عشرة ايام هزت العالم: قصة الثورة الروسية بقلم اشتراكي اميركي

عشرة ايام هزت العالم: قصة الثورة الروسية بقلم اشتراكي اميركي

عبد الإله النعيمي
تأتي الثورة البلشفية عام 1917 بالمرتبة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية بين الأحداث العظيمة التي استحوذت على المخيلة الأدبية في القرن العشرين. وأصبحت روسيا، ذلك الصندوق المقفل على الغازه، موضع تخيلات من كل صنف تحولت لاحقاً الى رفوف كاملة من كتب السيرة والتاريخ والجاسوسية وفي النهاية ألهمت جورج اورويل ليكتب روايته الشهيرة”مزرعة الحيوانات".

لكن الثورة الروسية كانت منذ البداية مادة مثيرة في اخبار العالم. إذ ليس هناك أشد اثارة من سقوط القيصر أو أقوى سحراً من انتصار البروليتاريا (هذه المفردة التي لم تعد قيد الاستعمال). وما زاد الثورة سحراً أن قادتها من المثقفين والثوريين من ابناء الطبقة الوسطى الذين بدوا عازمين على ترجمة النظرية الاشتراكية الى واقع لبناء مجتمع جديد.
وتوافد الصحافيون البريطانيون وااميركيون على بتروغراد (أصبحت لاحقاً لينينغراد والآن سانت بطرسبرغ) مركز ذلك الزلزال الذي تمثل بتطويح الاوتوقراطية القديمة. وكان بينهم اشتراكي شاب من مدينة بورتلاند في ولاية اوريغون اسمه جون ريد تخرج حديثاً من جامعة هافرد النخبوية بأفكار اشتراكية تلهبها عاطفة متقدة.
كتب ريد لاحقاً أن جامعة هارفرد جعلته وعدّة آخرين معه”ندرك أن هناك شيئاً ما يجري في العالم الخارجي الممل أشد إثارة من النشاطات الجامعية”حيث وجه وزملاؤه اهتمامهم لكتابات عقول تجديدية مثل اتش. جي. ويلز.
من هارفرد انتقل ريد الى نيويورك ليجرب حظه في الصحافة. وفي عام 1913 انضم الى اسرة تحرير مجلة”الجماهير”Masses التي ضمت اسماءً مثل جون دوس باسوس وآيدا تاربيل ولنكولن ستيفنز والكاتب المسرحي الراديكالي يوجين اونيل وكذلك الناشطة النسوية والصحافية لويز براينت التي تزوجها ريد عام 1916.
في مجلة”الجماهير”كانت عادة ريد ان تعتقله شرطة نيويورك بوصفه صحفياً مهنته البحث عن المتاعب. وحين سأم من استفزازات السلطات الاميركية ومضايقاتها قرر توسيع أفقه وتغطية الاختمار الثوري في العالم القديم والجديد على السواء. وفي عام 1917 سافر العروسان الى اوروبا وانتهى بهما المآل في مدينة بتروغراد مهد الثورة. ورأى ريد على الفور ان هذه فرصته الكبيرة. وبعد ان كان ينظم الشعر وينشره ويكتب بتعاطف عن الثورة المكسيكية، تفجر نثره الآن مستوحياً أُفق قيام ثورة اشتراكية عالمية. وكان ريد مأخذوا بما يشاهده من أحداث تصنع التاريخ امام انظاره.
اتسم الشهر الأخير من حكومة كيرنسكي أولاً بهبوط حصة المواطن الروسي من الخبز من رطلين في اليوم الى رطل ونصف ثم الى رطل واحد والى نصف رطل واخيراً الى ربع رطل، وفي الاسبوع الأخير اختفى الخبز تماماً. وتفاقمت اعمال السلب والجريمة بحيث لم تعد الشوارع أمينة. وامتد انهيار الحكومة المركزية الى تعطل كل الخدمات البلدية.
