السلطاني وتمثلات  «العمارة المدنية» الإسلامية

السلطاني وتمثلات «العمارة المدنية» الإسلامية

محسن الغالبي
يهدي الدكتور خالد السلطاني كتابه الجديد بعنوان <القصور الأموية: تجلي”العمارة المدينة”الإسلامية وتمثلاتها> الى”البناة الاوائل وفنانيهم، الذين اجترحوا لنا مفهوم”العمارة المدنية”الإسلامية، مؤسسين بذلك الاجتراح احد تجليات منجز العمارة الإسلامية الحصيف، ومرسخينه في المشهد... والخطاب. والكتاب الصادر عن دار الاديب (عمان / الإردن)،

جاء بـ 464 صفحة من القطع الكبير (28 × 29.5 سم)، وبغلاف فني سميك. وتعد الموضوعة التى يتعاطى معها الكتاب، من المواضيع الهامة والرائدة في منجز العمارة الإسلامية، لكنها، مع الاسف، لم تحظ باهتمام كاف من قبل الدارسين العرب وحتى الاجانب، يتساوق مع اهميتها وريادتها. ونرى بانه قد آن الاوان، لتناول هذه الموضوعة المعمارية الرائدة والذكية، التى اغنت منتج العمارة الإسلامية بتنويعات تصميمية عديدة، ساهمت في اثراء الثقافة الانسانية واضافت الكثير الى الحضارة العالمية.

