عبد الفتاح ابراهيم في مدينة الناصرية

عبد الفتاح ابراهيم في مدينة الناصرية

سلمان رشيد محمد الهلالي

وصف الاستاذ المؤرخ المعروف حنا بطاطو في كتابه (العراق) - الكتاب الثاني - مدينة الناصرية بالقول (انها البلدة المشهورة بروح الحرية التي لاتقهر) ويبدو انه استنتج هذا الوصف ليس بسبب الثورات والانتفاضات والتمردات العشائرية التي كانت تحصل فيها ضد الحكم العثماني والعهد الملكي فحسب , وانما بسبب الروح الثورية التي يتميز بها المجتمع والنخبة المتعلمة والمثقفة

(الانتلجنسيا) على حد سواء , والذي تجلى بتعدد وشيوع التوجهات السياسية والفكرية التي ولدت في هذه المدينة , فبالاضافة الى بروز القيادي الماركسي والتنظيمي المعروف يوسف سلمان يوسف (فهد) واخيه داود سلمان يوسف وحسين محمد الشبيبي (الذي اشيع خطا ان ولادته في النجف) وانتشار اول المنشورات التي تحمل الشعارات الماركسية فيها , فضلا عن بروز التوجهات والشخصيات القومية الثورية والمتمثل انذاك بفؤاد الركابي - اول امين سر لقيادة قطر العراق لحزب البعث - وقريبه عبد الله الركابي وحازم جواد وصديقه معاذ عبد الرحيم , شهدت مدينة الناصرية ايضا ولادة اهم منظر للتيار الليبرالي والاصلاحي في العراق وهو الاستاذ المرحوم عبد الفتاح ابراهيم.

يعد الاستاذ المرحوم عبد الفتاح ابراهيم السياسي العراقي الوحيد الذي عاصر اربعة انظمة سياسية مفصلية في تاريخ العراق المعاصر , فقد عاصرنهايات الدولة العثمانية والعهد الملكي 1921 – 1958) والعهد الجمهوري الاول والثاني (1958 – 2003) والنظام السياسي الديمقراطي بعد السقوط والاحتلال الامريكي عام 2003.
ولد عبد الفتاح ابراهيم في مدينة الناصرية عام 1904 وهو من عائلة المدرس الكيلانية المعروفة , فقد عين والده اماما او واعظا في جامع فالح باشا السعدون , ودرس المرحلة الابتدائية هناك , وشهد فيها اجواء الحرب العالمية الاولى وحالات الاضطراب والتوتر بعد دخول الدولة العثمانية فيها , وقال عن هذه المرحلة من حياته (ان الناصرية ستبقى ماحييت نابضة في ذاكرتي) , فقد شارك والده مع حركة الجهاد التي اطلقها المجتهدون والمراجع في النجف عام 1914 وذهب للقتال والتحريض في البصرة , الا ان خسارة المجاهدين والعشائر امام المدفعية الانكليزية ادى بهم الانسحاب الى الناصرية , فودع ابراهيم المدرس ولده عبد الفتاح قائلا له (دير بالك على اهلك , دير بالك على نفسك) وترك عائلته فيها وسافر الى الاستانة , ويبدو ان العائلة لم تبق طويلا فيها , اذ سرعان ماعادت الى بغداد. واكمل دراسته العليا لاحقا في الجامعة الامريكية في بيروت , ثم في الولايات المتحدة الامريكية , وعاد الى الوطن واسس جماعة الاهالي الليبرالية المعروفة مع مثقفيين اخرين عام 1932, ثم جمعية الاصلاح الشعبي بعد انقلاب بكر صدقي عام 1936 والرابطة الثقافية عام 1943وحزب الاتحاد الوطني في عام 1946 والحزب الجمهوري في عهد عبد الكريم قاسم الذي دعم ثورته بقوة ضد العهد الملكي , وانشغل خلال هذه المراحل بالتنظيرالسياسي والكتابة الفكرية ولم يتسلم منصبا وزاريا في حياته , لانه كان مخلصا ومبدئيا حقيقيا. ونشر بهذا المجال العشرات من الكتب التاريخية والفكرية , واعتبر المؤسس الاول لعلم الاجتماع العربي بعد اصدار كتابة (مقدمة في علم الاجتماع) عام 1939, ترك العمل السياسي بعد انقلاب شباط 1963 وتسلم الاحزاب القومية السلطة في البلاد على مدى اربعين عاما , انزوى عن الاضواء حتى وفاته في تموز عام 2003 عن عمر ناهز (99) عاما.
لانريد الدخول في استعراض حياة عبد الفتاح ابراهيم لان اغلب الدراسات التاريخية العراقية المعاصرة قد ذكرته , وكتبت عنه اطروحة دكتوراه من قبل سليم حسين ياسين التميمي في جامعة البصرة عام 2001 تحت اشراف الدكتور فاروق صالح العمر, ولكن الذي يهمنا هو المذهب السياسي والفكري له : هل هو ليبرالي ام ماركسي التوجه؟؟ في الواقع ان عبد الفتاح ابراهيم هو ليبرالي العقيدة والفكر والسلوك - رغم ان اغلبية المؤلفات تذكر انه ماركسي - الا ان كتاباته ومواقفه السياسية والتنظيمية تشير الى ليبراليته , بل هو اهم واكبر منظر ليبرالي عراقي.. وقد تتبعت جذور اتهام ابراهيم بالماركسية , ووجدت ان الامر يعود الى منافسه السياسي المعروف كامل الجادرجي الذي انضم الى جماعة الاهالي لاحقا , واراد قيادتها واستغلالها سياسيا , ولكن عبد الفتاح ابراهيم رفض ذلك , فاشاع الجادرجي ان الاخير ماركسي , بقصد تحريض السلطة عليه ونفور اعضاء الجماعة منه , وتلقف الامر دون وعي المؤرخ المعروف عبد الرزاق الحسني وادرجها في كتاباته ومؤلفاته , ثم ذكرها عبد الرزاق مطلك الفهد في رسالته الجامعية في القاهرة عن الاحزاب العراقية , وهكذا انتشرت في باقي الكتابات والدراسات الاكاديمية التاريخية والفكرية , فيما الواقع ان عبد الفتاح ابراهيم ليبرالي عراقي مع توجهات اشتراكية فابية وشعبوية معتدلة , وهى توجهات لاتتناقض مع الليبرالية ابدا , لان الليبرالية فضاء معرفي كبير يستوعب جميع التوجهات الفكرية الفرعية. فضلا عن ذلك ان الدراسات الاكاديمية والمعرفية والايديولوجية في العراق والتي تعتمد المنهج القومي والثوري اليساري , كانت قد تبنت مبدا تهميش الفكر او الاتجاه الليبرالي كليا في المناهج والدراسات الاكاديمية وربطها مع الراسمالية والاستعمار, واصبحت خلال عقدي الستينات والسبعينات سبة وعار عند االانتلجنسيا العراقية والعربية , واستعملت مفردة اخرى مغايرة بدلا عنها وهى الديمقراطية , كما نجد ذلك في عنوان اطروحة الدكتوراه لعامر حسن فياض (جذور الفكر الديمقراطي في العراق الحديث) رغم انه يتناول الفكر الليبرالي في البلاد , الا انه وكما يبدو قد رضخ للنسق القومي – الحكومي بهذا الصدد , واستعمل مفردة (الديمقراطي) بدلا من (الليبرالي) , مع التاكيد ان الاطروحة تعد من اهم الاطاريح الاكاديمية في العراق.