بعد هذا اللقاء الأول المثير بالثورة (ريد التقى لينين وتروتسكي ايضاً) عاد مع زوجته الى الولايات المتحدة حيث وقع ضحية دعاوى قانونية متعاقبة دافعها خوف السلطات الاميركية من البلشفية. وكانت حياة ريد في تلك الفترة لا تقل درامية عن دراما العالم الذي عاد منه. وصودرت كل أوراقه التي كتبها خلال زيارته لروسيا ولم يستردها إلا بعد سبعة أشهر. وفي تلك الايام اغتنم ريد فرصته لا سيما وان زوجته لويز براينت كانت على وشك ان تنشر كتابها”ستة أشهر حمراء في روسيا".
يتذكر رئيس تحريره في مجلة”الجماهير”ماكس ايستمان أن ريد اعتكف في مكتبه ليكتب قصة الثورة”في عشرة أيام". ويروي ايستمان ان ريد كان”منهكاً لم يحلق ذقنه، بَشَرته دهنية، لم يذق طعم النوم، وبدا نصف مجنون من ملامح وجهه الشبيه بحبة البطاطا، نزل بعد أن قضى الليل في العمل لتناول كوب من القهوة".
قال ريد لرئيس تحريره”ماكس، لا تخبر أحداً بأني أُسطّر الثورة الروسية في كتاب. لدي كل اللافتات والأوراق محفوظة في غرفة صغيرة وقاموس روسي وأنا أعمل طوال اليوم وطوال الليل. لم يغمض لي جفن منذ 36 ساعة. سأنتهي من الأمر كله في غضون اسبوعين ولدي عنوان للكتاب هو عشرة ايام هزت العالم. الى اللقاء، يجب ان أذهب. وبحق الله لا تخبر أحداً بمكاني".
كتب ايستمان أنه”ليست هناك انجازات كثيرة في الأدب الاميركي تضاهي ما فعله ريد هناك في تينك الاسبوعين أو ثلاثة اسابيع في تلك الغرفة الصغيرة مع تلك الأوراق المتكدسة مكتوبة بلغة نصف معروفة، ومتكومة الى السقف، مع قاموس صغير ذي صفحات مطوية الزوايا، مسلحاً بذاكرة وتصميم على أن يفي العمل حقه، ومخيلة جميلة ليرسم بها العمل حين تأتيه. ولكن ما أُريد التعليق عليه الآن هو الفرحة العارمة في عينيه المجنونتين ذلك الصباح. إذ كان يفعل ما خُلق له وهو تأليف كتاب عظيم وإعطاؤه اسماً كذلك هو عشرة أيام هزت العالم".
كان ايستمان مصيباً في وصفه. فإن كتاب”عشرة ايام هزت العالم عمل ذو ايقاع وصوت يضعه في خانة متميزة عن الجميع في وقت كان الريبورتاج كجنس من الكتابة الصحفية ما زال في طفولته"، على حد تعبير الكاتب روبرت ماكرام الذي عمل رئيس تحرير دار فيبر اند فيبر للنشر في لندن نحو 20 عاماً.
منذ آذار/ مارس 1917 حين أجبرت حشود العمال والجنود التي كانت تطرق ابواب قصر تافريتشيسكي مجلس الدوما المتردد على تولي السلطة العليا في روسيا، كانت جماهير العمال والجنود والفلاحين تفرض كل تغيير في مسار الثورة. وهي التي اسقطت وزير الخارجية بافل ميلييكوف الذي كان يريد منع انسحاب روسيا من الحرب. وكان مجلس سوفيت هذه الجماهير هو الذي اعلن شروط روسيا للسلام: لا ضم، لا تعويضات، وحق الشعوب في تقرير المصير. ومرة أخرى في تموز/ يوليو كانت الانتفاضة العفوية للبروليتاريا غير المنظمة التي اقتحمت قصر تافريتشيسكي هي التي طالبت بأن تتسلم السوفيتات كل السلطة في روسيا.
ريد لم يحاول قط أن يخفي ميوله وتعاطفه مع البلاشفة. وحين كان ينقل اخبار الثورة من روسيا تسببت مقالاته في إصدار قرار اتهام في بلده بالتحريض على الفتنة ضد مجلة”الجماهير”التي كانت تنشر تقاريره. وكتب”ان عجز الحكومة المؤقتة التي تتغير باستمرار وترددها، حقيقة لا يماري فيها أحد. وعاد البلاشفة الى رفع الشعار الأثير عند الجماهير وهو”كل السلطة للسوفيتات”وهم لم يفعلوا ذلك من اجل مصالح فئوية ضيقة لأن غالبية السوفيتات كانت في ذلك الوقت بقيادة اشتراكيين”معتدلين"، ألد أعدائهم".
