكلية التي تزوجها عام 1920. والتي لم يتزوج بعدها وقد بقيت زوجته ترعى اولادها بعد وفاته وهم المرحومة صبيحة المولودة سنة 1923وهي بكر الاستاذ خلف شوقي والمرحوم صبيح المولود سنة 1924 والسيدة خالدة المولودة سنة 1925 (وهي الوحيدة الباقية على قيد الحياة من ابنائه) والمرحوم خالد المولود سنة 1929 والمرحوم ماجد المولود سنة 1932، وقد توفيت السيدة فخرية كوثر عام 1991.