ومن أجل فحص إشكالية موضوعة الكتاب ومعاينتها بصورة موضوعية وشاملة، ارتؤي تقسيم متن الكتاب إلى فصول، طبقاً لخاصية”الثيمات”التي تعاطت معها تلك الفصول. كما أن وجهة نظر المؤلف جاءت متوائمة مع وجهات نظر الكثير من الدارسين القائلة بأن الحدث الإبداعي لا يأتي من فراغ، ما لم يكن قد سبقه وجود مثمر لما يسمى بـ”تراكم الخبر». كما أن”الانطلاق”السليم والصائب يتعين دوماً أن يبدأ من تلك النقطة التي توقف عندها الآخرون، مع الأخذ بالحسبان الحوافز الجديدة التى توفرها طبيعة المناخات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة الحاثة للابداع. إن إدراك قيمة المنجز المعماري المتحقق في عمارة القصور الأموية، ينبغي أن يمتحن في ضوء تأثيراته على ما تبعه من منتج تصميمي، مفصول عنه زمنياً. بعبارة أخرى، رتبت فصول محتوبات الكتاب بحيث تعكس بوضوح خلفيات الحدث الابداعي لمنجز القصور الأموية، وإدراك قيمة هذا الحدث الإبداعي في تلك العمارة، وتقصي تنويعاته الحاصلة في تطبيقات عمارة القصور لاحقاً، وتأثير ذلك الحدث على المسار التطوري للعمارة الإسلامية. إن دراسة شاملة، وموضوعية، تتبنى مثل تلك المقاربة البحثية كفيلة، في اعتقادنا، بتبيان غاية الكتاب وهدفه وأهميته وموضوعه. هذه الدراسة تعد كذلك إيماءة احترام وتقدير لذلك المنجز المهم والريادي الذي ندعو إلى دراسته وإعادة قراءته، وفق أدوات المقاربات النقدية التي توفرها مناهج النقد المعاصر. وانطلاقاً من تلك الرؤى، جرى تقسيم الكتاب إلى خمسة فصول. وتم تكريس الفصل الخامس (والأخير) لموضوعة تأثيرات المنجز التصميمي للقصور الأموية على الممارسة التى تبعت ظهور زمن القصور إياها. ونعتقد أن أهمية عمارة القصور لا تكمن في ذاتها فحسب، برغم أهمية حدث الظهور وريادته وفرادته، وإنما فيما يمكن أن يؤثر تصميمياً على الممارسة اللاحقة أيضاً. فالفكرة، أية فكرة، لا تصح بذاتها، وإنما في قدرتها على التأثير، وفي خلقها إمكانات للتواصل والتفاعل، واجتراح نوع من”تناصية»Intertextuality، تكفل ظهور مقاربة خلاقة، تتمرد ضد”مركزية”المعنى الواحد والفهم الواحد، وتكون قادرة على التأثير المستقبلي على سياق الممارسات المعمارية اللاحقة. وهذا الفصل معني في التعاطي مع تأثيرات عمارة القصور الأموية المفترضة على الممارسة التصميمية المماثلة التى ظهرت في مناطق جغرافية أخرى، بيد أنها تظل تدين لظهورها وتعزو تشّكل عناصرها التكوينية الأساسية إلى ذلك النشاط الرائد والمؤسس الذي اجترح، يوماً ما، في العصر الأموي. ويورد الكتاب أمثلة عديدة، ومن ضمنها”قصر الأخيضر”في العراق، حيث التأثيرات الواضحة والعميقة تبدو جلية على عمارة هذا القصر المبنى في بادية العراق، بعيد سقوط الدولة الأموية، وبدء نشوء الحكم العباسي. كما يتطرق الفصل إلى قصور سامراء (سر من رأى) التي تظهر بأسلوب عمارتها وتزييناتها الداخلية، تأثيرات نوعية عما أنتج سابقاً في العصر الأموي. أما تاثيرات تلك الممارسة الفطنة ونوعيتها التى ظهرت من قبل في العمارة الأموية، ونعني بها عمارة القصور، فقد تجلت بوضوح في”قصر الحمراء”بغرناطة في الأندلس، آخر قصور أمراء بني نصر الذين ظلوا دوماً (كما ظل أمراء الممالك الأندلسية) حريصين على التشبه بما أنتج في عهد أجدادهم حكام بلاد الشام السابقين.
تعود ملكية غالبية الصور الفوتوغرافية المنشورة في الكتاب للمؤلف شخصيا، الذي يكتب عن ذلك مايلي:”لقد عملت عليها وعلى تجميعها طيلة سنين عديدة، منذ أن شغفت بهذا الموضوع المعماري بصورة عميقة في منتصف التسعينات، عندما شاهدت ميدانياً، وللمرة الأولى،”قصير عمرة”ومنجزه المعماري والفني الرائع الذي لا يضاهي. ثم”سرى”ذلك الشغف بعدئذٍ إلى موضوعة”القصور الأموية”بوجه عام، فتعقبت أمكنتها وزرت مواقعها قدر المستطاع في بوادي الأردن ومدنه، وبوادي الشام وفي حاضرته العظيمة دمشق، عاصمة الأمويين وموقع نجاحاتهم المعمارية، وفي بادية العراق عند”قصر الأخيضر»، مرورا على قصور سامراء، عاصمة العباسيين”الأسطورية»، وصولا إلى الأندلس في إسبانيا. وقد صورّت تلك القصور مرات عديدة، حتى تسنى لي جمع لقطات متنوعة تخص تلك المواقع المعمارية طيلة عقدين من السنين في متابعة تظهر التغييرات التى طرأت على نماذجها المبنية. وفي أحيان كثيرة كنت أجلس أمام الأثر، أو عند حائطه أو في فنائه الوسطي، كي يمكنني أن استشعر بما يحيطني من روائع تصميمية، واستحضار توق المعمار المجتهد وطموحاته، مع عماله الحرفيين البارعين، لتحقيق تلك الأمثلة المعمارية المبهرة، التي تعد الآن فخرمنتج العمارة الإسلامية، ومنتج العمارة العالمية على حدٍ سواء. وليست مصادفة أن غالبية تلك الأمثلة المعمارية المثيرة، هي الآن ضمن لوائح <اليونسكو>، الواجبة الحفاظ والمشمولة في قائمة التراث الثقافي الإنساني. كنت (ولازلت!) أجد متعة كبيرة، وأنا في حضرة تلك الأمكنة، أتابع بشغف كبير نوعية المادة الانشائية المشغول بها الأثر، وأتأمل ملياً قرارات المعمار المتخذة، المرتكزة على خبرة واسعة تثريها وتغنيها معلومات عديدة عما تم انجازه سابقاً، لتصار إلى نماذج تصميمية، تحمل في ذاتها نوعاً من الجماليات الخبيئة. في بعض الأحيان أحس بتماهٍ خاص مع تلك الجماليات التصميمية، وأشعر بانتمائي لها وأنني ذو صلة وثيقة بها. لقد أحببتها كثيراً، وتماهيت معها ومع عمارتها. ولفرط تماهيّ مع المكان، كنت أحياناً، <أتحدث> مع شاغلي، تلك القصور من أمراء ورجال دولة.. ونساء جميلات، سَكنّ تلك الأحياز وبقيت أنفاسهن، مثلما ظلت أنفاس أولئك”الساكنين”مرابطة للمكان، برغم مرور هذا الكم الهائل من السنين، بل قرون عديدة من السنين!
لقد بينّا أهداف هذه الدراسة ومراميها، ورأينا أنها ليست سجلاً تاريخياً، أو توثيقياً لجميع القصور المبنية في العصر الأموي، بقدر ما هي قراءة معمارية لذلك المنجز المتشعب والبالغ الثراء. وبناءً على ذلك، اعتمدنا اعتماداً كبيراً على الحقائق والوقائع التي أضحت الآن معلومة ومتداولة عن تاريخ القصر الأموي وأبعاده ومقاساته وتعدد فراغاته ونوعية إشغاله، وغير ذلك من الأمور التي تطرق إليها الرواة الأقدمون والمختصون الحُدَثاء بإسهاب، في العديد من أبحاثهم وكتبهم. لقد اعتمدنا على هذه الحقائق كخلفية لازمة للحدث المعماري المدروس، باعتقاد أنها تمتلك صدقيتها، الأمر الذي جعلنا نختزل كثيراً من المصادر التي تكرر الحقائق الآثارية و»الكرونوغرافية”ذاتها، كما حاولنا الإشارة إلى المصادر العربية والأجنبية، حتى يتمكن القارئ، بسهولة، الرجوع إليها، والاستفادة منها في أبحاث ودراسات لاحقة سواء ما يخص هذا الجانب الإبداعي من العمارة الإسلامية أم في جوانبها الأخرى المتنوعة».