تتسم كتابة ريد عن الثورة الروسية بالرومانسية والتعاطف مع البلاشفة بصراحة تاركاً عليها بصمة شخصية واضحة. فهو يكتب في”عشرة ايام هزت العالم":
"ما هو حتى أشد فاعلية ان البلاشفة تبنوا أماني العمال والجنود والفلاحين البسيطة البدائية، ومنها أعدوا برنامجهم الآني. وهكذا في حين ورط المناشفة والاشتراكيون الثوريون أنفسهم في مساومات مع البورجوازية فإن البلاشفة استحوذوا على الجماهير الروسية بسرعة. ففي تموز/ يوليو كانوا مطاردين منبوذين وبحلول ايلول/ سبتمبر كسبوا الى قضيتهم عمال المدن وبحارة اسطول البلطيق والجنود بالكامل تقريباً. وكانت الانتخابات البلدية في المدن كبيرة في ايلول/سبتمبر ذات مغزى: كانت حصة المناشفة والاشتراكيين الثوريين 18 في المئة بالمقارنة مع 70 في المئة في حزيران/ يونيو...”
تكتسب كتابة ريد عن الثورة الروسية قوتها من كونها صادرة عن”شاهد عيان". إذ كان ريد حاضراً في كل واقعة يرويها تقريباً. كان في الغرف والقاعات، في الشوارع والساحات، وكان يستمع الى السجالات ورأى بنفسه فوضى الثورة:
"في الليل كانت دوريات مسلحة تجوب الشوارع الهامدة، وفي زوايا الطرق كان الجنود وافراد الحرس الأحمر يتحلقون حول نيران صغيرة يضحكون ويغنون، وفي ساعات النهار كانت حشود كبيرة تتجمع على الأرصفة تستمع الى سجالات لا تنتهي بين طلاب وجنود ورجال اعمال وعمال".
دفع ريد ثمناً مأساوياً باهظاً عن تغطيته الفريدة للثورة الروسية. إذ كانت تنتظره حين عاد الى اميركا سلسلة من المحاكمات بتهمة التحريض على قلب النظام الرأسمالي. وكان شغفه بالبحث عن المتاعب شديد الوطأة على صحته النفسية والجسدية، وبدأ يعاني من الأرق والكآبة. وحين عاد الى روسيا للمشاركة في مؤتمر الكومنترن الثاني ممثلا عن الشيوعيين الاميركيين كان تدهور صحته بادياً بسبب الاسقربوط وسوء التغذية.
ريد الذي لا يستطيع أن يقاوم إغراء موضوع صحفي مثير، جر نفسه جراً وحضر مؤتمر الكومنترن في باكو. وكانت الرحلة منهكة بما فيه الكفاية لتدمير صحته المعتلة اصلاً. وحين عاد الى موسكو كان مصاباً بالتيفوئيد.
توفي جون ريد في 17 تشرين الأول/اكتوبر 1920 وشُيع تشييع الابطال قبل أن يُكرم بدفنه في حائط الكرملين.
وشاء الزمن أن يموت ريد شهيد قضية عظيمة بعد فترة قصيرة على نشر”عشرة أيام هزت العالم". وفي عام 1922 أُعيد نشر كتابه برثاء من لينين نفسه.
كتب لينين”بكل اهتمام وانشداد لم يتراخ قط قرأتُ”عشرة ايام هزت العالم". وأُوصي بلا تحفظ أن يقرأه عمال العالم. فهذا كتاب بودي أن أراه منشوراً بملايين النسخ ومترجماً الى كل اللغات. انه يقدم عرضاً صادقاً وحياً الى أقصى الحدود لأحداث ذات أهمية بالغة لفهم ما هي الثورة البروليتارية حقاً".
ما زالت شهادة ريد عما رآه بأُم عينه وسجله في”عشرة أيام هزت العالم”تشكل مرجع الكثير من التأرخات اللاحقة للثورة الروسية.