الاغتيال والسرد المُحكم  في رواية (مقتل بائع الكتب)

الاغتيال والسرد المُحكم في رواية (مقتل بائع الكتب)

صباح محسن كاظم
لعلّ القدرة السردية المُحكمة بتوظيف مأساة”مقتل بائع الكتب”عززت الفعل الإبداعي ليصل لعتبة البوكر. فرواية”سعد محمد رحيم”التي صدرت طبعتها الرابعة عن دار سطور ب219 صفحة ودخلت في ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية البوكر 2017،

قد اشتغل الروائي المبدع على تقانات كثيرة بأشكال تعبيريّة انصهرت وتداخلت فيه استحضارات واستدعاءات للمذكرات والرسائل والتأملات والصور للمجني عليه الشهيد المغدور بكاتم الصوت الكُتبي اليساري التوجه، والرسام، والعاشق، والسائح في جغرافيات عالمية ببلدان مختلفة بأوربا بين تشيكوسلوفاكيا وهروبه إلى باريس وتعرفه على جانيت، وليعود بعد عناء الغربة، والهجرة، وقد عاش صخب الحياة بملذاتها ليعود إلى مدينته بعقوبة ويعمل ببيع الكتب، تجسد السرد المُحكم من خلال تداخل التقطيع المشهدي،والحوار المسرحي، والتحقيق الصحفي بريبورتاج مثير عن سلوكيات المغدور، بنى السرد ونسقه جعل المُتلقي مشدوداً لمعرفة المزيد عن المقتول وعلاقاته بمدينته مع المثقفين ومن يرتاد مكتبته وكيف يسخر من سياسيي الصدفة،فتجربته السياسية لعقود وهجرته وآماله بالحرية يراها تتلاشى وسط أزيز الرصاص،وأصوات العبوات، وضجيج المناكفات بين السياسيين،والأجندة الخارجية التي يعملون على وفقها، والتي سببت بهدر الحقوق وضياع الحلم العراقي بوطن سعيّد لتفرز مواجهات يومية، وحرب طائفية طحنت وهرست وحطمت ومزقت خضرة الوجود.. ووأدت الأمنيات وأصبحت الحياة لا تطاق لذلك يهرب لاحتساء الخمر ويتهكم تارة ولا يُبالي من المصير المُرتقب في أجواء التكفير والتحريم لتختتم حياته بإطلاقة من رجل غامض كان يتعقبه وحتى من كان على مسافة منه لم يسعفه في أجواء العنف وفقدان الإنسانية الحقة!..
حبكة الروي جاءت عِبّر حكاية وصول صحافي مُحنك عمل بعدة صحف ويتقن حرفته يدفعه الفضول يدعى (ماجد بغدادي) إلى مدينة بعقوبة (60 كم شمال بغداد)، في مهمة استقصائية، تمتد لشهرين، كلّف بها من قبل شخص ثريّ متنفذ يقترب عمره عن السبعين حسب توقع الرواي من خلال اتصاله به، لم يفصح عن هويته. كان الاتفاق يقتضي من الصحافي تأليف كتاب يكشف فيه أسرار حياة بائع كتب ورسّام أغتيل غيلة أسمه”محمود المرزوق”في السبعين من عمره، و كشف ملابسات مقتله. والرواية تنحى منحى التحقيق البوليسي الذي يقوم به”الصحافي”من جمع المعلومات..الصور.. عن علاقات بائع الكتب ومعارفه وأصدقائه، وضمن التحري يعثر على دفتر دوّن فيه المغدور (محمود المرزوق) بعض يومياته، التي تؤرخ لحياة المدينة منذ سقوط الدكتاتورية وبدء عصر الحرية الذي كافح الشعب بكل قواه لإزاحة الكابوس لكن الفوضى التي خلقها الاحتلال ورجال وأزلام العهد القديم بددت الحلم.
يعثر على رسائل بينه وبين امرأة فرنسية تعمل عارضة فنون (موديلا) للرسّامين اسمها”جانيت”كانت تربطه بها علاقة حميمة خلال فترة لجوئه إلى باريس ؛ من هذه المصادر والقصّاصات وغيرها تتكشّف شخصية”المرزوق”وتظهر فصول من حياته المثيرة غير المستقرة، وعلاقاته وصداقاته مع النساء والرجال، وتجربته السياسية في وطنه، في ص15 في بيت مصطفى كريم بعد الغداء : أخرج مصطفى كريم من محفظته الجلدية القهوائية اللون ثلاث صور وناولها لي.اثنتان ملوّنتان، حديثتان نسبياً، وواحدة قديمة بالأسود والأبيض. وكلّها لمحمود المرزوق...) ومن ثم في الغربه ومنفاه.حياة ب7 عقود بين الكفاح والسجون فمحمود المرزوق هذا سليل عائلة برجوازية تمرد عليها وآمن بالماركسية ولكن دون انتماء حزبي بل آمن بالأفكار والمد اليساري؛ وعاش تجربة السجن السياسي وكان أحد السجناء الذين تم نقلهم بما يعرف بـ ((قطار الموت)) وقد حشر بعد شباط 1963مع نخبة من الضباط والسياسيين في عربات حديدية مخصصة لنقل البضائع، كتب عن الحادثة عشرات المؤرخين ودخلت أهم السرديات بالعراق كرواية ممر إلى الضفة الأخرى لأحمد الباقري.. حيث يذكر الجميع إنه تم إغلاق أبواب عربات القطار بإحكام مع الإيعاز إلى سائق القطار بإبطاء سيره، وكان الهدف من وراء ذلك، القضاء على هذه النخبة السياسية المعارضة وكان يمكن لذلك أن يحدث لولا شهامة سائق القطار، وهذا حدث تعيد الرواية توثيقه. كان مخططا لسجناء قطار الموت، وهو منهم، أن يموتوا وهم في القطار، وإذا لم يموتوا، وهذا ما حدث، فسيتلقفهم سجن ((نقرة السلمان)) الموحش والصحراوي الذي قضى المرزوق خمس سنوات فيه، يتحدث عنه.. وعن الحاج منصور الهادي زميله في السجن ويبدو أنه لا يحبه، فيقول بص 103 : ((كان المرحوم مثيرا للغط.. بطلا على طريقته.. بطل من غير حروب ودماء.. بطل من ورق)) ويتحدث عن الجانب الخفي في سلوك المرزوق خلال سنوات السجن الخمس ومنه أنه حفظ القاموس الانكليزي عن ظهر قلب خلال تلكم السنوات.
لقد برع”سعد محمد رحيم بوصف تلك الرحلة والسجن ولحظاتها الشاقة بحوار شيق رغم مرارات الألم في تلك الظروف..
في فصل الرواية التاسع ص211 النهايات مفتوحة دائماً.ليست ثمة نهاية أكيدة يُعتدُّ بها. وكل شيء يجنح لمناكدة أفق توقعاتنا..تنقطع فاتن عن الاتصال بي ليومين. هاتفها مغلق، ولا أعرف كيف يمكنني أن أصل إليها.لا أعرف عنوان بيت أهلها...) ويستمر برواية المأساة اليومية بانفجار سيارة مارة بساحة الطيران ليستشهد ابن خالتها المهندس عمّار المار بالمصادفة مع عمال المسطر وهم ينتظرون العمل فعجل بهم الموت إلى القبور..
إجمالاً حقق الروائي الحبكة بالسرد ليخرج لنا برواية تحكي وقائع وجودنا اليومي. فقد دونت دار سطور كلمة من 8 أسطر تحمل مغزى ورؤية على غلاف الكتاب رؤية الناقد د-حسن سرحان : (سعد محمد رحيم روائي قابل للتجدد لأنه كاتب بارع وروايته الأخيرة مقتل بائع الكتب شهادة كبيرة على تجدّده وبراعته وتمكّنه من صنعته،وامتلاكه لأدواته الفنية ومقدرته الإبداعية الممتازة التي تتجلى في حيازته لاستراتيجيات خاصة صارت اليوم وبعد نضوج تجاربه الكتابيه تمنحه القدرة على مناورة قوانين ومقتضيات بني القص المستقرة التي رضخت لها، باستلام كبير، معظمُ نماذج روايتنا العراقية الراهنة.)